السنوات الخمس القادمة حبلى بالنضال السياسي والاجتماعي في فرنسا وبدأت بوادره بشكل عشوائي في العديد من المدن. وهو نضال يعقب انتصار اليمين الجديد وهزيمة اليسار وبحث يمين الوسط عن دور. ويلزم انتظار استقرار الخريطة السياسية التي ستعقب الدورة الثانية للانتخابات التشريعية يوم 17 حزيران/يونيو لاستقراء المستقبل إذ يعيش كثير من الفرنسيين حالة من الذهول والحزن والغضب لوصول نيكولا ساركوزي، اليمين الجديد، إلى قمة السلطة. فتوقع أن ينتصر يختلف عن حدوثه. ولمزيد من التحليل لأسباب انتصار اليمين ضرورة لمتابعة آليات العملية السياسية في مجتمع رأسمالي متقدم. لقد تخيل اليسار أن الربح أكيد. وهذه الثقة الزائدة في الذات عادت لتسجيله لانتصارات على اليمين عام 2004 في الانتخابات المحلية ويسيطر للآن على 20 محافظة فرنسية من 22. وكذا انتصر في الانتخابات الإقليمية بالإضافة للانتخابات الأوروبية. وأدت الثقة المفرطة إلى إقرار دخول المنافسة بشكل أحادي وانصرف عن فكرته التاريخية في جمع ما يسمى اليسار المتعدد التوجهات تحت راية واحدة. وهذا المسعى له تفسيره إذ حاول استرداد مكانته التي فقدها مع هزيمة ليونيل جوسبان في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية عام 2002. وهو نفس المسلك الذي تبنته كل أحزاب يسار اليسار إما لتصحيح أوضاعها واثبات وجودها السياسي كما هو حال الحزب الشيوعي أو للتأكيد على المكاسب التي حققتها بالنسبة للأحزاب التروتسكية والخضر. أي أن القانون الذي عملت به كل التيارات المندرجة تحت لافتة اليسار كان هو الأنانية الحزبية وليس التوجه الجماعي الموحد الفعال لهزيمة اليمين بعد أن استمر في الحكم منذ 1995. حدث ذلك برغم أن الحس الجماهيري كان يطمح لوحدة اليسار وأي تحليل منذ سنوات يبرهن على أن سلوك قادة اليسار بكل فرقه سعى للهزيمة بلا وعي. يضاف لذلك نقطة جوهرية وهي أن احد أسباب هزيمة جوسبان كانت عبارة تعسة قالها في حملته الانتخابية وهي أن برنامجه ليس اشتراكيا فتحقق التقدم للتروتسكيين والخضر واليمين المتطرف. وكررت سوجلين رويال ذات الغلطة بقولها أنها لا تتكلم باسم حزب بعينه ولكن باسم من يلتف حول برنامجها: التعهد الرئاسي. ففي الحاليين تصرفا وكأنه يلزم للنجاح التملص من كلمتي اشتراكية ويسار وان الذي يجمع المواطنين على الاختيار هو الفرد المرشح. وبالتأكيد للفرد دور في التاريخ ولكنه مرتبط ببرنامج متماسك خير أو شرير. فالنقيض حدث في الجانب الأخر. فانتصار اليمين تظهره استراتيجيته المدروسة لمواجهة هزائمه السابقة. فساركوزي أعلن إيديولوجيته اليمينية كماركة مميزة ودون إحساس بالخجل أو بدقة بالتخلص من عقدة الانتماء لليمين فقال: إن رويال أكثر يمينية من جوسبان وأنا أكثر يمينية من شيراك ومن يتوجه يسارا هو جان ماري لو بن، اليمين المتطرف ! وساركوزي من السياسيين النادرين الذين كتب ضدهم آلاف المقالات منذ احتلاله لمنصب وزير الداخلية طوال خمس سنوات. والسؤال هو كيف يمكن لشخصية يرفضها الرأي العام في مجتمع ديمقراطي ثم يختاره لرئاسة دولة؟ وما الوسيلة التي اتبعها ليقتنع به ما يقرب من نصف المواطنين؟ لقد اقترحت رويال برنامجا قالت فيه أنها ستصحب الذين يعانون وتساعدهم على الخروج من أوضاعهم الصعبة وهي ذات الاستراتيجية لانتشال فرنسا من السقوط. وعلى النقيض فالمشروع الذي يقترحه ساركوزي يتشابه مع نمط الشخصية التي يمثلها ويرى فيها بعض الفرنسيين نمطا نموذجيا للمواطن يجمع بين الجراءة وحب المغامرة والخطاب السياسي المتحرر من قيود الدبلوماسية بل والعنيف. ولأول مرة في تاريخ الرئاسة الفرنسية يطرح احد المرشحين مسألة القيم كجوهر لحملته. إذ عادة تطرح قضايا اجتماعية واقتصادية وأمنية. فساركوزي أضاف ترسانة من القيم المرجعية فتكلم عن ضرورة إعادة إحياء القيم كالوطن والأخلاق والسلطة وحق المواطن بشرط الالتزام بالواجب حيال المجتمع ومساعدة من يستحق وبرهن على ذلك بنجاحه وإعادة القيمة للعمل. والكثير من مفاهيمه مستمدة أساسا من المحافظين الجدد، فساركوزي ليبرالي وسلطوي ومحافظ. فالسلطة يترجمها بوقوف التلاميذ في الفصل الدراسي عند دخول المدرس وعن احترام الدولة أي سيادة الأمن وتوقيع عقوبات فورية على الخارجين عن القانون حتى القصر منهم بجانب عقاب الآباء بدلا من الأبناء في بعض التجاوزات وإيقاف المساعدات الاجتماعية عن الأسر التي بها أطفال انحرفوا لدفع أوليا الأمور على تحمل المسؤولية عن تربيتهم. فالعقاب هي السياسة الأساسية ويدعمها بفكرته التي لم يتراجع عنها بشأن البعد المتعلق بالجينات و الوراثة للانحراف الاجتماعي والجريمة. وقد وصل الأمر بمحاولة سن قانون لمراقبة الأطفال في سن الثالثة لاكتشاف السلوك العنيف لديهم لعزلهم وعلاجهم واعتبارهم مجرمين احتماليين مستقبلا. وكذا اخذ عن أمريكا فكرة عدم التجريم الايجابي أي ضمان نسبة من الوظائف في الشركات وغيرها للمواطنين من أصول مهاجرة نظرا لما يتعرضون له من صعوبات في إيجاد عمل بسبب أصولهم. فهو يرفض فكرة إصلاح الشرخ الاجتماعي التي قال شيراك منذ 12 سنة انه يسعى لإصلاحه ولم يحدث. فساركوزي ينادي بأن يأخذ كل شخص مصيره بيده من اجل النجاح وهنا تساعده الدولة على إنجاز مشروعه. أي التركيز على فكرة العزيمة: من يريد أن ينجح يمكنه النجاح. فالخطاب هنا يلتقي مع روح الفرد الغربي الذي تعلم منذ الطفولة أن ينهض عندما يسقط دون عون. بل أن الكبار لا يعبئون إذا سقط فلينهض وحده. وهو لا يبحث عن تحقيق مجتمع مساواة كاستراتيجية وينتقد الفكرة كمفهوم سلبي. فالمنشود هو مجتمع الامتياز والنجاح والفردية وحماية الدولة لأصحاب الأعمال بوضع قيود تمنع تجاوز الضرائب على أرباحهم عن 50 % وبتغير قانون حق الإضراب عن العمل وفرض حد أدنى إجباري لضمان سير عملية الإنتاج أو الموصلات إلى أخره. والذهاب أبعد بالفكرة الاستراتيجية التي طورها تكشف التلاعب بالمفاهيم وتغذية الصراع. فهو بحسب قوله: يعلن بصوت عال ما يقوله الجميع في سرهم. ففي خطابه تأجيج للعداوة بين من يعملون ومن لا يعملون وكأن هؤلاء اختاروا البطالة وليس لأنهم لا يجدون عملا لان أصحاب العمل لا يخلقون عمالة.. ففيما يخص العمل يغالط في إعطاء المصطلح المعنى الحقيقي له. فهو يتكلم عن ضرورة إعادة القيمة للعمل ولا يقصد أن ينال من يعمل الأجر المتناسب حقيقيا مع العمل الذي يؤديه ولكن أن من يريد زيادة الكسب عليه العمل أكثر. وهو يهاجم بذلك قانون العمل الذي خفض ساعات العمل الأسبوعي من 39 ساعة إلى 35. ولأنه ليس من اليسير الرجوع عن مكسب اجتماعي تحقق بإلغاء القانون فهو يحاول إفراغه من محتواه بالسماح لمن يريد بقبول ساعات العمل الإضافية التي قد يقترحها صاحب العمل نظير إعفاء صاحب العمل من دفع التأمينات الاجتماعية عليها لتشجيعهم وعدم إدخال هذا الأجر الإضافي في ما يعلنه المواطن من دخل يدفع عليه ضرائب الدخول. والمستفيد الأساسي من هذا هو صاحب العمل بطبيعة الحال إذ يعني انه لن يعين عمالة جديدة ويكتف بإعطاء ساعات عمل إضافية للعاملين لديه. والمغالطة الأخرى هي أن أصحاب الدخول المتردية يمارسون الأعمال المرهقة فمطالبتهم بالعمل أكثر فيه إجحاف فهم يموتون بعملهم الراهن سبع سنوات قبل من يمارسون أعمالا مريحة. وبقول أخر يكون ما يقترحه هو العمل في السوق السوداء بشكل قانوني. وساركوزي في خطابه مهاجم وعدواني ويستخدم اللغة الشعبية والالفاظ النابية فيتكلم عن الحثالة ليصف أولاد الأحياء الفقيرة المشاغبين، وعن اللصوص والنصابين لمن لا يدفعون ثمن تذكرة المواصلات العامة، وعن الكسالى لوصف العاطلين، وعن المتواكلين الذين يتلقون مساعدات اجتماعية من الدولة... ففي مقابل هؤلاء يقوم الشرفاء من المواطنين مع طلوع النهار ليعملوا ليعيش الآخرين من عرقهم. والخطاب السياسي ليس مجرد كلمات وإنما نبرة صوت وأداء تمثيلي راق كان حكرا طوال العقود السابقة على جان ماري لو بن، اليمين المتطرف العنصري، واستطاع ساركوزي تبنيه ببراعة منذ 2003 عندما بدء التلميح بنيته للتقدم لكرسي الرئاسة والعمل بدأب في هذا الدرب مدعوما بترسانة إعلامية يسيطر عليها بعض أصدقائه من كبار راس المال. وهو ما يجعله يختلف في تلك النقطة عن رويال التي بدأت حملتها الانتخابية متأخرة إذ لم يتأكد ذلك إلا قبل شهور قليلة. وفاعلية الخطاب السياسي تتزواج مع مقترحاته المستقبلية الملتقية مع ما يسمى بشخصية الفرد الذئب، أي الجدع والشاطر والمخاطر لكي ينجح. وهي شخصية أصحاب المشروع الباحث عن النجاح والثراء والملكية. والخطاب السياسي باستخدام تلك المفردات يجد من يتجاوب معها في ظل تنافس طاحن بين المواطنين منذ الطفولة حيث المنافسة والامتياز والجدارة والانتقاء هي مقاييس سواء في التعليم أو العمل. فساركوزي لا يبتكر ولكن يعيد تكثيف تلك السمات التي تربى عليها المواطن منذ النشء. وفي المرحلة الأخيرة من الانتخابات ركز هجومه على حركة الطلبة والعمال عام 1968 والتي قادت إلى رفض الجنرال ديجول في استفتاء عام. وبرغم الاجابيات العظيمة للحركة بالنسبة للطبقة العاملة وللمواطنين عامة على صعيد الحريات. فساركوزي وضع كل مثالب المجتمع بل والرأسمالية على شماعة هذه الحركة واعتبارها سبب كل المصائب من كل نوع. ما جعل لهذه الاستراتيجية فعالية تمثل في أنها نفس القيم التي يطرحها اليمين المتشدد وهو ما جعل أكثر أتباعه يهجرون جان ماري لو بن العجوز، 79 سنة، ويلتفون حول شاب ليجدد معركتهم لفترة طويلة ويدافع عن مبادئهم. والعامل الآخر هو أن فرنسا تعجز حيث أكثر من ربع السكان يتجاوز عمرهم الستين سنة وغالبيتهم أعطوا أصواتهم له. فالملاحظ اجتماعيا انه بتقدم العمر يميل المواطن للأفكار المحافظة خاصة وان تطور الفردية بشكل حاد أدى إلى عزلة يعان منها كبار السن بتفكك الأسرة التقليدية. وفلسفته التي تعود بالمجتمع للتقهقر تلخصها هذه الكلمات: اعد بان كل ما تركه اليمين لليسار سيتم استعادته. إلى جانب في ما اسماه بالقطيعة مع السياسة الفرنسية السارية منذ ديجول أي تعديل التحالف مع الولاياتالمتحدة ليصبح شريكا وليس مستقل القرار وتغيير السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط التي تتهم بأنها محابية للبلدان العربية على حساب إسرائيل وأخيرا رفض اعتبار الاستعمار جريمة ضد المستعمرات بالكف عن الاعتذار لشعوبها. فهو كان وراء القانون الذي ألغاه جاك شيراك، الرئيس السابق، بهذا الشأن وكان يدعي أن الاستعمار لم يكن سيئا. فساركوزي يعتبر أن تلك السياسة كانحراف يساري حتى ولو كان شيراك الديجولي منفذها. وتوج ساركوزي خطابه ببعض من الوصايا العشر : لن اكذب عليكم ولن أخونكم ولن أجعلكم تأسفون على اختياركم. سأكون رئيسا لكل الفرنسيين ومتفهما لقلق من لم يعطوني أصواتهم. فهو ليس كرويال منافسته، أم شجاعة، تأخذ باليد لتعاون على النهوض. هو رئيس قائد في الخط الأول في ساحة المجتمع ليقرر وليس ليلعب دور الحكم وهو دليل ومرشد للنجاح والثراء والحفاظ على الهوية الفرنسية من غزو المهاجرين. ومن الدهاء أن ساركوزي استخدام أسماء كبار المبدعين في التاريخ الفرنسي كمرجعية لمشروعه. فاختلط في هذا المشروع فيكتور هوجو الذي ناصر كوميونة باريس وألبير كامي بإنسانيته ومعاداته للحروب مثله مثل جان جوريس والمؤرخ الثورة الفرنسية الكبير ميشليه واستشهد بأسماء من أبطال المقاومة من الشيوعيين وختم أعماله بزيارة قبر الجنرال ديجول الذي لا يجمعه به فكرة إذ سيقود سياسة عكسية على طول الخط مع الراحل. إن الخيار صعب في مجتمع رأسمالي متقدم إذ خرج رأس المال الكبير عن طوع الدولة في سياسة عولمة شاملة. والدولة لا تملك حيال هذه العولمة إلا خيار مغازلة رأس المال لكي لا يهاجر خارج الحدود ودفعة للبقاء يتم بتقديم ضمانات بأنه سيحتفظ بقسم كبير من الأرباح التي يحققها وتخفيف أعباء نصيبه في التأمينات الاجتماعية على العاملين لديه. يضاف لذلك توفير قدر من الحماية من المنافسة العالمية برغم قناعته بالليبرالية كقاعدة نظرية لا نقاش حولها. وتلك الضمانات يضاف لها إطلاق يده في التخلص من العمالة في ظل التطور التكنولوجي المستمر. ومطالبة رأس المال بالحد من الاضرابات العمالية وإجبار العاملين على الالتزام بإدارة العملية الإنتاجية بحد أدنى أثناء التفاوض بين النقابات وأصحاب المشروعات. وكل تلك العناصر هي جزء جوهري من برنامج اليمين الجديد. وسوف يؤدي المساس بها إلى حركة رفض واسعة لا شك فيها وتنتهي بقدرة النقابات على الوحدة وممارسة الضغط للحصول على مكتسبات أو على الأقل بعدم خسارة ما اكتسبته عبر التاريخ ويقره الدستور وقوانين العمل. واستراتيجية ساركوزي لسحب البساط من تحت إقدام الحزب الاشتراكي ويمين الوسط قد تعطي ثمارها وبرهنت أن خيانة الساسة لمرجعيتهم الفكرية ممكنة بالحصول على مكانة في السلطة أيا كان الحاكم. فالعديد ممن شغلوا مناصب وزارية في الحكومات الاشتراكية قد يلحقون بالحكومة اليمينية. وذات الشيء بالنسبة ليمين الوسط حيث هجر 29 نائبا منهم فرنسوا بايرو ولم يبق معه إلا 4 نواب ليشكل معهم حزبه الجديد حركة ديمقراطية. وسيكون من بين الفارين بعض الوزراء. وفي ذات الوقت فرض الحزب الاشتراكي على أعضائه هدنة داخلية للكف عن الانتقاد والصراع على رئاسته وذلك حتى نهاية الانتخابات التشريعية ثم عقد المؤتمر الاستثنائي لعمل جرد حساب. ولا ينتظر المواطنون من المحامي السابق المليونير ساركوزي، ثروته 2.5 مليون يورو، إلا أن تبحر فرنسا في بحر الظلمات وليس مثله على يخت صديق من أصحاب الملياردارت في مالطا. إذن كانت فاتحة سوء وأغضبت الشعب إذ كان قد تكلم عن فترة استجمام فظن الجميع انه سيذهب لواحدة من الجزر الفرنسية أو إلى دير. ودفعت رحلة البذخ الان فينكيلكروت، الفيلسوف الصهيوني وأحد اكبر أتباعه أن يكتب في صحيفة لوموند مقالا ينتقده ويختمها بقوله: لقد عشنا طوال ثلاثة أيام الرحلة في خجل.. فهل سمع الرئيس هذه الكلمات في مالطا؟ * د. مصطفى نور الدين عطية.. كاتب مصري مقيم في باريس.. مدير تحرير مجلة "نيسانس" في علم النفس في فرنسا (بالفرنسية) ومراسل لجريدة "الأهالي" الأسبوعية بالقاهرة