ما ينبغي لصاحب الحق أن ييأس. وكاتب هذه السطور يرى أنه صاحب حق بدعوته إلى الصلح بين السلطة التونسية وحزبها الحاكم من جهة، وبين أنصار التيارات الإسلامية المعتدلة من المتدينين والحركيين من جهة أخرى. ولذلك فإن الردود الغاضبة التي صدرت من بعض الإخوة لن تصدني عن رافع راية الصلح بمثابرة وصبر وتصميم. أريد من كل الإخوة المهتمين بهذا الملف أن يركزوا للنقاش حول جوهر الموضوع الذي يدور بشأنه الخلاف. فالربيع والسياحة العربية والإسم التجاري الذي نسوق به زيت الزيتون أمور ثانوية بالقياس إلى الهدف الذي أوضحته وشرحته ودعوت له في مقالة "تونس الجميلة": هدف المصالحة بين السلطة والإسلاميين. من كان معارضا لهذه الدعوة فليقدم لمعارضته سببا. ومن كان مترددا، أو متأثرا ببعض الحوادث المؤلمة التي تعرض وتنشر هنا وهناك، فإنني أدعوه لتحكيم العقل وإعمال البصيرة. ذلك أنه حتى وإن رفض الصلح وشنع على دعاته فليس له من بديل في الواقع إلا المزيد من العنت والألم والضرر البالغ بألوف المواطنين وعائلاتهم، وبالإسلام والثقافة العربية. وقبل التوسع في شرح الخلل الكبير في البدائل الأخرى، أدعو المخالفين في الرأي للتعلم من تجارب الشعوب في شأن الصلح بعد الخصومة، القديمة والحديثة، للإستفادة منها لأن العبر منها كثيرة وجليلة. وأدعو أهل التدين منهم للتأمل في هذا النص المهم لابن خلدون، فإنه موجه لهم إن كانت دوافعهم دينية محضة، وموجه لهم أيضا إن كانت الدوافع سياسية. أعرض النص، وألفت النظر قبل عرضه أن أهل التجمع الدستوري الديمقراطي لا يرون حكمهم حكم جور، ويفتخرون بأن حزبهم حرر البلاد ودافع عن هويتها العربية الإسلامية. فإن أصر أحد على مخالفة هذا الرأي واتهام السلطة بأنها عدوه الأول، فإن النص يعنيه بوجه أو بوجوه أخرى. وأواصل مناقشة المخالفين لما طرحته في مقالات أخرى قادمة إن شاء الله تعالى. قال عبد الرحمن بن محمد بن خلدون التونسي رحمه الله: "إن كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتلثلثون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك. وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه. قال صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه. وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه. وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء. لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم. فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب، وكان فيه محقا، قصر به الإنفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك. وأما إن كان من المتلبسين بذلك في طلب الرئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك، لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين. ولا يشك في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة".(1) (1) ابن خلدون، المقدمة، الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم. بيروت: دار القلم، الطبعة الخامسة، 1984. ص 159-160