أحمد جمعة الحجوج، رجل طيب كاد يفقد بصره من كثرة البكاء، وعفيفة حسن الحجوج، أم تشبه أمهاتنا، في حزنها الصامت، ودعائها الصادق، وبنات أربع، جميلات هادئات: عبير(صيدلة)، تتابع حديثنا باهتمام، تمسح دموعها في صمت، ولا تقول الكثير، ولكنها إذا نطقت، كان كلامها في الصميم. درين ( محامية)، تتحدث بحماس وبحيثيات كما لو كانت تترافع، نسرين( إعلامية) وإيمان( أدب إنجليزي)، الصغيرتان اللتان جلستا بعيدا على أريكة بجوار بعضهما، وتابعتا حديث الكبار باهتمام. تحتفل عائلة الحجوج يوم 19 ديسمبر المقبل بعامها الأول على أرض هولندا، الأرض التي احتضنتها بعد أن أُغلقت في وجهها كل سبل الحياة في ليبيا، و19 ديسمبر الجاري هو أيضا نفس اليوم الذي سينطق فيه القاضي في ليبيا بحكم على أشرف، كبير العائلة وابنها الوحيد. في أحد أيام خريف عام 1969، ولد أشرف على أرض مصر، بكر لوالدين اشتغلا في التدريس وربيا أجيالا كثيرة. عندما بلغ من عمره سنتين، رحلا إلى ليبيا، حيث واصل والداه هناك ممارسة مهنة التدريس. كان طفلا هادئا، متفوقا في الدراسة، طالبا مجتهدا. حصل على المرتبة الأولى في الثانوية العامة فاحتفلا به والداه احتفالا لا ينسى، ليضع بعدها قدمه بكلية الطب. كان حلمه الجميل منذ طفولته أن يصبح طبيبا جراحا، ولم يكن يعلم أن هذا الحلم الجميل سينقلب إلى كابوس مزعج لم يستيقظ منه أحد بعد من عائلة الحجوج. " ضاقت علينا الأرض بما رحبت"، تقول أم أشرف بعينين دامعتين:" لم أتعرف على ابني خلف القضبان، لما رأيته لأول مرة بعد اختفائه، وذلك بعد مرور عشرة أشهر. كان يرتدي قميصا ممزقا و بنطلون بيجاما ويُخفي أصابعه المحفورة بالكهرباء. .أُغمي علي من شدة الهول، ثم حكى وظل يحكي: " حطوني في قفص كلب بوليسي جائع، وكان الكلب أحن علي منهم، حين رتبت عليه أصبح هادئا ". اعترف بالجريمة 25 عسكريا و طبيب تخدير، مارسوا على أرشف الحجوج شتى أنواع التعذيب. و لا تزال القضية مستمرة. يحاول أبو أشرف أن يبدو صابرا ومتماسكا، إلا أنه لا يخفى على أحد أن نظره تراجع كثيرا بسبب بكائه المرير على ابنه. " حصرت ليبيا منذ بداية الأمر، مشكلة مستشفى "بنغازي" بين طرفين، أولياء الأمور والمتهمين الذين أخذوا ككبش فداء لتغطية الإهمال في المستشفيات الليبية، وهذا ما شهد به الخبراء الدوليون من العالم الغربي، وعلى رأسهم الإيطالي كوليزي. كانت الجلسة الختامية في قضية الطبيب الفلسطيني والممرضات البلغاريات، يوم الماضي، ترافع فيها الدفاع، والغريب أنها توبعت بجلسة أخرى لم تكن متوقعة. تقول عائلة أشرف: إن ليبيا سخرت كل إمكانياتها المادية للكذب على العالم بأن الطبيب الفلسطيني والممرضات البلغاريات يعملون لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد. وتقول درين: " تعاد محاكمة أشرف والممرضات بتهمة حقن الأطفال الليبيين ونشر فيروس الإيدز و تلويث دمائهم دون وجود ركن قانوني، نحن نطالب بمحاكمة تحت طائلة القانون، إنها مجرد لعبة ذرة اختلقتها المخابرات الليبية. صحنا بأعلى صوتنا في العام 1999، إن ليبيا اختلقت القضية لكي توازن قضية لوكربي، إلا أن العالم سخر منا آنذاك. والآن صدق اعتقادنا، بدليل أن ليبيا طالبت باستعادة المال الذي دفعته في لوكربي وإطلاق سراح عبد الباسط المقرحي. ليبيا تكذب، وتقول إن الطبيب الفلسطيني دكتور مع أنه لم يتخرج حتى الآن، والمحامي أكد على هذا في جلسة . ليست المحكمة بالعادلة ولا بالنزيهة ولا تتمتع بأية شفافية، بل تتلقى أوامر بالهاتف. أقول إن الممرضات البلغاريات بريئات مثل أشرف تماما. اُجبر المتهمون على التوقيع على أوراق بيضاء، وصرحت إحدى الممرضات أمام المحكمة، وفي حضور ممثلين عن 25 دولة، أنه تم التحقيق معها وهي عارية تماما. أما رجولة ابني فانتهكت بكلب بوليسي، وهُدد في أخواته، ضحى بنفسه من أجل حماية أخواته، أتوا له بورق أبيض فوقع. واكتشف المحامون ذلك وأثبتوه من خلال اختلافات اكتشفوها في صفحات داخل محاضر التحقيق. محكمة الشعب، محكمة أمن الدولة، محكمة بنغازي، والمحكمة الحالية: مجرد مسرحية ليبية تقدمها للعالم". التهامي التومي، الوحيد من بين أربعة محامين، الذي ظل صامدا في الدفاع عن أشرف الحجوج ومساندته. استغرق ترافعه وترافع البيزنطي ومحامين عن البلغاريات سبع ساعات، انتهت بصوت يدوي في قاعة المحكمة مطالبا بتبرئة هؤلاء الخمسة، لأنه لا دليل ولا إثبات ضدهم. ما تعرضت له أسرتي في ليبيا هو إرهاب دولة. اعتقل ابني ظلما، وأغلقت كل سبل الحياة على عائلتي، طردت بناتي من الجامعات، ونحن من العمل. واضطررنا للخروج من ليبيا، تاركين أشرف لقدره. إن منظمة العفو الدولية تتابع القضية وعلى صلة بمكتب أمستردام، أما السلطة الفلسطينية فلا نعرف عن دورها شيئا. تقول درين: " لقد تابع السفير الفلسطيني بسام الآغا، القضية باعتباره وطنيا مناضلا وليس بتكليف من السلطة الفلسطينية. ولم نحصل على إجابة عندما سألنا لماذا تخجل السلطة الفلسطينية من طرح قضية أشرف على الملأ. ولكن أم أشرف تعرف الإجابة، إنه المال الذي تحصل عليها السلطة من القذافي! نحن أسرة بدون دولة تساندها، ونحمد الله أن ابني ُيذكر الآن من طرف الأوروبيين". دفاع جلسة أكد براءة أشرف والبلغاريات بالأدلة الملموسة. يقول مدير مستشفى بنغازي "عطية الجعي": إن مرضى مستشفى بنغازي كان يحقنون بالإبرة الواحدة، لأنه لا توجد إبر كافية، كما كانت هذه الإبر تغسل بمياه الصنابير لا غير. تقول عبير، أخت أشرف الصيدلانية: " ثبتت إصابة 19 من الأمهات النزيلات بالمستشفى بفيروس الإيدز، وأرجعت ليبيا ذلك إلى انتقال العدوى إليهن من الرضع، تلوث في الفم وتشقق في الثدي كان كافيا لنقل الفيروس. أما سيف الإسلام القذافي، رئيس مؤسسة القذافي فقد قال: مورس الضغط على المتهمين للاعتراف بشيء لم يرتكبوه، والمرض انتشر بعد احتجاز المتهمين. والأطباء قالوا: إهمال. قبل رحيلها لاجئة إلى هولندا، اعتصمت العائلة أربعة أشهر في البيت، وأضربت عن الطعام وعن الحياة. جاء مدير من مؤسسة القذافي للزيارة فقالت العائلة: لا نريد عفوا من القذافي عن أشرف، بل نريد براءته!". كانوا ينامون نوبات، يظل واحد منهم صاحيا للحراسة لأنهم كانو مهددين. تذكر عفيفة حسن الحجوج جيرانها و أحباءها في ليبيا، الذين لم يتخلوا عنها في وقت الشدة، وإن كان الخوف يدعهم يضعون مساعداتهم المادية للعائلة أمام الباب ويفروا قبل أن يراهم أحد. ما كانت عفيفة الحجوج لتخرج من ليبيا لولا هذه الكارثة. 4 نوفمبر كان المفروض أن تكون جلسة هي الجلسة الختامية، يعقبها إصدار حكم يوم 19 ديسمبر 2006، إلا أن الجميع فوجئ بجلسة أخرى يوم 4 نوفمبر لصالح النيابة العامة. يقول الأب: " حتى لا يخرج سفراء الدول الحاضرة مقتنعين ببراءة المتهمين، التي أثبتتها جلسة ". وتنتظر عائلة الحجوج، في بيتها الجديد في "ووردن"، يوم 19 ديسمبر 2006 بحذر كبير، فقد يكون يوما تمتزج فيه الفرحة بعودة أشرف بالاحتفال بمرور عام من الاستقرار في هذا البلد الجديد، هولندا التي فتحت ذراعيها لهذه العائلة المنكوبة واحتضنتها حين تخلى عنها الجميع، وقد يكون يوما تتمنى العائلة ألا تشرق شمسه أبدا.