مازالت بعض الحركات السياسية الدينية في الوطن العربي والعالم الإسلامي مبعث قلق، وموضع تساؤل، لدى عديد من الباحثين. وأصبحت ظاهرة تهدد الجميع، في الداخل والخارج. ويتساءل الجميع: هل يتم التعامل معها بالصدام وإراقة الدماء، أم بالاحتواء، أم بالحوار كي تتغير من الداخل؟ ارتبط اسمها بالإرهاب في الخارج بعد حوادث سبتمبر في نيويورك وواشنطن، وحوادث لندن ومدريد، بل وفي قلب العالم العربي في مصر والأردن وتونس والمغرب والكويت والمملكة العربية السعودية واليمن. بل تحول الوضع في الجزائر إلى حرب أهلية كانت حصيلتها فوق المئة وخمسين ألف قتيل. ولم ينجُ العالم الإسلامي منها في تفجيرات بالي بإندونيسيا، وباكستان والهند وتركيا. وتم الخلط بين المقاومة والعنف في العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان وكشمير، والإرهاب. وأصبح كل عمل يقوم على العنف إرهاباً دون تفرقة بين إرهاب الدول، ومقاومة الأفراد والشعوب. وتم الانتقال من الواقع إلى الفكر، ومن الظروف السياسية والاجتماعية التي أفرزت العنف إلى الإسلام ذاته والحكم على جوهره ظلماً وخطأ ، حيث فهم بأنه "دين يمارس العنف وينتشر بالسيف". شريعته "الإسلام أو الجزية أو القتال". وشعاره "سيف ومصحف". وهو في رأي بعض الغربيين سيف تقطر منه الدماء، وتعاليم تدعو إلى الكراهية ونبذ الآخر واعتباره إما كافراً أو من أهل الذمة أو معاهداً. مازالت الطريقة الغالبة في التعامل مع حركات الإسلام السياسي هي طريق الأمن والشرطة والجيش عنفاً بعنف، وقوة بقوة، وسلاحاً علنياً في مقابل سلاح سري، وقوة الدولة ضد قوة "الجماعات". وبطبيعة الحال تكون الغلبة للدولة. فهي الأقوى عدة وعتاداً وتنظيماً. وقد يقتل أفراد جماعات العنف أو يعتقلون في السجون للحصول على المعلومات. فيزدادون عنفاً على عنف، وتطرفاً على تطرف، كما قيل إنه حدث لسيد قطب في السجن وتحت وطأة التعذيب عندما تحول من "العدالة الاجتماعية في الإسلام" و"معركة الإسلام والرأسمالية" و"السلام العالمي والإسلام" في أوائل الخمسينيات إلى "معالم في الطريق" بعد اعتقاله في 1954. وقد حدث نفس الشيء لبعض الجماعات وتحولها إلى العنف في السجون مثل شكري مصطفى وجماعة "التكفير والهجرة" في السبعينيات. وهاجر البعض إلى خارج البلاد. وانضم إلى "المجاهدين الأفغان" ضد الاحتلال الروسي. وقاتلوا في البوسنة والهرسك. وعاد "الأفغان العرب" إلى الأوطان ليقوموا بالعنف في الداخل بعد أن انتصروا في الخارج. ومع زيادة صعود المد اليميني في الغرب بدأ العداء للإسلام والمسلمين دون تمييز، إما بتشويه صورة الإسلام في أجهزة الإعلام الغربية، بالأفلام أو الصور أو الرسوم المتحركة أو الروايات والقصص. وبدأت مظاهر الاضطهاد لهم في القوانين الاستثنائية لمحاربة الإرهاب، ومنها الحجاب، والتعليم الديني، والمؤسسات الخيرية والمصارف الإسلامية، بل والمعاهد ومراكز الأبحاث والجامعات. وطالب اليمين الأوروبي بإيقاف سيل الهجرات الشرعية واللاشرعية من الجنوب إلى الشمال، من أفريقيا وآسيا إلى أوروبا. بل طالب اليمين المتطرف ببدء القيام بعملية نزوح للمسلمين وإرجاعهم إلى بلادهم الأصلية كما طُرد المسلمون من الأندلس من قبل حمايةً للهوية الأوروبية، ودفاعاً عن التجانس الأوروبي، وتمسكاً بالعقيدة المسيحية واليهودية، وبنقاء العنصر الأبيض، وحماية للحضارة الأوروبية. وآثر بعض المستنيرين داخل النظم السياسية البداية ب"الحوار" مع أفراد هذه الجماعات المتطرفة وقياداتها داخل السجون من أجل إعلان توبتهم وإرجاعهم إلى الإسلام الصحيح. وهي سياسة الاحتواء. ونجحت بعض هذه المحاولات. وتمت مراجعات في السجون بلغت الآن حوالى العشرين كتيباً لرفض العنف المسلح وتكفير المسلمين وقبول العمل في المجتمع المدني، ورفض "الحاكمية" والدولة الدينية، وقبول مبدأ المواطنة والتعددية السياسية، والانتخابات البرلمانية، وإطلاق حرية الفكر، وممارسة الاجتهاد. وخرج بعض التائبين من السجون بالفعل، وانخرطوا في الحياة الاجتماعية من جديد، وإن كانت مشاركتهم في الحياة السياسية بأحزاب دينية مازالت بعيدة المنال لمنع الدستور لذلك حماية للبلاد من الطائفية. وقد تحول أحد زعمائهم في الجزائر إلى أديب وروائي، على ما قيل. ليست طريقة التعامل مع حركات الإسلام السياسي الاحتواء والاستئناس ما دامت المنطلقات الفكرية والظروف السياسية والاجتماعية لم تتغير. بل الطريق هو الحوار مع هذه المنطلقات حتى يتضح اللبس في فهم النصوص، والابتسار لها، والانتقاء لبعضها دون بعض آخر. الطريق هو الحوار معها، كطرفين، واجتهادين شرعيين. الطريق هو الحوار مع تصوراتهم للعالم ومع فهمهم للتراث وموقفهم منه. فليس كل ما في التراث هو السيف والتكفير والردة والحدود، والقتل والعقاب والردع. في التراث أيضاً الرحمة، وحرمة أرواح وأعراض وأموال المسلمين، واحترام الآخر والحرية والحوار مع المخالفين وقبول الرأي والرأي الآخر. المطلوب فهم الدوافع والغايات، وبيان تعدد الطرق والوسائل لتحقيقها طبقاً للقاعدة الفقهية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بشرط عدم الإتيان بمنكر أعظم منه، وطبقاً لمبادئ الحوار في الإسلام، والجدال بالتي هي أحسن، وافتراض أن الإنسان على صواب وقد يكون على خطأ، وافتراض أن الآخر على خطأ وقد يكون على صواب. وتلك مهمة العلماء في إعادة بناء الموروث القديم وتحويله من الجانب المغلق إلى الجانب المفتوح. فالإنسان ما يقرأ وما يرث. والمطلوب أيضاً العمل على تغيير الظروف الاجتماعية التي أفرزت هذه الجماعات المتطرفة، وهي أحياناً كثيرة حالة الضيق العام والأزمة المستغلقة التي يعيشها الشباب. قهر وفقر وفساد وضياع في الداخل، واحتلال وعدوان وإهانة وجرح للكرامة في الخارج. وليست لهذا الشباب أي فرص أمل، فيظل يعبُر خارج إطار الشرعية، ويعنف ضد القانون، ويخرج على المجتمع. يعيش تحت الأرض أو يكوّن جماعات متشددة مغلقة على أطراف المدن أو في الصحراء. ويتزوجون فيما بينهم، بلا تكلفة تُذكر. يكفي وهب النفس والرضا بين الطرفين، والشهود من أعضاء "الجماعة"! والأوضاع الخارجية تبعث أيضا على القلق، احتلال العراق وفلسطين والصومال وهي دول أعضاء في الجامعة العربية، وأفغانستان والشيشان وكشمير وهي دول إسلامية بعضها أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي. وفي عقود سابقة ساهمت بعض الحركات ذات النزعة الدينية في حركات التحرر الوطني. وكانت ضمن البوتقة التي انصهرت فيها كل حركات الاستقلال الوطني من ليبراليين وقوميين وماركسيين. وبعد نيل الاستقلال حكمت الأيديولوجيات العلمانية للتحديث وحدها. واستبعدت الحركات الإسلامية. ثم وقع الصدام بين الفريقين. ودخلت الحركات الدينية المتطرفة أصلاً السجون فازدادت تطرفاً وعنفاً. وظلت مستبعدة على مدى أكثر من نصف قرن. ولم تتعود إلا على الخصومة مع بعض نظم الحكم، مع إحساس قوي بالاضطهاد. فإذا ما تغير هذا الجو من الإحباط العام، والإحساس بالغضب والظلم والعجز، وإذا ما عادت الأوطان إلى مسارها الطبيعي، وخفت عقلية "الفرقة الناجية"، وأن الحق من جانب واحد، وإذا ما أصبح الوطن للجميع على قدم المساواة تنحسر هذه الجماعات المتشددة. ومن منظور تاريخي عام، قد تكون الحضارة الإسلامية على أعتاب ازدهار ثانٍ بعد الازدهار الأول قبل ابن خلدون في القرون السبعة الأولى، وبعد التوقف الأول بعد ابن خلدون على مدى سبعة قرون أخرى في العصر العثماني. وقد بدأ ذلك منذ حركات الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر وفي ما يسميه البعض ب"الصحوة الإسلامية" في أواخر القرن العشرين. الإسلام الآن هو الدين الثاني في أوروبا. والمسلمون يكونون ربع سكان المعمورة، أكثر من مليار وربع. وإمكانياتهم المادية والمعنوية بلا حدود. والعالم الإسلامي، الأفريقي والآسيوي، مرشح لأن يخرج منه قطب ثانٍ في مواجهة القطب الأول. لذلك يشتد عليه الحصار من الخارج والتهديد من الداخل. ويُبالغ في استعمال القوة معه بالغزو المباشر وبالقواعد العسكرية والأحلاف ومناطق النفوذ والتجزئة والتقسيم إلى فسيفساء عرقي طائفي منعاً لوحدته.