قال تعالى: " إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"1 لقد صارت مفردة الإصلاح ومشتقّاتها أكثر شيوعا في الصّحافة والخطابات السّياسيّة الحكومية الرّسميّة أو المعارضة والشّعبيّة، خاصّة بعدما وصل الوضع بالبلاد والعباد في تونس إلى أسوإ مرحلة عرفتها من التّنطّع والانغلاق والتّردّي، ولا أبالغ إن قلت إنّ المشهد العام في البلد صار يخضع لمعادلتين: مجتمع ناقم يترصّد وحاكم خائف يترقّّب. ولعلّ هذا ما دفع القوى الغازية بالضّغط على حلفائها في المنطقة ودعوتها أن تخفّف الحبال وتنحو منحى ما يسمّى الإصلاح السّياسي المحتشم عبر إحداث شيء من الجرعات لإنعاش حالة الاختناقات القاتلة التي تعيشها الشّعوب المسلمة، استباقا لسدّ الطّريق أمام توسّع ظاهرة اليأس والإحباط وذهاب الشّباب إلى العمل المسلّح وتنظيماته، وخوف التحام الشّعوب بها من أجل الثّأر والتّنفيس، ومن هنا تفهم تلك الخطوات المحدودة التي وقعت في البلاد حيث أباحت السّلطة للمعارضة العلمانيّة واليساريّة خاصّة بنقدها وببروزها في بعض الفضائيّات وتمكينها من جوازات السّفر، أو إطلاق بعض قيادات حركة النّهضة من السّجن والسّماح لبعضهم أن يشاركوا في حوارات تلفزيّة مباشرة، أو عودة بعض المهجّرين المستقيلين من تلك الحركة إلى أرض الوطن بعد أكثر من عشرين سنة لبعضهم، كما التقت جهة رسميّة من السّلطة في سويسرا ببعض ممّن يسمّون "قيادات" نهضة المهجر..... والذي يجب أن يقرّر كذلك، أنّ العمليّة الإصلاحيّة في تونس شديدة التّعقيد، وهي بالتّالي صعبة المنال في هذه المرحلة، لا لآنغلاق السّلطة وعنادها فحسب، بل كذلك ، لخور النّخبة التّونسيّة المصابة بالغرور والأنانيّة والكبر والابتزاز وذبح بعضها بعضا، ومن ثمّ فإنّ هذه النّخبة "المريضة" لا يمكن أن يأتي منها خير أبدا، ولا يمكن أن تواجه الاستكبار والطّغيان، لأنّها غارقة فيه إلى حبل الوريد، فهي مازالت بعيدة جدّا عن طموحات شعبنا البسيط المعطاء، ولشعبنا الحقّ في لفظ هذه "المعارضة" التي استثمرت آلامه في مصالحها، ولذلك أحجم أن يراهن على من رشّحتهم مرحلة الخداع أنّهم سيحملون همومهم وأحلامهم نحو الخير والعدل، إذ لا ترى في "المعارضة" مثلا إلاّ الوهم والخداع والزّيف، فتراهم يرفعون شعار الحرّيّة والتّعدّد والوفاق والمصالحة، وهم أكثر النّاس مخالفة لتلك الشّعارات. لقد ملّت شعوبنا الوعود سواء كانت من السّلطة أو من المعارضة. إنّ هذه الصّراحة التي تبدو للبعض "قاسية" لا تحتاج إلى تدليل لمن يعرف الواقع السّياسي التّونسيّ، وإن أردتَ شاهدا على ذلك، فانظر كيف جرّ اليسار حركةَ النّهضة في ما يسمّى بجماعة 18 أكتوبر إلى الذّبح، حيث راحوا يبتزّونها حتّى أنّهم لم يتركوا لها كرامة، وسلخوا لها كلّ "أديولوجيّتها"، وإنّي أشفق على أولئك وأن يفعل بهم كما فعل لقد فًعل بحزب الاستقلال المغربيّ من قبل. فقد آنطلق ذلك الحزب إسلاميّا وبقيادة شيخ علم، ولقد أصبح اليوم لا يعدّ من صفوف الحركة الإسلاميّة أصلا. إنّ اليسار الماكر، قد أحسن استغلال الفرصة التّاريخيّة التي توفّرت له، حيث جرّد حركة النّهضة من التّخفّف من "الحمل الإيديولوجي الثّقيل" وقد استجابت تلك الحركة بكلّ ليونة ويسر لتلك الضّغوط، لطبيعة مختطفيها "الحداثيّين" ولمرجعيّتها المائعة ولقابليّتها للتّدجين ولولعها ب"النّموذج" التّركي المتخاذل الذي تخفّف من الإيديولوجيا في دفعة واحدة، وأعلنوا أنّهم حزب علمانيّ. إنّ المتابع للشّأن التّونسيّ يلاحظ أنّ الذين يطرحون موضوع الإصلاح أنواع، فمنهم من يطرحها مزايدة ومجاراة وإرضاء للقوى الغازية، ومنهم من يطرحها ابتزازا، ومنهم من يطرحها كذبا ونفاقا، ومنهم من يتناولها من منطلق مبدئيّ ووطنيّ، لا من منطلق مغالبة أو منافسة أو إرضاء لأحد، حيث لم يدفعه إلى مثل هذا العمل إلاّ الإخلاص لدينه ثمّ وفاؤه لشعبه وخدمة لوطنه. ولقد تنادت منذ سنوات عديدة من داخل البلد ومن خارجه، أصوات تونسيّة تدعو إلى تجاوز المرحلة وتطالب بالتّعقّل و الحوار، والقطع مع الغلوّ و التّنطّع من كلّ الجهات، ونادوا بتجاور المرحلة، وكنتُ أحدَهم، غير أنّ السّلطة مع الأسف الشّديد ورغم عجزها عن إيجاد حلّ لكلّ الملفّات العالقة بما فيها الأمنيّة، لا تزال تصرّ على الإباء والعناد والمكابرة والانغلاق، ولعلّ أعظم سبب يجعلها كذلك، مراهنتها على وهم الحلّ الأمنيّ، وقناعتها بعجز المعارضة، أو قل عدم وجودها فعلا، رغم وجودها واقعا، لضعفها وتشرذمها وآنتهازيّتها، كما بيّنت أعلاه. ولا تفهم من هذا، أنّنا استسلمنا لهذا الواقع المخادع، أو يئسنا من الإصلاح والتّغيير، ولكن لنبيّن حالة المرارة والشّقاء التي تعتري العاملين لدينهم والنّاصحين لشعبهم.... ومهما يكن من أمر، فالواجب على كلّ مسلم جادّ يدرك مسؤوليّته الشّرعيّة والوطنيّة والكونيّة والتّاريخيّة، أن يبيّن ما يراه من حقّ، ويدعو إليه بحكمة ويبشّر به بلطف، فإنْ قبله قومي فللّه الحمد والفضل، وإن لم يفعلوا فما أنا إلاّ مبيّن، لستُ عليهم بمسيطر، ويكفيني بين يدي ربّي أنّي قد أبرأت ذمّتي وأقمت حجّتي وإلى اللّه تعالى أشكو عجز قوّتي وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، والله المستعان!!! ومتابعة لجهود الإصلاح التي أبشّر بها، فإنّي حضرة القارئ الكريم، وحضرات التّونسيّين المهتمّين بالشّأن العامّ للبلد، أضع بين أيديكم هذه المبادرة التي أعددتها - على ضعف منّي وقصر باع وقلّة تفرّغ – لعلّها تكون مادّة حوار بين التّونسيّين، ربما قد ترقى إلى مشروع حلّ مقبول من طرف الجميع، فقد حاولتُ فيها أن أضع النّقاط على الحروف، وأن أعالج ما أحسبه أساسيّ وضروريّ، كما يلزم في كلّ مبادرة جادّة وشاملة يراد لها النّجاح والتّوفيق. لماذا هذه المبادرة؟: لا أخفي عليك أخي القارئ أنّ أسبابا عديدة تجعلني أتقدّم بهذه المبادرة، من أهمّها: 1 الإعذار إلى اللّه تعالى. 2 القيام بواجب النّصح لكلّ شعب تونس العزيزة. 3 القطع مع كلّ تصادم بين المالكيّة كمدرسة فقهيّة وكمدرسة في العقيدة والمنهج والإصلاح. 4 تجميع كلّ التّونسيّين بكلّ فئاتهم الفكريّة وألوانهم السّياسيّة على وحدة عقائديّة ومذهبيّة وقطعا لكلّ آختلاف متضادّ بينهم في فهم الدّين. 5 إفادة الصّحوة والشّعب العزيز الذي لا يثق في العمل السّياسيّ وشعارات السّياسيّين، أدعوهما إلى التّسلّح بالعلم الشّرعيّ الأصيل فهو الضّامن- بعد اللّه تعالى – لحمايته من كلّ المخاطر والعاصم من كلّ المزالق، والحافظ من الزّيغ والضّلال، وهو الّذي يحفظ وحدتنا ويجمع شملنا ويؤلّف بين كلّ شعب تونس، ويجعله قويّا مجتمعا، محصّنا من كلّ فتنة. 6 المساهمة في محاولة تفكيك أعقد ملفّات البلاد في تونس من أجل حلّ بين الاستقطاب السيّاسي بين الحركة الإسلاميّة التي حزّبت الإسلام وحصرته في السّياسة وتبّنته ل"مقاومة الإستبداد" وبين السّلطة التي حاولت أن تحتكر الإسلام لوحدها وتشوّهه تصوّرا أو التزاما به حسب تصرّفها السّياسيّ ومصلحتها الخاصّة، وإلاّ تعرّض من خالفها في ذلك إلى العقوبة. ولأنّ أصول مالك فيما تبيّن لي تعمل على تجميع التّونسيّين وتوحيدهم وتمنع كلّ تصادم قد يقع بين المجتمع والصّحوة من جهة، وبين الصّحوة فيما بينها من جهة ثانية، فهذه معالم "أُلْهِمها" الإمام مالك رحمه الله تعالى مفتي المدينة النّبويّة في زمنه، ووليّ الله في عهده، وملجأ النّاس بعد الله في وقته. 7 إدارة حوار علميّ بين طلبة العلم وطلبة العدل والحقّ. لقد رأيت أنّ هذه القواعد الذّهبيّة التي تتّبعتها للإمام مالك، يمكن أن تكون مرجعيّة موحِّدة، ولقد وضعها الإمام رحمه الله تعالى تتبّعا وآستقراء لأمور الشّريعة وأحوال السّلف، ممّا جعل علماء الأمّة من سلف الأمّة ومن بعدهم يجمعون على هذه القواعد العظيمة ويأتمّون بها ويستجودونها ويستحسنونها. إنّها مبادرة إصلاح متينة خالصة وليست هشّة ومغشوشة، إذ أنّها لا تعالج نتائج المسائل فحسب، كالملفّ السّياسيّ مثلا ، بل تعالج أصول الأزمة وأعماقها، لأنّه لا يمكن أن يعالج الشّأن السّياسيّ دون مرجعيّة ثقافيّة جامعة، من أجل ذلك كانت ذات مرجعيّة علم موثوق جعلت عنوانها:"". إنّها محاولة لضبط وتحديد مرجعيّة شاملة جامعة. أي أن تكون مادّة هذه المبادرة و مرجعيّتها الإسلام مكمن قوّة وحدة تونس السّنّيّة، ومجمع وحدتها المذهبيّة، وأن تشمل كلّّ مجالات نشاطات الإنسان وحاجاته الفكريّة والثّقافيّة والنّفسيّة والإجتماعيّة والمعيشيّة، حتّى نجمع كلّ التّونسيّين شعبا وحكما الذين لا يختلفون في إسلاميّة تونس وقد آتّخذته دينها منذ أربعة عشر قرنا، و أجمعوا كلّهم على إمامة مالك وثقتهم فيه رحمه الله تعالى، وقد آتّخذوه إماما لهم منذ أكثر من عشرة قرون. هذا وإن كان ما أدعو إليه، قد يكبر على كلّ قومي، فلعلّ هذه الورقات تصبح شأنا يخصّ العاملين للإسلام بكلّ مدارسهم وتنظيماتهم دون غيرهم، فضلا عن شعبي العزيز... والله المستعان!! "وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ . تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ . لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ . فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ "2. 1 هود 88 2 41 44 غافر نشر على الوسط التونسية بتاريخ 18 ماي 2007-2 جمادى الأولى 1428 ه . وصلات لمواد متعلقة بموضوعات المصالحة: -1 رد رئيس تحرير الوسط التونسية على تعقيب السيد لطفي بالحاج بخصوص مقال هام تحت عنوان لامصالحة دون فك قيود سجناء الرأي وايقاف المحاكمات السياسية 2- نص الحوار مع المعارض والعالم التونسي البروفسور منصف بن سالم . 3- مقالان لرئيس التحرير حول موضوع المصالحة الوطنية : مقال أول يشار فيه الى رسائل البروفسور بن سالم الى رئيس الجمهورية + مقال ثاني يحدد وجهة المصالحة المطلوبة ويرفض اخضاع موضوعة المصالحة لأشكال من التذلل والابتزاز 4- تعليق الأستاذ رافع القارصي 5- تعليق الأستاذ وليد بن عمر حول الموضوع 6- دعوة الأستاذ محمد بن نصر الى تعميق تجربة النقد لممارسات وخطاب حركة النهضة التونسية . 7- مقال للدكتور خالد الطراولي تحت عنوان أزمة المعارضة التونسية كلمات على الهواء 8- رد البروفسور والمعارض التونسي الد.منصف بن سالم على الحوار الدائر حول موضوع المصالحة 9- التفاعل رقم 2 للأستاذ وليد بن عمر 10- التعليق رقم 3 للسيد لطفي بالحاج في تفاعله مع رد العلامة والمعارض البروفسور منصف بن سالم . 11- مقال للأستاذ خميس الماجري تحت عنوان مبادرة اصلاح وصلح ومصالحة تحت مرجعية جامعة . 12-