النزاع القائم في عالمنا العربي والاسلامي بين تيار علماني ذي خلفية يسارية مادية وبين تيار اسلامي ذي خلفية اخوانية وسلفية في المنطقة السنية وذي المرجعية النجفية أو المشهدية في مناطق النفوذ الشيعي ,لايمكن النظر اليه اطلاقا بعين الانتصار لهذا الطرف أو ذاك ,فليس كل مايقوله اليساريون يأخذ على أنه شر شيوعي محض وليس كل مايروج له الاسلاميون ينبغي النظر اليه على أساس أنه عين الوحي والتسديد الالهي. واذا كنت أتفهم الى حد كبير حجم حساسية هذه الأمة وشعوبها تجاه الطروحات المنبتة عن قيم الهوية والايمان ,فانني بلا شك أجد نفسي مبهوتا لانفصام هذه الأمة عن قيم العلم والعصر وسباق التقنية والنهوض الحقيقي والنفوذ في أقطار السماوات والأرض. بتبسيط مطلق للأمور فان عدم مجاهرة اليساري بلاأدريته وانكاره لعوالم الغيب,يعد فهما ذكيا منه لخطورة أن تدرك شرائح واسعة من شعوب المنطقة لخلفيته المادية الجدلية التي تستند الى قاعدة "لا اله والحياة مادة" التي أسس لها ماركس في اطار نظري وفكري وايديولوجي أوسع ,كما أن عدم الحاح كثير من الاسلاميين العرب والأعاجم على قضايا الحدود والقصاص والالتزام بأحكام الارث واباحة تعدد الزوجات يعد فهما وادراكا ذكيا منهم لخطورة التعجيل بطرح هذه القضايا في زمن هيمنت فيه مقولات القيم العالمية لحقوق الانسان وسطت فيه دول عملاقة نافذة على الخطاب الفكري والسياسي الكوني . اليساريون يمارسون التقية الكلامية في قضايا الايمان وتراهم يتدافعون الى اللهج بذكر الله ,الى الحد الذي تراهم يتزاحمون فيه على الاستشهاد بايات القران الكريم والحديث الشريف في اطار مقولة تحديث النص الديني واخضاعه الى روح التجديد والاجتهاد ومواكبة روح العصر ,والاسلاميون يقحمون بحق وبغير وجه حق النص الديني في صراعهم الفكري والسياسي مع العلماني الى الدرجة التي يصبح فيها صلح الحديبية وغزوة بدر وفتح مكة حوادث من السيرة يمكن تطبيقها على نفس الحادثة السياسية في أكثر من بلد عربي واسلامي,حيث تتصدى الجماعات الاسلامية الى تبرير نفورها من السلطة بتوفر شروط غزوة بدر ,في حين تتدافع أخرى الى اعلان مقتضيات الهدنة من خلال تأويل سياسي عجيب يعتمد أسلوب التوظيف والاسقاط على حيثيات صلح الحديبية ! التيار اليساري يمارس التقية السياسية من خلال لي عنق النص الديني الى الدرجة التي يلبس فيها على الناس مواضع الحلال من الحرام ,والاسلاميون يعتمدون منهج الكثافة في الاستشهاد النصي الى الدرجة التي نخال فيها أنفسنا أمام صحابة جدد عاشوا بين ظهراني المصطفى صلى الله عليه وسلم . لم تكن الأنظمة السياسية العربية أو التي تحكم أطراف العالم الاسلامي هي الأخرى بمعزل عن هذا التهافت على تأويل النص المقدس وتحميله مالايحتمل ومن ثمة اخراجه من سياقه التاريخي الخاص ,حيث ترى الأنظمة المحافظة فيها تؤول النص الاسلامي قصد تحريم قيادة السيارات على المرأة وحقها في دخول البرلمانات والمشاركة في الحياة السياسية بوجه عام ,في حين تعمد أنظمة أخرى الى تبرير نهجها المعادي للتدين والموغل في الاستئصالية من خلال البحث عن الشاذ من النصوص وحمال الأوجه منها وعن تجار الفكر وهشيشي العلم وناقصي الورع من أجل تبرير حملتها على الحجاب أو تبرير اشاعتها لمظاهر الانحلال الخلقي والديني تحت مسمى التسامح والاعتدال والوسطية ومواكبة العصر ... وغير بعيد عن الأنظمة تطالب الحركات الاسلامية حكوماتها بالتقيد بفترات رئاسية معينة وأخر برلمانية محددة في حين يقبع قادة هذه الجماعات على رأس حركاتهم وأحزابهم منذ عقود متتالية دون أن يحدثوا أنفسهم بالتداول الحقيقي على السلطة وعدم العودة اليها وذلك على ضوء قيادتهم لأجيال متتالية الى السجون والمنافي وتسببهم في اجهاض تجارب التحول الديمقراطي في أكثر من قطر,ولعلهم بلا شك يتقاسمون في هذا الموضع المسؤولية مع حكوماتهم في ادخال المؤسسة الدينية ورجالاتها في معركة تجاذب أدت الى اجهاضها واضعافها كما هو حال المؤسسة الزيتونية في تونس اليوم والتي لم يعد لها من البريق الفكري والعلمي معشار ماكانت عليه في مرحلة محمد الصادق بسيس وزين العابدين السنوسي ومحمد النيغر وحسن حسني عبد الوهاب والخضر حسين والطاهر بن عاشور وغيرهم من مئات الأعلام الذين زخرت بهم البلاد على حقبة الاستعمار الفرنسي وبداية مرحلة الاستقلال. مسؤولية الأنظمة العربية تبقى مركزية في ادخالها للمساحة الدينية المقدسة وسط هذا التجاذب الخطير ,ولعله بدخول الكثير من مكوناتها الرسمية في لعبة الحرب الباردة بين قادة البيت الأبيض وقادة الكرملين ,سمحت لرجالات العلم الديني والشرعي بموالاة هذا الطرف أو معاداة الطرف الاخر على خلفية التصدي للالحاد وايقاف الزحف الشيوعي أو على العكس من ذلك بدعوى تقدمية الاسلام المادية واشتراكيته في الرؤية الاقتصادية,وهو ماعرفته المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية والخليج عموما عبر تعبئة المؤسسة الدينية من أجل التصدي للزحف الأحمر على المياه الدافئة أي منطقة الخليج العربي ,أو عبر تشجيع القائد الراحل جمال عبد الناصر لنمط من الخطاب الديني الأزهري الذي استمر داعيا للوحدة والاشتراكية-دون الحرية طبعا- طيلة فترة تحالفه مع المعسكر الشيوعي ,ليصبح شيخ الأزهر بوقا لمقولات مؤسسة الأمن المركزي بالقاهرة , غير أننا لانستثني من رجالات مؤسسة الأزهر العظيمة علماء أكابر وشيوخ علم أفاضل حافظوا على مكانة وشرف العمامة الأزهرية ليرسموا بذلك طريقا ثالثا غاب عن بلاد العرب والمسلمين طيلة عهود مايسمى بمرحلة الاستقلال. الطريق الثالث يكون بالابتعاد عن التوظيف السياسوي للنص الديني : بلا شك أن للقران الكريم والسنة النبوية الثابتة والمطهرة وقعا عظيما على مهج الناس وعقول الجماهير , وهو مايعني أنه يتحتم على الجميع أنظمة سياسية ومعارضات علمانية واسلامية ونخب وجماهير احترام خصوصية النص الديني وأحكامه المطلقة والثابتة والشرعية وذلك عبر الاحتكام النزيه والصادق والعادل الى ماهو قطعي الورود والدلالة ,أي مااعتبره الفقهاء نصا محكما غير قابل لوجوه عدة من التأويل سواء تغير الزمان أو تلون المكان ,وهو مايعني أن تقوية المؤسسات الاسلامية المتخصصة عبر تفريغ أهلها لطلب العلم وابعادهم عن الولوج في الخصومات السياسية ونذرهم للتعبد بالتعمق في علوم الفقه والأصول والتفسير والحديث والبلاغة وعلوم اللغة نحوا وصرفا ولسانيات ,مع التعمق في مباحث تحقيق المناط وتنزيل النصوص بحسب مايحدث للناس من أقضية وحاجات ,ثم التأسيس لمراكز البحث العلمي والديني المتخصص والمحايد والنزيه بعيدا عن أشكال التوظيف والاسقاط السياسي ,مع ارساء أشكال عمل مؤسساتي تجعل علوم الدين منفتحة على علوم الدنيا ومنجزاتها المعرفية الحديثة ,كل ذلك من شأنه أن يجنبنا سطوة الحركات التي تمارس ألوان الاسقاط والتوظيف للخطاب الديني في بعد تام عن الأخذ بناصية العلم وسلطان التقوى ومنطق التمييز بين الواقع المحلي المعاصر والواقع التاريخي ذي الخصوصية التبشيرية والدعوية التي اقتضتها قيم نفي الشرك ومحاربة التأله الامبراطوري على مساحات واسعة من الخارطة العالمية على عهد الأكاسرة والأقاصرة. ان هذا لايعني اطلاقا عدم الحفاظ على المرجعية الحضارية الاسلامية في التوجيه والتأثير والترشيد للخطاب الرسمي والمعارض ,ولكن كل ذلك لاينبغي أن يكون بمعزل عن وجود مؤسسات دينية قوية تجمع بين عمق الأصالة ومقتضيات التحديث وتتمتع بمكانة مؤسساتية مستقلة عن سلطان الأنظمة والجماعات وهو مايجعل منها هيئة تحكيم في القضايا الخلافية المستشكلة والتي كثيرا ماتثير جدلا دينيا بين غير المؤهلين في الخوض في النص المقدس من الرسميين والمتحالفين معهم وبين الديماغوجيين الذين يثيرون عواطف الناس باستعمال النص الديني دون مراعاة لقيمة التخصص ودون تنبه لقوله تعالى "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون " حرر بتاريخ 20 ذو القعدة 1427 ه-10 ديسمبر 2006 *كاتب واعلامي تونسي ومدير صحيفة الوسط التونسية :