توكد مصادر قريبة من أجهزة الأمن الجزائرية أن الاعتداءات الاستعراضية التي هزت ستة مراكز للأمن والدرك الجزائريين قبل أسبوعين في ولايتي بومرداس (50 كلم شرق العاصمة) وتيزي وزو ( 100 كلم شرق الجزائر) والتي تبناها تنظيم «القَاعِدَةِ في بلادِ المَغْرِبِ الإسْلاميِ» دفعت كلاً من قيادة الأمن والدرك الوطني إلى إقرار سلسلة من الإجراءات «الوقائية» أبرزها وضع متاريس وسلاسل حديد قرب مراكزها لتجنب أي اعتداءات جديدة بواسطة السيارات المفخخة. ويؤكد محللون أن السلطات لا تزال تتوقع تسلل عدد جديد من السيارات المفخخة إلى المدن الكبرى في غضون الأيام المقبلة وهي لذلك بادرت إلى تعزيز حواجز المراقبة الأمنية في عدد كبير من المعابر الأساسية والثانوية سواء إلى العاصمة أو المدن التي يشتبه في انها ستكون هدفاً للمسلحين. وعززت التفجيرات الأخيرة التي هزت منطقة القبائل من قناعة الأجهزة الأمنية في توجه تنظيم «القاعدة» إلى تعميم تقنية التفجيرات الاستعراضية في الأماكن العامة على غرار ما هو جار في العراق حيث تحولت السيارات المفخخة إلى أسلوب مفضل. ويقول مراقبون إن تنظيم «القاعدة» تمكن على الأرجح خلال الأشهر الأخيرة من إنشاء ورش عدة متخصصة في تجهيز السيارات المفخخة في منطقة القبائل التي تعتبر المعقل الرئيسي لنشاط تنظيم «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» سابقاً والتي تحولت مطلع العام الجاري إلى «تنظيمُ القَاعِدَةِ في بلادِ المَغْرِبِ الإسْلامِي». ويُعتقد بأن بعض هذه الورش يشرف عليه ناشطون متخصصون لكن السلطات الأمنية ترجح أن الكثير من هؤلاء حديثو العهد بالجماعات المتطرفة وهو ما يفسر تركيز عمليات التحري حالياً على محاولة تحديد شبكات الدعم والإسناد التي تنشط لمصلحة هذا التنظيم المتطرف لا سيما في المناطق شبه الحضرية والريفية شرق العاصمة. وفي أول بيان له تحت عنوان «غزوة الشيخ أبي البراء أحمد» صدر مباشرة بعد تفجيرات «الثلثاء الأسود» ذكر تنظيم «القاعدة» أنه عمد في تنفيذه لسلسلة الاعتداءات الاستعراضية إلى استعمال «تقنية التوجيه حتى يتفادوا أي إصابة في صفوف إخوانهم المسلمين». وفهمت السلطات الجزائرية التفجيرات المتزامنة التي نفذها تنظيم «القاعدة» ضد مراكز الأمن والدرك الوطني على أنها «رسالة» تحدٍ واستفزاز تستهدف المؤسسة الأمنية التي أوشكت على طي ملف الأزمة الأمنية بعد استفادة 350 عنصراً مسلحاً من تدابير «ميثاق السلم والمصالحة الوطنية» التي أقرتها السلطات بين شهري آذار (مارس) وأيار (مايو) عام 2006. وكانت خلايا هذا التنظيم وزعت في آخر أيام «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» بيانات عدة تدعو فيها سكان مناطق القبائل إلى الابتعاد عن مراكز الأمن والدرك الوطني التي قالوا إنها ستكون هدفاً لعملياتها. وتركزت الاعتداءات الأخيرة على مراكز الشرطة التي استهدفت أربعة منها في ولايتي تيزي وزو وبومرداس. وتولت هذه المراكز منذ أحداث «الربيع الأسود» في أيار 2001 التكفل بمتابعة عمليات مكافحة الإرهاب بعد قرار السلطات سحب قوات الدرك الوطني لامتصاص غضب السكان إثر مقتل الشاب البربري ماسينيسا قرماح في مركز للدرك. ووقعت الاعتداءات في حدود الساعة الرابعة والنصف فجراً وهو التوقيت الذي تتراجع فيه حركة تنقل المدنيين في هذه المناطق ويعتقد بأن الهدف كان تقليص عدد الضحايا بين المدنيين وإلحاق الضرر الأكبر بأجهزة الأمن. ولاحظ محللون أن خلايا «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» تحاول منذ إعلان التحاقها رسمياً بتنظيم «القاعدة» في نهاية السنة الماضية التخلي عن الإستراتيجية السابقة التي كانت تعتمد على إدارة «الحرب» انطلاقاً من الجبال أو المناطق الريفية والمعزولة. وقد سجلت أجهزة الأمن منذ شهرين استعدادات متكررة لخلايا تابعة للتنظيم المسلح للتسلل إلى العاصمة وبعض المدن الكبرى ما عزز القناعة بوجود رغبة في تحويل «الحرب» إلى «رعب» في وسط المدن عبر تنفيذ عمليات استعراضية يكون لها صدى إعلامي كبير خصوصاً في الخارج. وأظهر شريط فيديو وزعه تنظيم «القاعدة»، اطلعت عليه «الحياة» قبل أسابيع، أحد المسلحين وهو يقوم بتجهيز قنبلة شديدة المفعول تم تعبئتها بكميات كبيرة من البارود ومئات من قطع الرصاص قبل أن توضع لاحقاً على حافة طريق في منطقة محمية في شكل كامل غرب الجزائر العاصمة وكان الهدف حافلة تقل مهندسين أجانب يعملون في الشركة الجزائرية - الأميركية «بي آر سي» التي تتقاسم أسهمها كل من «سوناطراك» وشركة «هاليبرتون». وكان لافتاً في شريط الفيديو أن المسلحين اعتمدوا تقنية «غوغل إيرث» في الإنترنيت لتحديد موقع الاعتداء وتنقلوا بسيارة عادية إلى مكان الحادث والتقطوا مشاهد مباشرة للتفجير وهو ما يؤكد قناعة الكثيرين بأن الذين تولوا تنفيذ هذه العملية غير معروفين لدى أجهزة الأمن أو على الأقل لم يكونوا يشعرون بأدنى خوف على حياتهم بعد تنفيذ هذا الاعتداء في إحدى أكثر المناطق أمناً. وبسبب الضغوط الشديدة التي مارستها أجهزة الأمن والقوات الخاصة ضدها في الفترة بين 2001 و2005 فضلت خلايا «التنظيمات الإسلامية» المسلحة الناشطة في شمال البلاد عدم المغامرة بتكرار محاولات نقل أنشطتها إلى المدن الكبرى وعمدت إلى حصر أنشطتها في المناطق الريفية والمعزولة حيث سجلت المصالح الأمنية تزايداً لافتاً للحواجز المزيفة التي ينصبها المسلحون بهدف خطف رجال الأعمال ثم الإفراج عنهم مقابل مبالغ مالية ضخمة تصل إلى أكثر من 2.5 مليون يورو مثلما حدث مع رجل أعمال بارز في منطقة القبائل يعمل في قطاع الإنشاءات. فترة «المصالحة» كانت مناسبة لتنظيم خلايا «القاعدة» ويجزم خبراء في الشأن الأمني أن فترة تنفيذ تدابير «ميثاق السلم والمصالحة الوطنية» التي أقرها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة استغلتها «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» لتنظيم تحولها إلى «تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي». ويعزز هذه القناعة أن السلطات قلّصت في هذه الفترة الضغوط على عدد كبير من المناطق التي كانت تأتي منها إشارات تفيد برغبة عدد من المسلحين تسليم أنفسهم إلى السلطات قريباً، وهي الإشارات التي دفعت السلطات العسكرية إلى وقف العمليات المسلحة في هذه المناطق لتوفير أجواء إيجابية تساعد على قبول هذه التدابير الرئاسية التي تنص على تمكين المسلحين من الحصول على العفو الرئاسي وإبطال المتابعات القضائية شرط التخلي عن العمل المسلح ما لم يتورط هؤلاء في المذابح الجماعية وعمليات الاغتصاب أو تفجير القنابل في الأماكن العامة. وفي المقابل نجح التنظيم المسلح في هذه الفترة في عقد صلات جديدة مع «القاعدة» أفضت إلى إعلان الرجل الثاني في تنظيم أيمن الظواهري في نهاية رمضان الفائت عن قبول عضوية «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» في تنظيم «القاعدة» وهو ما وفر لهذا التنظيم خبرة تقنية كبيرة خصوصاً في مجال تنفيذ الاعتداءات في الأماكن العامة. مأزق سياسي وقانوني لمؤيدي «القاعدة» في الجزائر ويؤكد قانونيون أن لجوء «القاعدة» إلى اعتماد تقنية التفجيرات في الأماكن العامة سيضع عناصرها في مأزق قانوني يبعدهم بصفة نهائية عن كل إجراءات العفو أو المصالحة التي قد تقرها السلطات مستقبلاً. وضمن المنطق السياسي والقانوني فإن السلطات تعتبر كل شخص يتورط في شبكات الدعم والإسناد للجماعات المسلحة بمثابة عضو في تنظيم غير معني بأي ترتيب للمصالحة على غرار ما كان معتمداً في السابق مع «الجماعة الإسلامية المسلحة» الأم التي تورطت في المذابح الجماعية والتفجيرات في الأماكن العامة. وحرصت السلطات طوال السنوات الأخيرة على وضع سياسة تعتمد التمييز بين مختلف التنظيمات المسلحة على أساس نوعية الجرائم التي ترتكب حيث تم استثناء ثلاث حالات من الجرائم، هي التورط في المذابح الجماعية أو وضع المتفجرات في الأماكن العامة أو الاغتصاب وهي الجرائم التي لم يعد بمقدور السلطات العفو عنها. ويقول محللون ان السلطات التي وفرت العفو الرئاسي لنحو 1200 عنصر من تنظيم «الجماعة السلفية» في إطار تدابير «قانون الوئام المدني» في العام 1999 و العفو عن 350 ناشطاً ضمن تدابير «ميثاق السلم والمصالحة الوطنية» في العام 2006 ستضطر إلى اغلاق باب العفو نهائياً أمام كل عنصر تثبت عضويته سواء ضمن شبكة دعم أو إسناد هذا التنظيم أو العضوية في «القاعدة». ويعني هذا أن تدابير العفو لن تشمل مستقبلاً عناصر بقية «التنظيمات الإسلامية» المسلحة التي لا تزال نشطة والتي لم تعمد بعد إلى تغيير أساليبها في إدارة العنف المسلح. صمت بقية الجماعات عن «القاعدة» ومنذ إعلان «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» الالتحاق رسمياً بتنظيم «القاعدة» لم تبد بقية «التنظيمات الإسلامية» المسلحة مثل تنظيم «حماة الدعوة السلفية» بزعامة سليم الأفغاني أي موقف بشأن العضوية أو التعامل مع هذا التنظيم المسلح. وهذا يعني بحسب الخبراء في الشأن الأمني أن السلطات ستحاول مستقبلاً العمل على عزل «القاعدة» عن بقية «التنظيمات الإسلامية» المسلحة التي لا تزال ناشطة خصوصاً في وسط الجزائر وغربها لا سيما أن العدد الحقيقي للناشطين ضمن «القاعدة» لا يزال غير معروف. علماً أن الأرقام الاخيرة كانت اعلنت من جانب السلطات لعدد الأشخاص المطلوبين ضمن «الجماعة السلفية» ولم يكن يتجاوز آخر السنة الماضية ال 300 عنصر فقط من مجموع 1300 قبل سنة ونصف سنة.