طالعت في اهتمام لافت مقال الأخ الفاضل الدكتور خالد الطراولي حول المشروع الاسلامي التونسي ونزيف الانسحابات,ولقد شد نظري ماجاء فيه من تقويم وخلاصات تستحق من القارئ والناقد والمتابع تصويبا أو ترشيدا لما ورد فيه من استنتاجات . ومن منطلق حرصي على تنوير الرأي العام الوطني والعربي وكل المتابعين الشرفاء لمسيرة تيار العروبة والأصالة والوسطية والاسلام الحضاري على أرض تونس الخضراء فانني أذكر بمايلي : 1- اننا لانعتبر التيار الاسلامي الوسطي حكرا أو حصرا أو قصرا على لافتة حزبية معينة ,بل ان من كبريات الأخطاء الاستراتيجية التي وقع فيها المدافعون عن مشروع العروبة والاسلام في تونس ,هو اقحام هذا المشروع في لافتة حركية معروفة ثم النظر من ثقب هذه اللافتة الحزبية لجهود الناس وتضحياتهم ونضالاتهم الفكرية والحقوقية والاعلامية والسياسية ,بحيث أن من تخندق داخل حزب النهضة يغدو وطنيا ومن عمل خارج دوائرها التنظيمية يصبح مقصرا في دينه ووطنيته يستحق من بعض دوائرها الحزبية المهجرية كل هجوم وقدح وتكتيكات سياسية تصل أحيانا حد الذم القبيح والتخوين... 2- اننا نعتبر أنفسنا من الفاعلين ضمن الحقل الاسلامي الوسطي والمتحرر من سطوة اختطاف الاسلام من قبل جماعات العنف المدمر ,أو جماعات قولبة الاسلام ضمن أطر حركية ضيقة لاترى الخيرية الا بمنظار ألوان المشائخ النافذين أو الأجهزة التي يشرف عليها أشخاص اعتمدوا في كثير من الأحيان نهج التزلف والتملق عوض الانتصار لقيم العدل والحق والشورى والاستهداء بالنصح والخير أينما وجد. 3- اننا في علاقتنا باخوة النهضة في تونس لازلنا نكن كل التقدير والاحترام لكل المناضلين الشرفاء من الذين دفعوا ضريبة الحرية والتحرر من الظلم والانغلاق وسطوة المصالح الضيقة على المصالح الوطنية الواسعة ,حيث أن رجالا من أمثال العلامة الدكتور منصف بن سالم والأستاذ الفاضل والشيخ الوقور الحبيب اللوز والمهندس المحترم حمادي الجبالي والطبيب السجين د.احمد لبيض والقيادي الطلابي عبد الكريم الهاروني والاخوان الأكارم الأساتذة محمد النوري وسمير ديلو وزياد الدولاتي وعلي العريض وعبد الله الزواري والمناضل الصادق المهندس الهادي التريكي وغيرهم من الاف المناضلين الذين دفعوا ضريبة الأخطاء السياسية الفادحة للسلطة والتقديرات السياسية غير المحكمة من النخبة بمختلف تلويناتها ..,ان كل هؤلاء الرجال يقعون من قلوبنا موضع التقدير والاحترام ,غير أن مايفصلنا عنهم هو واقع القطيعة الذي فرضه علينا الواقع المهجري . 4-ان من حقنا بعد مرور عقد ونصف على محنة بداية حقبة التسعينات من القرن الماضي ,أن نطرح الكثير من التساؤلات حول الأداء السياسي لقيادة النهضة المتواجدة في المهجر ,حيث أن بعض مسؤوليها وعلى رأسهم رئيس الحركة الأستاذ راشد الغنوشي ساهموا ومن حيث لايشعرون في صب الزيت على النار نتيجة تصريحاتهم غير المسؤولة وعلى رأسها كلمات من صنف "شدوا عليهم في الشوارع وحاصروهم في كل منعطف ..."!,وهو ماعمق حتما من الأزمة وزاد في ابتعاد السلطة عن مواطن الاعتدال بل دفع بكثير من أطرافها الى الوقوع في أسر التجاذبات الدولية أو التجاذبات الايديولوجية المتطرفة. 5- اننا وبكل صراحة لانحمل نفس النظرة ونفس التقدير في رؤيتنا للحزب الحاكم في تونس ,حيث أن منبع هذا الحزب وهو "التجمع الديمقراطي الدستوري" عربي واسلامي ووسطي ,غير أن الظروف التي مرت بها تونس على عهد الراحل الحبيب بورقيبة والتجاذبات الداخلية التي عرفتها البلاد بين جناح صالح بن يوسف وجناح التدرج في استقلال البلاد وهو جناح الزعيم بورقيبة ,بالاضافة الى بعض التشنجات الفكرية والسياسية التي صدرت عن هذا الأخير هي التي ساهمت في حدوث انحرافات في توسط واعتدال وسماحة هذا الحزب الوطني العريق وهو ماترتب عنه في تقديرنا اختطاف الحزب الحاكم لاحقا من قبل بعض غلاة اللائكية ومن ثمة التأثير وبشكل واسع على علاقة الدولة بالدين والتيار الثقافي والفكري والسياسي المتشبع بقيم الأصالة والتحديث. 6- اننا ثمنا في مقالين سابقين جناح الليبرالية العربية الاسلامية من منطلق قطع الطريق على حالة صدامية راجحة ومترشحة بين بعض الأقلام القريبة من حزب النهضة وبين أقلام يسارية تنتمي الى أحد أجنحة رابطة العقلانيين العرب وهم التيار اللائكي العربي ضمن هذه المنظومة الفكرية والسياسية ,معتبرين بذلك ان هذا التيار يمثل اضافة جمالية للفكر السياسي العربي وداعين في نفس الوقت الى احترام عقائد وقيم وتشريعات جمهور المسلمين في مقابل كفاله حرية الاعتقاد والتفكير للطرف الاخر. ان هذه الدعوة الى احترام الليبرالية وتثمينها في مرتكزي مناهضة الاستبداد والتصدي للقهر والتسلط الجماعاتي والاجتماعي ,يعد في نظرنا كما سبق وأن حللنا ذلك في مقالنا "نحو أنسنة الليبرالية وتخليصها من عقد الغلو العلماني" ركيزة في أي مشروع اسلامي وسطي ومعتدل ننتمي اليه وهو مايعني أن الليبرالية من هذا المنطلق وليس من منطلق الشهوانية المجحفة أو الفردية الموحشة أو التحلل من الأخلاق والفضيلة والقيمية الانسانية المحترمة لخصوصيات الشعوب , هي في الحقيقة ليبرالية مقبولة ومستساغة ومطلوبة من باب التحرر من اختطاف الاسلام من قبل جماعات العنف الأعمى أو قولبة الاسلام في حركات وأحزاب من لم ينتم اليها يكون في عداد الخصوم أو عداد المنبوذين ! 7- أخيرا لابد من ارجاع الاسلام الى محضنه الأول وهو المجتمع والانسانية بعيدا عن احتكاره ضمن لافتة حزبية معينة ,وهو مايعني أن الذب-بتشديد الباء- والدفاع عنه هو مهمة كل الأحزاب والجمعيات والنخب والمثقفين والمستقلين ,وأنه لابأس بل من المطلوب جعله مرجعية أخلاقية وفكرية في حياتنا السياسية والوطنية ,دون أن يعني ذلك الزج به في معارك سياسية طاحنة من شأنها أن تضعف من مركزه الأخلاقي والاجتماعي والثقافي داخل الدولة وهياكلها الرسمية كما هو حاصل اليوم وعلى وجه الخصوص في تونس ,ولعلنا لا نملك في هذا المقام الا التذكير ودعوة النهضة والحزب الحاكم في تونس الى تصحيح المسارات وتعديل البوصلة في تحييد الاسلام عن مواطن الصراع والتسلق السياسي وذلك عبر اعادة احياء المؤسسة الزيتونية المستقلة والعريقة وجعلها مرجعية عليا في الافتاء والارشاد في القضايا ذات المنشأ الخلافي ,اذ أنها تبقى في تونس اليوم والمستقبل هي القلعة الأخيرة والملجأ الحصين في تلطيف انحرافات الدولة أو تعرجات الأحزاب أو شطحاتها في لحظات التناطح والصراع السياسي الحاد على أرضية الغلو في توظيف الخطاب الديني سياسيا في غير مواطنه الحقيقية . حرر بتاريخ 2 ذو الحجة 1427 ه -24 ديسمبر 2006 *كاتب واعلامي تونسي ومدير صحيفة الوسط التونسية :