إن الكلام حول الحوار وضرورته، أصبح اليوم أكثر من عدد حبات الرمل وأوراق الشجر. الكُل يدعي الحوار ويُنظر له ويُنظم في شأنه القصائد العصماء إن لزم الأمر. ولكن ما أن نصطدم بلحظة الجِد، ويشترط المنطق التشبث بالحوار وقيمه في معالجة الخلافات والأزمات، حتى تسقط ورقة التوت المستعارة، فإذا بالجميع أبعد ما يكون عن الحوار وأبجديته. هذا حال النخب العربية السياسية منها والفكرية، التي لا تقوى سوى على التشدق بمزايا الحوار، في حين أن خطابها وممارستها عارية من كل علامات الإيمان بثقافة الحوار. وتظهر أُمية النخب العربية للحوار، بالخصوص في فترات التأزم التي أضحت القاعدة وليست استثناءا. ولعل الحرب التي شهدها لبنان مؤخرًا، قد أظهرت من بين ما أظهرت وكشفت، القصور الحاد الذي يعاني منه العرب في الالتزام بالحوار فرأينا كيف أنه يكفي أن تكون مختلفا في الموقف حتى توصف بالخائن وبأنك عميل لاسرائيل، وأنك خال من الشعور بالوطنية. وهكذا يتحول الاختلاف في الموقف إلى نقمة تؤجج النيران وتذهب بنا بعيدا في مسافات المتاهة. وبقدر ما يكون الموقف عقلانيا وواقعيا، بقدر ما تشهر في وجهك السيوف في الوطن العربي. وكي تسلم من تهمة الخيانة وآليات التخوين التي لا تحصى ولا تعد، فالمطلوب هو تشغيل الانفعالات وجعلها السيدة في التفكير وفي الفعل.، وهذا ما نلاحظه في الحقيقة على شاشات الفضائيات اللبنانية وغيرها، حيث تُتهم جماعة 14 شباط في لبنان بالاستقواء بالأجنبي وبتبني مواقف تصب في صالح اسرائيل. ونفس الشيء بالنسبة إلى جماعة 14 شباط، الذين يعيدون انتاج التهمة من زاوية أخرى، فيرددون أن «حزب الله» بيدق بيد المحور السوري والايراني وأنه يتحرك ضد مصلحة الدولة اللبنانية. هكذا هو الواقع: تراشق واتهامات خطيرة وموصدة لأبواب التواصل وذلك عوض الجلوس حول طاولة واحدة للحوار والنقاش وانقاذ وطن تفصله بضعة أمتار عن الهاوية. وفي نفس الإطار العربي العام، يتجلى لنا الموقف الفلسطيني الأخير مندرجا في نفس الخندق، إذ لم يتوان السيد اسماعيل هنية أول أمس تعليقا على أحداث اضراب المعلمين بوصف خصومه بالمتآمرين والحال أن الواقع من فرط خطورته يتطلب الاحتكام للعقل ولا شيء سواه والانصات إلى المواقف التي حتى لو كانت في الباطن والظاهر متآمرة. إن الأزمات الحادة والمآساوية التي نعيشها تأبه على الجميع مزيد الانخراط في ثقافة التخوين الخطيرة، التي تعادل في المصيبة والهول ثقافة التكفير التي لا تزال نتخبط في متنها وتداعياتها.