يشهد الله أن الموضوع قبيح في كلياته وتفاصيله، والعاقل يتردد ألف مرة عن الخوض فيه، إلا أن خطاب السيد حسن نصر الله مساء الخميس الماضي، والذي كان عصبيا ومتوترا قد فتح الجرح، ومن حيث لا يتوقع استخدم عيارا طائفيا ثقيلا، ولا بد والأمر ذاك من حديث صادق لتنظيف هذا الجرح، وهو حديث موجه للعقلاء. "حزب الله" اللبناني له رصيد سياسي راكم معظمه في إطار ثقافة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. وان كان جذعه الرئيسي شيعيا فقد حشد بسبب ثقافة المقاومة آخرين من خارج الطائفة لتأييده، سواء في لبنان وبالتأكيد خارجه. إلا أن هذا الرصيد من التأييد يُستنزف الآن وبسرعة بسبب هذا النوع من الخطاب، وأصبح يصرف منه على مشروعات سياسية خاسرة، قد تؤدي أولا إلى انحسار المؤيدين من خارج الطائفة، ومن ثم الى انحسار اكبر داخل المؤسسة الحزبية نفسها. والتفاصيل واضحة المعالم وظهرت جلية في الخطاب الذي ألقاه السيد حسن نصر الله الأسبوع الماضي. لقد كان الخطاب من حيث الشكل غاضبا ولم يخلُ من التناقض سواء في صلبه أو بمقارنته بمواقف سابقة معلنة من "حزب الله"، قريبة إلى الذهن. مجموعة من القضايا تبرز في الخطاب اللاهب تحتاج إلى نقاش موضوعي ألخصها في سبع نقاط مركزية: أولا : اللوم، بل التهديد للعرب، فقد تبنى الخطاب لهجة فيها شكل من أشكال التهديد للعرب، بل ذكر بعضهم على وجه الخصوص، وفي الوقت نفسه أشار في أكثر من مكان إلى استعداده للمثول أمام "لجنة عربية محايدة" للتحقيق في هذا الموضوع أو ذاك. ويبدو للمتابع أن ليس هناك قاعدة سياسية واحدة للرفض والقبول بدور عربي في هذا الموضوع، وهو التدخل السلمي العربي، رغم أن هذا التدخل مبني، في الغالب، على قاعدة الحفاظ على لبنان. ثانيا: القضيتان الأخطر اللتان ظهرتا في الخطاب هما: "تخوين فؤاد السنيورة" وإخراجه من الوطنية، هو وقيادة الأكثرية اللبنانية، وفي صلبها السنية اللبنانية، والثانية اتهامه بعض الأجهزة الأمنية، بالتجسس عليه أثناء الحرب الأخيرة، وهي أجهزة كانت تابعة لسني آخر هو احمد فتفت. وكلا المتهمين سنيان من خمسة فقط في الوزارة "الخائنة" وكان هناك خمسة من الشيعة ومثلهم من الموارنة (نقصوا واحداً أخيرا) فالوزارة الحالية لبنانية وليست سنية!! هذه الاتهامات بمجملها توصل إلى "إباحة الدم" والقتل السياسي المعنوي، وكان أجدر، لو كان ذلك حقا، أن ينسحب "حزب الله" من الحكومة بمجرد علمه بذلك، لا أن ينتظر إلى أن تضع الحرب أوزارها . والكل يعلم أن الطائفة السنية هي الوحيدة التي لم تخض الحرب الأهلية المدمرة السابقة في لبنان ولم يعرف لها كغيرها من الطوائف، أية ارتباطات بميليشيات مسلحة كانت تضج بهم الأرض اللبنانية في سنوات الحرب، كما أنها آوت كغيرها أيضا، مهجري الحرب من الجنوب، وقدمت الحكومة اللبنانية جهداً دولياً للحفظ على البلاد، كل ذلك لا يبرر القول إنها "حكومة قتلة" أو حكومة "فيلتمان" إن ذلك كثير على أي خطاب سياسي.. سُنّة لبنان في الغالب هم أهل مدن يتعاطون التجارة، عروبيون تاريخيا ومسالمون في غالب الأحوال. هذا الاتهام المفتوح والقاسي في حق زعمائهم يستنزف من الرصيد القائم ل"حزب الله" لدى آخرين اعتقدوا انه تجاوز هذا المنحى الطائفي الضيق. ثالثا: أعلن الأمين العام في غمرة من الحماسة أن "حزب الله" لا يريد أي مقعد له في الحكومة المقبلة، بل سوف "يتبرع" به لحلفائه، وهو أمر يبدو نبيلا، إلا أن الحلفاء إما لديهم بعض القواعد، فهم لا يحتاجون إلى تبرع من هذا النوع، وإما فاقدون أية قاعدة في الشارع، وتالياً يعتمدون على نصرة الحزب الذي يستهدف في خطوة كهذه امتلاك "آلة التوجيه عن بعد". فالحزب في هذه الحالة، إن حدثت، يستفيد من كل الايجابيات، ويحمل السلبيات لتلك المجموعات التي يمكن التخلص من عبء التحالف معها في أية لحظة، حيث تعتمد على "الصدقة السياسية" للحزب. وبسبب ضعف هذه القوى يُستفاد من وجودها بشكل اكبر من وجود وزراء للحزب في الحكومة!! إلا أن العرض قد يبدو للبعض من السذج عملاً ايثارياً كبيراً في الظاهر! ولكنه غير قابل للتحقيق، فالدستور اللبناني يحدد عدد الوزراء لكل طائفة. يذكّرنا موقف "حزب الله" في استهلاك رصيده السياسي وهذا فقط للمقارنة وليس للحصر، بموقف آخر للمرحوم جمال عبد الناصر. فقد كان رصيده السياسي في الشارع العربي لا يشق له غبار. وكان عندما يقول للجماهير "توقعناهم من الشرق فقدموا من الغرب" يؤخذ القول على انه فتح في الإستراتيجية لا يشق له غبار. إلا أن ذلك الرصيد على فقر مقولاته سرعان ما انكشف للشارع، و تبين أن صواريخ "القاهر" و"الظافر" ليست أكثر من خشب مسندة، وخرافة سرعان ما انكشفت، واضمحل ذلك الرصيد، عدا خسارة ارض عربية ما زال العرب يحاولون استعادتها. وقابلت الجماهير نفسها التي هتفت في الشارع لتلك المقولات، قابلت السيد ريتشارد نيكسون بالورود في وقت لاحق. رابعا: ما زال بعضنا يتذكر خطابات السيد نصر الله إبان الحرب الأخيرة، وكانت تركز على طلب ملحاح "بوقف النار"، كما أن السيد نفسه بعد وقف النار بقليل قال ما معناه: "لو كنت اعرف أن كل هذا الخراب سوف يحل بلبنان لما أقدمت على الحرب". وكثيرون عظمت في أعينهم تلك التصريحات على أنها شجاعة، وهي بالفعل كانت كذلك. فكيف يستوي القول اليوم إن "بعض أهل الحكم اللبناني" قد طلب من أميركا التوسط لدى إسرائيل لشن حرب على "حزب الله"، لان الحكومة لا تستطيع نزع سلاحه؟! كيف يمكن أن تنسجم هذه المقولات وأمثالها مع العقل السليم؟ وكيف يمكن قبول الفكرة المبطنة أن "الحرب كلها كانت بإيعاز من أهل الحكم السنّة"، وان الحكومة اللبنانية تجد من يشيد بها ويدافع عنها في إسرائيل، واستخدام ذلك كقرينة يعتدّ بها؟ لقد تحدثت تقارير إسرائيلية كثيرة عن "حكمة ضبط النفس في دمشق" إبان الحرب وقبلها، وهذا لا يعني لأي عاقل أن دمشق كانت، ولو من بعيد، قابلة أو راغبة في "نصر إسرائيلي". هذا النوع من التعميمات المفصولة عن منطقها قد تبدو شعبوية بما فيه الكفاية لإثارة الهتاف، ولكنها لا تقدم للعقلاء أي زاد معرفي أو سياسي له معنى. أما التأييد الأميركي لحكومة السنيورة فلو كان مثلبة لما طلبت عواصم شرق أوسطية بشدة وإلحاح فتح باب الحوار معها. وأين المشكلة حتى في ذلك التأييد، فهي حكومة شرعية منتخبة، و من الطبيعي أن تحصل على تأييد من عواصم العالم بما فيها باريس وواشنطن حتى موسكو وبيجينغ. خامسا: دون الدخول في تفاصيل كثيرة فإن "حزب الله" هو المعنيّ الأساسي بكل هذه المعارضة الفياضة في الشارع اللبناني، والباقي تفاصيل، فلا السيد ميشال عون ولا سليمان فرنجية الحفيد ولا الأحزاب الصغيرة بقادرة على إخضاع لبنان بأسره على ركبتيه، فقط "حزب الله" هو القادر. وهو الذي تستغيث برموزه القوى المختلفة عند الضرورة للحشد، ولكنه حشد يأذن بتآكل رصيده. وعلى الجانب الآخر فإن أهل السنة في لبنان هم القادرون على "التشبيك" مع الطوائف الأخرى، المارونية وبقية المسيحيين، والطائفة الدرزية، بسبب نصاعة عملهم السياسي وبراءتهم من الحروب الأهلية. وإطاحة سنّة لهم قواعد كبيرة في محيطهم للإتيان بمشدوهين لا يملكون أي رصيد شعبي من اجل تسييرهم عن بعد لا يحقق لا انتصارا ولا استقرارا. تلك المعادلة التي يجب التفكير في التخلص منها. سادسا: القاعدة الرئيسة للمعارضة الحالية في لبنان هي "حزب الله" ويبدو أنه يسعى إلى تحقيق هدفين، الأول اطاحة المحكمة الدولية لعدد من الأسباب بعضها معروف الآن وبيّن، وبعضها لا زال غامضا، ولكن الرغبة أصبحت واضحة، وربما لها علاقة بقوى إقليمية، وهي رغبة تجرح بعمق في الجسم السني، حيث ان رفيق الحريري رجل تعتبره الطائفة وكثير من اللبنانيين من أعمدة الدولة . والهدف الثاني الاحتفاظ بالسلاح تحت ذرائع مختلفة. هذه الذرائع التي بدأت تتقلص بسبب إشراف الدولة اللبنانية على الحدود. ومن المعروف دقة المعادلة القائلة إن ظهور الميليشيات في بلد هو نتيجة وسبب في وقت واحد للدولة الضعيفة. وبما أن الحزب يريد كما يعلن دولة قادرة وقوية، فمن الطبيعي أن لا تبقى "ميليشيات" خارج الدولة. فمبدأ الدولة يتناقض مع وجود الميليشيات، وقوة "حزب الله" الحقيقية على الأرض هي في احتفاظه بالسلاح وإلا أصبح كغيره من القوى السياسية. ولم ينسَ السيد بعد ذلك كله توظيف كل المفردات السياسية والاجتماعية والأخلاقية في خطابه المذكور، كما لم ينسَ أن يوظف البعد الاقتصادي، حيث تحدث في آخره عن أبناء الفقراء وسكان الخيم والبيوت المهدمة وسكان الأزقة، وبعضهم أصبح كذلك جزئياَ بسبب من سياسات بعض حلفائه الآن، أو بسبب تعطل الجهد الدولي في الاعمار، لأن الأخير لا يستقيم وحشود "حزب الله" تحاصر مقر الحكومة، فالمعروف أن النمو الاقتصادي يقلل من التوترات السياسية، وتعطيل النمو الاقتصادي يفاقم التوترات السياسية والمذهبية، وهو الحاصل اليوم في لبنان. سابعا: هناك مشروعان في لبنان، وهما امتداد لمشروعين في المنطقة، مشروع يرغب في الاستقرار والبناء ويجنح الى السلم الأهلي، ومشروع آخر يرغب في تحقيق نوع من "الثورية" الغامضة، صلبها ممانعة ما. وقد تجر هذه الممانعة إما إلى حرب "سرية" في لبنان تتمثل في التفخيخ القاتل أو حرب أهلية. ولبنان لا يستطيع حمل كل ذلك دون أن يتفتت. الجميع محكوم بالتوافق، وكلما ابتعدت الأطراف عن الحشد والتعبئة السلبية، كلما كان أفضل للمجتمع اللبناني بكل أطيافه، لان التوافق قد يأتي إما الآن بالعقل وإما بعد أن تسيل دماء غزيرة، وخطاب السيد الأخير يقرّب لبنان من الصراع، الذي سيكون ضحيته هذه المرة السنّة وحلفاؤهم أصحاب مشروع بناء الدولة.