إن انعقاد المؤتمر الثامن لحركة النهضة يمثل محطة هامة في تاريخ الحركة وفي تطورات الأوضاع في تونس. هذا اللقاء الذي ضم ثلة من أبناء الحركة شاءت الأقدار أن تجمع بينهم بعد أن هجّروا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله،... وانتشروا في أرض الله يواصلون رسالتهم متمثلة في النضال من أجل تحقيق الكرامة لهم ولكل أبناء الشعب التونسي الذي امتحن في أعزّ ما يملك الإنسان، حريته ودينه. لقد كان حقا لقاءً أخويا حضره جمع من المؤتمرين انتخبوا انتخابا حرّا من أبناء الحركة، الأمر الذي يؤكد على تمسك هذه الحركة الوطنية ذات التوجهات الإسلامية بمبدأ الشورى في صفوفها قبل أن تطالب به الأخرين. وكانت هاتان السمتان (الروح الأخوية والشورى المبنية على الصراحة والشفافية) الطابع العام الذي ساد المؤتمر طيلة انعقاده. مرارة طول المحنة التي يعاني منها الشعب التونسي، والحال أن أبناء الحركة سواء كانوا في الداخل أو في الخارج هم جزء من هذا الشعب، بهمومه وآماله وآلامه. ولعل انعقاد مؤتمر الحركة في الخارج دليل على عمق المحنة وانسداد وضع الحريات في بلد الزيتونة. إلى حدّ أصبح فيه صاحب الحق في بلده مهجّرا ومهمشا ومهانا ، بينما يرتع السائح والغريب فضلا عن المجرمين الحقيقيين في البلد دون قيود. وتزيد الأخبار والتقارير الواردة عن البلد مرارة وحزنا، منها ما يتعلق بتفاقم المشكلات الاجتماعية والإجرام وظاهرة الغلو والتطرف في التدين ويقابلها مظاهر التفسخ والميوعة في أوساط الشباب وإنتشار الفساد والرشوة في كل المواقع والمستويات . و ربما كان أخطرها ظهور بوادر عنف مسلح في البلاد لأول مرة منذ ما يقارب ثلاثين عاما، بما يتناقض مع النهج السلمي للحركة. الأمر الذي يعني أن إقصاء تيارالصحوة الإسلامية المعتدل مقابل التمادي في نهج الانغلاق السياسي والتضييق على مظاهر التدين العام بطرق قانونية وأمنية فتح الباب أمام كل الاحتمالات الخطيرة المهددة لاستقرار البلاد، وهذا الاستقرار هو جوهر ما تصبو حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقا) إلى تحقيقه عبر نضالاتها الطويلة. ويعزّ على الإنسان أن يشاهد البنيان الذي كان مساهما رئيسيا في بنائه حجرة حجرة يتصدع وينذر بالسقوط. فكيف إذا كان الأمر يتعلق بمستقبل مجتمعات وشعوب؟ إن لسان حال المؤتمرين يتساءل: لماذا لم نكن مجتمعين في بلادنا، مع إخواننا، لنقوم برسالتنا في ترشيد الصحوة الدينية وخدمة الشعب والمجتمع؟ ويقود هذا التساؤل إلى العامل الآخر الذي يزيد من أجواء المرارة التي خيمت على المؤتمر، بسبب تعذر المشاركة المباشرة لجسم الحركة وأبنائها في الداخل في فعاليات المؤتمر. فكان الداخل الحاضر الغائب في المؤتمر. ففي كل جولة من النقاش، كانت المداخلات تؤكد على ضرورة تقديم السند والدعم الكاملين للداخل. وكانت صور السجون للمناضلين ومحاصرة المسرّحين حاضرة في ألأذهان، تعود بين الفينة والأخرى في جولات النقاش والحوار داخل قاعة المؤتمر أو في فترات الاستراحة. إن قضية المساجين والمسرّحين المحاصرين في حرياتهم ومعيشتهم بقيت الشغل الشاغل لأبناء الحركة ولكل ضمير حي، وجاء المؤتمر ليؤكد تمسك الحركة بمطلب فك الحصار عن المسرّحين واطلاق سراح المسجونين الذين ظلموا بغير حق، ذنبهم الوحيد أنهم اختاروا الفكرة الإسلامية منهجا لحياتهم وسعوا إلى عرض قناعاتهم بمنهج سلمي على الناس في سبيل تحقيق حياة الكرامة والعزّة للشعب وللوطن. بيد أن الداخل ليس هو الهاجس الوحيد لأبناء حركة النهضة، بل إن الأجواء العامة المخيمة على الوضع الدولي تدعو إلى القلق الشديد. وعبّر المؤتمرون عن انشغالهم بما هو سائد في المحيط العالمي الذي مايزال محكوما بتداعيات 11 سبتمبر التي تتمحور في التضييق على الإسلام عامة ، وعلى العاملين للإسلام خاصة ، وهو ما استتبع استشراء العولمة في مجالات الحياة المختلفة، وخاصة منها المجال الاقتصادي والثقافي مما كان له الأثر السيئ على المناهج التربوية في العالمين العربي والإسلامي، وعلى الوضع الاقتصادي للشعوب التي يزداد فقرها فقرا وتضعف فيها الطبقة الوسطى لصالح الطبقات الفقيرة والغنية. ولكن لم يكن المؤتمر مناسبة للتنفيس عن هذه المشاعر المشحونة بالمرارة، بقدر ما كان فرصة لتجديد العهد على المساهمة في رفع التحديات في حدود الاستطاعة والجهد البشري، وبما تسمح به الوسائل النضالية السلمية. ولم تكن مشاعر المرارة لتحبط أصحاب المبادئ، بل تزيدهم شعورا بالمسؤولية. في هذا الإطار، جاء التأكيد في المؤتمر على جملة من القرارت من أهمها العمل على تحقيق الانفتاح السياسي سبيلا للتغيير الديمقراطي، عبر الضغط الميداني المدني والعمل الإعلامي وتطوير العمل المشترك مع كل قوى المعارضة. ولقائل أن يقول: إن هذا الكلام قديم وأصبح ممجوجا، والحال أنه لم يحرك ساكنا من انسداد الوضع السياسي وكبت الحريات وتفاقم تدهور معيشة المواطن في تونس. قد يكون هذا الاحتجاج يتضمن في ظاهره جانبا من الصواب، ولكن المتأمل في تطورات الحياة السياسية التونسية، يلاحظ بوادر تململ لدى الرأي العام في الداخل بسبب عمق الأزمة التي يعاني منها الشعب، وبوادر قلق لدى أوساط صناع القرار في العالم بسبب التخوّف من المجهول، في ظل حالة الاختناق والتوتر المنذرة بعواقب وخيمة. التمسك بالهوية : ولهذا كان التمسك بمبدأ الانفتاح والاصرار على التغيير الديمقراطي أكبر ضامنين للخروج من مأزق الانسداد السياسي. بل الثبات على المبدأ هو الموصل لشاطئ السلام. ولا يمكن التراجع عن هذا الهدف الأمّ في الوقت الذي يتطلع فيه الرأي العام إلى حلّ شامل يضع حدّا لمحنة طال أمدها. كما لا يمكن التراجع عن النهج السلمي بحجة انغلاق السلطة ورفضها لكل نداءات المصالحة التي اطلقتها حركة النهضة ووطنيون آخرون يغارون على بلادهم. ولعل الطابع الذي ساد المؤتمر هو الأمل في أن ساعة الفرج قد زادت اقترابا بإذن الله تعالى و أن شدة المحنة قد أذنت باقتراب الفجر. ويزيد الأمل بالنظر إلى ما يحدث في دول الجوار في المحيط المغاربي والعربي حيث ظهرت أقدار معتبرة من الانفتاح السياسي، وتطور ملحوظ في التجربة الديمقراطية، ومساع جادة في المصالحة الوطنية، وهو ما يجعل تونس تبدو كأنها نشاز في هذا السياق. وستؤتي سياسة الضغط ثمارها عاجلا أم آجلا. والأمل معقود على تنامي ظاهرة التدين في تونس في صفوف الرجال والنساء وعلى الأخص منهم صفوف الشباب مما مثل صحوة ثانية واسعة الانتشار. ويجب التعريج في هذا الصدد على الهوية الدينية. إذ لا غرابة أن يؤكد المؤتمرون على التزام الحركة بالصفة الإسلامية، وعلى الانتماء إلى الأمة الإسلامية و الانحياز إليها في قضاياها العادلة، وفي همومها الحاضرة ومشاريعها النهضوية. ذلك أن الحركة خرجت من رحم المجتمع التونسي العريق في هويته الإسلامية، ولا يمكن لأحد أن يسلخ هذا الشعب عن هويته ودينه. الصفة الشورية : ولعل التمسك بالهوية الدينية هو الضامن للخط الشوري الذي ساد الحركة طيلة تاريخها. وكانت محطة المؤتمر مناسبة جديدة للتأكيد على هذا التوجه. وعندما جاءت المحطة الانتخابية في المؤتمر لانتخاب رئيس للحركة، كانت ساعة الحقيقة التي بينت بكل وضوح وشفافية مدى رقي الوعي بالصفة الشورية. حيث أصرّ رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي على احترام مبدأ التناوب، وشدّد على ضرورة تجديد الرئاسة لتحويل الفكرة إلى واقع، وتقديم نموذج حي للديمقراطية الشورية لدى الحركات الإسلامية. وقد استمع المؤتمرون إلى الشرح الضافي الذي قدمه الشيخ راشد في موضوع التناوب على الرئاسة، وتمت العملية الانتخابية في أجواء من الحرية والمسؤولية، انتهت بإعادة التجديد للشيخ راشد في مسؤولية رئاسة الحركة وإلزامه بذلك بعد أن أعطاه 60 بالمائة من المؤتمرين أصواتهم في آخر دورة من دورات الانتخاب الثلاث. وعلى عكس ما يظن البعض، فإن هذا التجديد لا يمكن تأويله بغياب الصفة الشورية داخل الحركة، وبالتالي لا يمكن الإسراع بإطلاق الأحكام جزافا على الحركة واتهام رئيسها بالسلطوية، والتعميم في القول بأن حركة النهضة مثلها مثل الأنظمة العربية التي تتشبث قياداتها بالزعامة والمناصب. إن حركة النهضة حركة إسلامية مسؤولة تحمل رسالة دعوية ذات أهداف إنسانية وتناضل من اجل ضمان كرامة الشعب التونسي وحريته وهويته الإسلامية. كواليس المؤتمر: كانت نسبة تمثيل المؤتمرين لبقية أبناء الحركة واحد عن كل أربعة أعضاء وهي أكبر نسبة وقع العمل بها في كل مؤتمرات الحركة السابقة. من المفارقات أن العنصر النسائي من بين المؤتمرين كان الطرف الرافض لتعيين نسبة معينة (كوتا) منهن في مؤسسات الحركة، مع التأكيد على مقياس الكفاءة في الاختيار. امتدت عملية انتخاب أعضاء مجلس الشورى ورئيس الحركة والإعلان عن النتيجة إلى ساعة متأخرة من الليل، وانتهت أعمال المؤتمر قبيل الفجر، وصلى المؤتمرون صلاة الصبح قبل أخذ نصيب من الراحة. ساعد رئيس المؤتمر نائبان، أخ وأخت. تخلل فقرات المؤتمر بعض الفقرات التنشيطبة ( أناشيد وشعر...) مما ساهم في الترويح عن المؤتمرين والمساهمة في التخفيف من الأجواء الجادة وحتى الساخنة أحيانا. مما كان ملفتا للنظر وكان له معنى مهما أن كل مصاريف المؤتمر ( نقل ومصاريف إقامة...) قد تحملها المؤتمرون سواسية. من الفقرات المؤثرة، التعرض لحالة اجتماعية دقيقة لأحد أبناء الحركة في الداخل لم يتمكن من إجراء عملية جراحية باهظة الثمن واستشرى المرض في بدنه. فكان تفاعل الحاضرين كبيرا حيث تم على عين المكان جمع مبلغ كاف لإجرائها إلا ان احد الحاضرين ( لم يعلن عن اسمه ) أصر أن يتكفل لوحده بكامل المبلغ.