على مدار الأسابيع الأخيرة تابعت باهتمام الناقد ورجل الاعلام ماقدمته قناة الحوار التونسي من مواد اعلامية جمعت بين الطريف والهام والوثائقي والمرتب والمرتجل ..,فكان الامتاع والمؤانسة من خلال سحر الصورة وجاذبية الاخراج وتنوع الفقرات برغم قصر مدة البث ودوريتها النصف أسبوعية,كما كانت المؤاخذات والاحترازات وأدوات النقد الذهني حاضرة كأسلحة عقلية لابد أن تعتمل مخاضا لدى المتابع والمراقب. لم أنطلق في متابعتي للقناة من أحكام الايديولوجيا والانتماء الفكري والسياسي الذي يحكم من خلال عدسته الكثير من النقاد وأصحاب المدارس الحزبية والحركية على الأشياء ,اذ أنه لم يكن من الخافي علي ميول بعض القائمين على مشروعها الفضائي الى بعض التيارات أو الشخصيات الوطنية ,ولكن ايماني برحابة وشساعة المشترك في هذا الوطن وتجذر اعتقادي فيما هو انساني ووطني جامع ,جعلني لاأتوانى في رصد التجربة والتعلم منها ونقدها من باب الحرص على تطويرها ضمن دائرة المكاسب الاعلامية التونسية الخارجة عن أطر الرصد والوصاية الرسميين. كان تواصلي المستمر مع الصديق لطفي الهمامي أحد العاملين في طاقم القناة والتراسل الايجابي مع مديرها الأستاذ الطاهر بن حسين,أحد العلامات البارزة التي شجعتني على كسر جدار برلين بين المدارس الفكرية والسياسية التونسية ولو أن هذا الموقف سبق قناعة وتشربا منذ السنوات الأولى لدراستي الجامعية ,حيث جمعتني علاقات مودة وصداقة بالرفاق من تيار "المناضلون الوطنيون الديمقراطيون" وتيار "الوطد" الذي كثيرا مااتسمت علاقته بالحدة مع فصيل الاتجاه الاسلامي. ولعلني مازلت والى اليوم مشدودا لايام جميلة جمعتني ببعض هؤلاء الرفاق في اطار الحوارات الفكرية والسياسية الراقية في مكتبة الجامعة أو في قاعات محاضراتها أيام ثورة الطلاب الحالمة. وتواصل هذا المشوار حتى أثناء مغادرتي للبلد في ظروف سياسية قاسية لأتمكن من لقيا بعض نشطاء "المود " في طرابلس الغرب لنتبادل مشاعر الحميمية والتضامن المشترك ضد قسوة الاضطهاد السياسي في مرحلة أظن أن مصيرها ولى الى غير رجعة... ولقد كانت لأستاذي في القانون الدولي الدكتور عبد الوهاب معطر فضائل في أخلاق التواصل والحوار بين فرقاء الفكر والسياسة حين كنا طلابا على نهاية حقبة الثمانينات على مدارج حقوق صفاقس ,ولازلت أذكر يومها حوارا فكريا راقيا أتاحه لنا في موضوع فك الارتباط بين الأردن والضفة الغربية... وعودة الى قناة الحوار التونسي فانني لاأملك ابتداء الا أن أثمن هذا الجهد الاعلامي برغم مايعتريه من ثغرات يمكن تلافيها مع مرور الأيام ,حيث ألفت انتباه القائمين عليها الى أن فلسفة الاعلام الناجح تقوم على الانفتاح والموضوعية وعدم تكريس القناة لخطية سياسية معينة تلغي أو تقصي مادونها من اراء وتوجهات ,حيث أن الكفاءة والمهنية لابد أن ترتفع عن منطق الانتماء السياسي ومنطق الدكاكين الحزبية أو الايديولوجية ,وهو مايتيح لأصحابها مساحة المنتدى الجامع الذي يقلص من الايديولوجي لحساب الوطني والانساني الذي يحتضن أبناء البلد الواحد بعيدا عن منطق الحرب وحلبات المصارعة. بلاشك أن مااعتمدته القناة من استوديو فسيح يتمتع بمواصفات الخلفية والاضاءة والتقنية السمعبصرية المتقدمة ,يوجب عليها اليوم في ظل ماتعيشه تونس من حصار اعلامي رسمي أن تتحمل المسؤولية الاعلامية الأكبر في ايصال الحقيقة الى الرأي العام بعيدا عن منطق التبشير الايديولوجي الذي اعتمدته يوما ما قناة الزيتونة برغم ماقدمته من تقنية راقية وحرفية في مواضع معينة وكثيرة من مراحل البث. الحوار ,الحوار ,الحوار بني وطني في قناة الحوار لن يكون بين مكونات المدرسة اليسارية فقط وانما لابد أن يكون حوارا جامعا بين مختلف الفرقاء والمدارس ,حيث أن الحديث عن صفة تقدمية للقناة لن يكون في نهاية المطاف الا اعتمالا ايديولوجيا من مخلفات الحرب الباردة بين اليسار التونسي وتيار الحركة الاسلامية المعاصر. الحوار الذي ننتظره في قناة الحوار التونسي لابد أن يكون حوارا وطنيا وانسانيا جامعا بين أصحاب الفكر الحر وأصحاب القلب النابض والغيور على مستقبل تونس بدرجة أولى ثم مستقبل المنطقة بوجه أعم ,وهو مايعني أن تكريس بعض الوجوه فضائيا يعد خطأ شائعا يرتكب في أشهر الفضائيات وعلى رأسها قناة الجزيرة الموقرة,حيث تعمد هذه القناة الأشهر عربيا وربما عالميا الى تكريس دعوة وجوه معينة بحكم انتمائها الاخواني أو قربها من المدارس الاخوانية على مستوى الخط السياسي ,أو ربما الى احتكار دعوة بعض الضيوف نظرا لقربهم الفكري والسياسي من بعض أشهر مذيعي الجزيرة. سياسة الضيوف المبجلين والمحللين الذين لايشق لهم غبار, قد غدت اليوم حيلة مكشوفة لمن سوقت لهم بعض الفضائيات على أساس أنهم الزعماء الأبرز والأشهر في المنطقة العربية ,ولاداعي هنا لذكر بعض الأسماء حتي يتمكن القارئ من احصاء عدد المرات التي ظهر فيها هؤلاء وكأن الساحة القطرية أو العربية قد خلت ممن عداهم من المثقفين والمحللين والكتاب والقادة والأدباء والسياسيين... ليس من المستحيل على المهنيين والحرفيين وهم كذلك ,لولا تلاعبات رأس المال وتحيزات الانتماء الفكري والسياسي ,ليس مستحيلا عليهم رفع السماعة أو المكاتبة الاليكترونية للمئات من الأوجه التي لها حضور كتابي أو اعلامي أو فكري أو سياسي أو نقدي أو أدبي أو فني ...من أجل المشاركة في القضايا الدولية أو العربية أو القطرية المطروحة بالحاح في الساحة الاعلامية,ولكنها للأسف الشديد أجندة مجالس ادارية تنسج التحالفات والصداقات السياسية والاعلامية من منطلق من هو الأقرب الى "امبراطوريتنا" الايديولوجية أو التنظيمية... لقد تحول الاعلام الفضائي اليوم الى مكافأة ايديولوجية وتنظيمية وهو ماتلحظه على سبيل المثال بجلاء أيضا في قناة الحوار الأخرى والتي تبث من لندن ,اذ أن الحضور فيها في الملف التونسي أصبح حكرا على الموالين لحزب معلوم أو المدافعين عن مشروعه السياسي أو القريبين من تواجده اللندني ,وهو مايطرح أسئلة كبرى حول مصداقية الموضوعية والحيادية والمهنية على مثل حوارية الشعار والتسمية. أما عن قناة حوار باريس-الحوار التونسي- حيث صديقنا الطاهر بن حسين ,فلاشك أنني لمست حسن النية مع تأجيل التنفيذ ورغبة في الترويج لخطية فكرية لايمكن أن تكون ممثلة تمثيلا حقيقيا للجمهور الواسع من التونسيين والتونسيات,ولكن برغم هذا فانني لازلت أراهن على أن نقدنا للتجربة من خلال هذا المقال التحليلي والاستذكاري الصادق سيغير كثيرا من وجهة الأمور ليعدلها باتجاه قناة تواصل مع الجمهور الواسع من الطبقة السياسية والفكرية والمثقفة دون تحيز لليسار أو اسقاط للرؤى الشخصية على هذا المشروع الاعلامي ,ولعلني في هذا الموضع لم أرد المجاملة والمحاباة من باب حرصي على أن يكون مدماك النقد وسيلة فضلى في مسيرة من يشاركني مهمة الاعلام وتوجيه الرأي العام. ومرة أخرى أؤكد على أن التجربة والى حدود حلقتها رقم 32 تبقى جديرة بالتشجيع والنصح والدعم والتعاون الصادق بعيدا عن المواقف السياسية المحنطة من هذا الطرف أو ذاك, وبعيدا عن منطق العدمية الذي يحرص البعض على ترويجه من خلال تصويب الخراطيش على كل ماهو مخالف في الميول الحزبية أو الفكرية أو السياسية ,ومن ثمة فاننا نرى في صحيفة الوسط التونسية كل مشروع تونسي من أجل اعلام وطني حر وبديل مشروعا يستحق منا صادق الدعم والتشجيع ,ومن أجل ذلك فاننا نمد أيدينا من حيث الخبرة والعلاقات والمهارات التي تلقيناها في تخصص الاتصال والاعلام من خلال الدراسة الأكاديمية أو من خلال الممارسة اليومية في هذا الحقل من أجل رؤية الحوار التونسي منبرا متقدما ورائدا يشع على التونسيين بالكلم الطيب والحقيقة النسبية التي لاتدعي الاطلاق أو الاكتمال. حرر بتاريخ 26 ذو القعدة 1427 ه -16 ديسمبر 2006 *كاتب واعلامي تونسي ومدير صحيفة الوسط التونسية :