بعد أن طالع أحد الأخوة الكرام ما خطه قلمي حول الدولة المدنية التي تمثل ركنا أساسيا في مشروع الإسلاميين السياسي ،توجه إلى بأسئلة أراها وجيهة لأبعد الحدود قال ": ماذا بقي من الإسلام في هذا المشروع السياسي ؟ ألم يصبح مشروعا بدون طعم ولا رائحة ؟ ألا يجعل ذلك الإسلاميين يسقطون في تبني المشروع العلماني وهم الذين بنوا شرعية وجودهم على معارضة الخيار العلماني المستورد من الغرب ؟". 1 الإسلاميون بين التردد و الانطلاق و الجدير بالذكر أن هذه الأسئلة وغيرها لم تكن أبدا غائبة عن ذهني عندما أفكر في مشروع سياسي للإسلاميين بكون ديمقراطيا لا شبهة فيه حتى يستطيع أن يجلي الغموض و ما يتبعه من شبهات استغلها الخصوم أحسن استغلال و لعلها قد ساهمت مساهمة كبيرة في إطالة عمر الأنظمة الاستبدادية التي تحكم البلاد العربية و إضفاء نوع من المصداقية على المبررات التي تقدمها لحماية ما تسميه بالأمن و الاستقرار ثم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أمكن لها الاستفادة بشكل جيد من مناخ الحرب على الإرهاب الذي لا يتورع الكثير عن وصفه بالإسلامي و الحديث عنه على الأقل كأحد تجليّات الصحوة الإسلامية المعاصرة ، و كنت أقلق كثيرا عندما أستمع لأحد السياسيين المحترفين وهو يلخص البرنامج السياسي للحركات الإسلامية في احتكار الصفة الإسلامية و العمل على فرض تأويل معين للمفاهيم الدينية هو التأويل الأصولي الذي يرفض المتغيرات الجذرية التي حدثت منذ عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم لينتهي بعجالة إلى كونه مشروعا يهدد مكاسب المرأة المعاصرة و يرسخ أسوء ما تبقى من سمات المجتمع الباطرياركي ( الأبوي) من خلال الدعوة إلى تعدد الزوجات و إعادة إنتاج الدولة الدينية و الاستبداد القروسطي بشكل عام ، وفي المقابل غالبا ما يتيه الإسلاميون في ممارسة خطاب تمجيدي للتجربة التاريخية للمسلمين في الحكم خاصة منها ما يتعلق بالخلافة الراشدة لينتهوا إلى خلاصة سريعة مفادها أن مشاكل الأمة كلها ترتبت عن التنكر لمنهاج النبوة و الخلفاء الراشدين متناسين أن الموضوع اليوم لا يتعلق بتقديم تفسيرات لما وقع من انحرافات تاريخية ولكنه عمل و تدبير من أجل رفع تحديات الحاضر و التخطيط لمستقبل مشرق ، وعندما يتجرأ بعضهم لمواجهة حقيقية لمشاكل العصر انطلاقا من الثوابت الإسلامية واستيعابا لثقافة الحداثة كما يفعل الشيخ راشد الغنوشي و فهمي الهويدي و أحمد كمال أبو المجد و الشيخ القرضاوي و محمد عمارة و فتحي عثمان وعماد الدين خليل و غيرهم يصعد إلى السطح تيار الطهر و النقاء فيدعي أنه الناطق الرسمي باسم الإله في الأرض ويرتب جملة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ليخرج هؤلاء من الملة ويعلن وصايته على الدين و على المؤمنين و الحرب على التيار الوطني ويعيدنا إلى نقطة الصفر بما يعني صرف طاقاتنا في الرد على الشبهات التي لن تنتهي .تلك هي أهم ملامح الطريق التي يتحرك فيه كل من يفكر في بلورة مشروع سياسي من منطلق إسلامي وهي طريق كثيرا ما أقنعت سالكيها بالتردد ثم التوقف إيثارا للسلامة أو محافظة على الأنصار الذين هم أميل لدغدغة نبضات القلوب ولدعوة قوامها ترسيخ القيم الدينية و دفاع عن المقدسات منهم لحديث العقل و منطق التاريخ و العصر.. و أحسب أن العيب ليس كله فيهم ولكن في الظروف الموضوعية التي أحاطت بهم وجعلتهم لا يخرجون من معركة حتى يدخلون أخرى مع ما يصحب ذلك من عدم إعطاء الفرصة لهم حتى تتراكم التجارب وتتحول إلى معرفة وثقافة قابلة للتنزيل و الاختبار في الواقع ، فعندما يعطى هؤلاء الفرصة الحقيقية قد يتفوقون على غيرهم في معالجة المشاكل و إيجاد الحلول وليس أدل على ذلك من تجربة حزب العدالة و التنمية التركي الذي ينجح الآن في مواجهة كل التحديات ويحقق نتائج إيجابية على مستوى تدبير الدولة و النهوض باقتصاد البلاد في حين يراوح شقيقه حزب السعادة مكانه كحركة احتجاجية تحسن رفع الشعارات التي لم تثبت جدواها . و الأمل كذلك على حزب العدالة و التنمية المغربي الذي يمارس أمينه العام الدكتور سعد الدين العثماني خطابا سياسيا يدل على تحول نوعي و حقيقي في الخطاب الإسلامي من المرجح في نظري أن يتطور في الاتجاه الصحيح لتنشأ في المغرب مؤسسة سياسية إسلامية قادرة على إحداث التمايز بين مقتضيات الخطاب الدعوي القائم على تفعيل القيم الإسلامية في المجتمع عن طريق تقوية العقيدة الالتزام بحسن أداء طقوس العبادة وهذه لا يمكن أن تكون من مشمولات المؤسسة السياسية ومستلزمات الممارسة السياسية القائمة على المشاركة في التدافع السياسي من أجل الوصول إلى الحكم على أساس برنامج مفصل يزعم القدرة على مواجهة التحديات المفروضة على الوطن و تقديم الحلول للمشاكل القائمة وحسن تدبير أمور الدولة ، فالبرنامج السياسي لا يمكن أن يكون إلا برنامجا وطنيا لا بأس من أن يضع في حسبانه التعاون المثمر مع مختلف مكونات الأمتين العربية والإسلامية إلا أنه برنامج يبنى على فرضية حسن استغلال الموارد البشرية و الاقتصادية المتاحة على مستوى كل قطر . ولعلني أوضح أهمية هدا المعطى الأخير عندما أسرد جانبا من جوانب حديث جمعني بأحد الإسلاميين المصرين حول الحلول التي يجدها لنهضة الاقتصاد المصري شدد المحاور الكريم على أن علم الاقتصاد يركز على حل مشكلة الندرة ( أي قلة الموارد وضخامة الحاجيات ) ونحن في العالم الإسلامي ليس لنا هذه المشكلة فخد مثلا مصر و السودان وليبيا بتكامل البلدان الثلاثة مع بعض تتوفر الأرض الزراعية و موارد الطاقة و الخبرات اللازمة و الرساميل اللازمة ... قلت :" ولكن هذه الإمكانيات لن تكون متاحة للمخطط الاقتصادي المصري المسلم حتى يضع خططه النظرية وآليات تنفيدها فأي برنامج هو خطط واضحة وآليات تسمح بتنفيذها وبكل تأكيد لا يستطيع المخطط المصري أن يتجاوز مشكلة الندرة في مصر اعتمادا على أمل في التكامل بين البلدان الثلاثة قد لا يتحقق أبدا والخطط العلمية لا تبنى أبدا على الآمال و لكن تبنى على المعطيات الإحصائية التي تقدمها لمراكز المختصة ..." و أرجو أن يكون القارئ الكريم قد فهم أن المراد هو إبراز النزعة العير الواقعية عند تناول الموضوعات التي تعنى بتحقيق النجاعة في تدبير الدول وهي نزعة غالبة عند الإسلاميين العرب لأنهم قضوا أعمارهم في خوص الاحتجاجات المتواصلة على المظالم التي تقع على رؤوسهم ولم يعطوا إلا فوا ضل أوقاتهم للتدبر في مسائل الحكم و مأسسة الدول .. و المؤسف أن تستغل ذلك شرائح فاسدة من خصوم الإسلاميين للإقناع بأنهم الأقدر على حفظ الاستقرار وقيادة مسيرة التنمية المتعثرة لأن البديل الذي ترشحه الانتخابات الديمقراطية سيقذف البلاد والعباد في المجهول أو الفوضى وسيشكل تهديدا للأمن والاستقرار على المستويات المحلية والإقليمية والدولية . و المفرح حقا أن السنوات العشر الأخيرة قدمت نماذج من الإسلاميين نجحوا في تجاوز هذه الملامح التي ظلت تمثل السمات النمطية في خطاب الحركات الإسلامية وبعض هؤلاء اثبت جدارة في الحكم مثل رجب اردوغان وإخوانه وبعضهم الآخر يسير بخطى حثيثة ليستوعب دروس التجربة ويعزز مكانته في لعبة السياسة كما هو حال رجال حماس الفلسطينية و غيرهم كثير في الجزائر و المغرب و الأردن و السودان واليمن و مصر و إيران ,... و بالتالي فالكتابة في هذا الموضوع هي في الحقيقة ليست ابتكارا معرفيا في الساحة الإسلامية بقدر ما هي استخلاص الدروس من تجاربنا المتراكمة في كل هذه الأقطار . 2 ماذا يعني أن نستلهم من الإسلام مشروعا سياسيا؟ المشروع السياسي الإسلامي ليس إعادة لإنتاج نماذج تاريخية مهما كانت أهميتها وليس كذلك مشروعا يقتصر على محاولة تفعيل قيم الدين وتطبيق تشريعاته وحدوده وفرض احترامه على الناس دون مراعاة الشرعية الاجتماعية (1) وليس استبعادا لتجارب الآخرين ونتائج بحوثهم العلمية وسجلاتهم القانونية بل هو ثمرة اجتهاد تستفيد من كل ذلك في مسار يبحث عن الأصلح و الأرقى ، ويبقى في النهاية اجتهادا قد يخطأ وقد يصيب . فنحن لسنا هنا في مقام ترجمة النصوص الإلهية إلى أوامر سلطوية و آليات تنفيذية تدعي العصمة و تخاطب الجمهور بما عليه أن يفعل وما عليه أن يجتنب بل نحن في مقام الباحث الذي يعتقد أن الإسلام بما هو كتاب وسنة يمكن أن نستلهم منه أفكارا و مواثيق و حلولا تتم صياغتها في برنامج متكامل في ضوء المعرفة الدقيقة لمشاكل المجتمع و متطلباته المرحلية و إمكانياته المتاحة ثم عرض هذا المشروع ليصادق عليه المجتمع أو يرفضه ، وعلى ضوء نتائج صندوق الاقتراع يكون حجم المشاركة في الحكومة بما يعني التأثير في اتخاذ القرار أو البقاء في المعارضة لزيادة إنضاج المشروع و العمل وسط الناس لمزيد التعريف بذلك البرنامج وتوسيع قواعد الحزب والمساهمة في نفس الوقت في صيانة السلم الاجتماعي والدفاع عن المظلومين و الوقوف في وجه جنوح السلطة نحو التغول و الاستبداد و التصدي لظواهر الفساد... الأمر لا يتعلق بما يسميه البعض اختطاف الإسلام من صاحبه الشرعي المجتمع والدخول به في معركة التنافس على السلطة بما يعني بوجه من الوجوه نفي الصفة الإسلامية عن بقية مكونات الخريطة السياسية وخلق ذلك التوجس الكبير لدى النخب الوطنية و العلمانية التي لن تقبل أبدا بتجريدها من الإيمان بقيم الإسلام ومن حقها في أن تفهم الإسلام على طريقتها ولكنه برنامج سياسي يستند إلى رؤية متكاملة للحياة والكون لا شك أنها تتعارض مع الرؤية الغربية في كثير من الأبعاد لأنها تؤمن بدور السماء في صنع الحياة على الأرض و تعتقد في أن إصلاح البشر لا يمكن أن ينجح بالاعتماد على تفعيل القيم الوضعية فقط بل ترى أن القيم الوضعية الصالحة تستمد صلوحيتها من القيم الدينية و أن الحياة الجماعية لا تقوم فقط على نجاعة الحس المدني ولكنها أيضا على مفهوم العطاء الذي يرجو صاحبه الثواب من الله في الدنيا و الآخرة و إلا سادت الأنانية و الانتهازية وحب الذات وفتح الباب على مصراعيه في طريق الإباحية و الجشع و الاحتكارية و صارت الحرية الفردية تعني فسح المجال أمام الجري وراء اللذة بدون حدود حتى وأن وصل الأمر إلى تدمير الذات الإنسانية كما يحصل اليوم من إباحة الشذوذ الجنسي بأنواعه وإباحة المخدرات الخفيفة في بعض الدول ولم تعد مسألة إباحة المخدرات البيضاء في نظر الكثير من الباحثين إلا مسألة موعد لم يحن أوانه . و الحزب السياسي الإسلامي لا يمكن أن يقوم بدوره إلا إذا انفصل تنظيميا عن هياكل الصحوة الإسلامية في شمولها ليتفرغ نشطاؤه إلى العمل من أجل جمع الخبرات السياسية و الانكباب على تحليل الواقع و الأحداث ومتابعة التحولات الجارية على كل صعيد ومن ثم اكتساب القدرة لفهم مآلات النصوص و استلهام الأفكار التي يمكن صياغتها في شكل مشاريع سياسية أو برامج انتخابية ، وعلى عكس التيارات العلمانية المتطرفة التي تعمل بجد على إقصاء الإسلام عن الحياة العامة وحصره أثرة فيمن يدخل المسجد إن استطاع إليه سبيلا ، فإن الحزب السياسي الإسلامي سيعمل على تفعيل مؤسسة المسجد و تمكينها من القيام بدور فاعل لتهذيب الشارع و تأطير الشباب و حل المشاكل الطارئة بين المواطنين بالحسنى وبالتالي المساهمة في زيادة اللحمة بين أفراد المجتمع و ترسيخ انتمائه لدينة و وطنه وأمته ...