الدم الذي يسيل غزيرا في قطاع غزة ، و الذي امتد للضفة الغربية، يحول القضية الفلسطينية، التي كانت في الأمس القريب ، قضية مركزية في المشروع النهضوي العربي، إلى جيب صغير يتقاتل عليه الإخوة الأعداء، فيجعلان القضية الفلسطينية شيئاً من الماضي، بينما كان العرب يرون فيها مستقبلهم . الدم الذي يغطي أرض فلسطين القابعة تحت الاحتلال الإستيطاني الصهيوني ، الذي ما انفك يعمل ليلا نهارا على تهويدها، يطوي صفحة من تاريخ الشعب الفلسطيني، الذي بات يرى بأم عينيه ، كيف أن الوطنييين و الجهاديين الذين ناضلوا من أجل الدفاع عن المشروع الوطني الفلسطيني و تحرير الأرض السليبة ، َيتِيهُون في الطريق بعد أن أعمت السلطة بصيرتهم ، والحال هذه هم يقتلون قضيتهم وينتحرون. الوطنيون من حركة "فتح "، و الإسلاميون من حركة "حماس"، سقطوا في أتون حرب أهلية مدمرة، إذ شهد قطاع غزة خلال الأسبوع الماضي أعنف موجة من الاقتتال الداخلي منذ توقيع اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية قبل ثلاثة أشهر، مخلفا مئات القتلى والجرحى.وما يجري من اقتتال بين "فتح" و"حماس" هو صراع على المواقع والنفوذ الذي كرسه اتفاق مكة الذي أسس للمحاصصة والثنائية وبالتالي لموجات الاقتتال التي نشهدها الآن. لاشك أن هذا الاقتتال هو النتيجة غير المعقولة أو التناقضية للإنتفاضة الثانية التي لعبت فيها الحركة الإسلامية في فلسطين دورا رياديا، ولإخفاق الحركة الوطنية المنظمة والمتمحورة حول حركة فتح التي كان يقودها الرئيس الراحل ياسر عرفات، و التي عجزت تاريخيا في التوصل إلى تحقيق هدفها عبر التفاوض مع "إسرائيل " في خلق د ولة فلسطينية في قطاع غزة و الضفة الغربية . وكانت الدوافع العميقة المفجرة للإنتفاضة الثانية 28 سبتمبر 2000 تكمن في السياسة الصهيونية التي تستخدم القوة القهرية و القمعية (الحصارات، واغتيال المسؤولين و الإذلال على نقاط العبور، التي تفضح عذاب شعب بأكمله في مقاومته الإحتلال وقد تخلى عنه المجتمع الدولي) و التي تلتهم الأرض الفلسطينية (عبر التوسع في الاستيطان )، إضافة إلى رفض السيد عرفات العرض الأميركي – الصهيوني الذي قدم له في مفاوضات كامب ديفيد ، والذي هو بكل تأكيد يتناقض مع مقياس القانون الدولي الذي يفرض على "إسرائيل" أن تنسحب من جميع الأراضي التي احتلتها في العام 1967، و أن تفكك جميع المستوطنات و من ضمنها تلك القائمة في القدسالشرقية، زد إلى ذلك فساد و عجز و عدم فعالية مؤسسات السلطة الفلسطينية. وكان الحقد و الغضينة تجاه ما يسمى السلطة الفلسطينية بصورة غير صحيحة- السلطة ليست سوى وهم سلطة ، وعمليا فإنها برمتها إعادة تنظيم للاحتلال الصهيوني . بمعنى احتلال تحت ستار السيطرة الفلسطينية- وهو الذي مكن منطقيا حركة حماس من تحقيق فوز كاسح على حركة فتح في انتخابات يناير 2006، التي ظلت عاجزة عن تجديد نفسها بعد رحيل مؤسسهاعرفات في عام 2004، على الرغم من المساندة القوية التي كانت تحظى بها من قبل قسم كبير من المجتمع الدولي. و في ظل الرفض التي كانت تصطدم به من أجل الهيمنة الكاملة على السلطة، إذ رفضت حركة "فتح "برئاسة الرئيس محمود عباس المسيطرة على الأجهزة الأمنية ، التعاون الكامل مع حماس في أجهزة السلطة، رغم أن حماس فازت قبل أكثر من سنة بأغلبية حاسمة في الانتخابات البرلمانية، واضطرت فتح إلى عدم قبول حسم الناخب الفلسطيني لأن كل العالم طلب منها ذلك، الولاياتالمتحدة، أوروبا، معظم الحكام العرب وبالطبع "اسرائيل "– حثوا فتح على عدم التعاون مع حماس في السلطة. في ظل هذا الرفض ، انطلقت حماس في ممارسة التحدي العسكري عبر تشكيل القوة التنفيذية التابعة لها، انطلاقا من قناعة لدى حماس أن العالم بأسره اتحد لإسقاطها. زعم حماس مبرر. "إسرائيل"، أميريكا، الاتحاد الاوروبي وكذا الدول العربية – جميعهم حاولوا خنق الوليد في مهده. وبيد أجهزة فتح عشرات المقار والقيادات، ترغب حماس في أخذها لها. من ناحية ميزان السلاح، يوجد لقوات حماس تفوق في غزة. و هاهي حماس تحكم سيطرتها على جزء كبير من قطاع غزة بعد أن استولت على مقر جهاز الأمن الوقائي التابع للرئيس محمود عباس ورفعت أعلامها الخضراء عليه واصفة هذا بأنه "تحرير ثان"، وبعد ن سيطرت أيضا على مقر المخابرات العامة الرئيسي في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وعلى مجمع الأجهزة الأمنية في رفح.وباتت مقار ومؤسسات رئيسة للسلطة الفلسطينية مهددة بالسقوط في أيدي قوات "حماس"، الأمر الذي دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى إقالة رئيس حكومة الوحدة الوطنية إسماعيل هنية وإعلان حال الطوارىء وتشكيل حكومة تنفذ أحكام الطوارىء. فالمعركة في غزة ليست حربا أهلية، بل مواجهة بين منظمتين عسكريتين تتصارعان على السيطرة على بؤر القوة على ظهر الشعب الفلسطيني . الولاياتالمتحدة الأميركية و "إسرائيل" تريدان و تشجعان هذا الإقتتال ، بهدف إضعاف قوة الإسلاميين ، وتصفية المقاومة. بيد أن نجاح حماس في السيطرة على واقع غزة ، خلق واقعا جديدا. واقع سلطتين فلسطينيتين: حماستان في غزة وفتح لاند في الضفة الغربية. وهكذا تحولت غزة ما بعد الانسحاب الصهيوني ، والتي كان يمكن لها أن تصبح نموذجا رائعا للاستقلال الفلسطيني، إلى حالة من الفوضى و الدمارو الاقتتال . فالسلطة وضعت تحت الحصار. لا مال. اجهزة التعليم، الصحة والخدمات تنهار. الفلسطينيون المحاصرون في غزة، أو الذين عاد الاحتلال إليهم في الضفة الغربية ، دخلوا في طورجديد يطوي نهائيا المرحلة التي دشنتها اتفاقيات أوسلو الموقعة في 13سبتمبر 1993. فقد وقعت حركة فتح على اتفاق اوسلو وأقامت بموجبه السلطة الفلسطينية، ومنذ ست سنوات وأكثر لا يوجد أوسلو. ويبدو أنه حان الوقت ألا توجد سلطة. من ناحية فلسطينية فإن تصفية السلطة هو السلاح شبه الوحيد للفلسطينيين ضد "اسرائيل". الفراغ السلطوي في غزة، وبعد ذلك في الضفة، لا يمكنه أن يبقى كذلك لزمن طويل، وسيتعين على "إسرائيل "أن تفرض هناك القانون والنظام – تعيد احتلال المناطق وتأخذ المسؤولية التي لا أحد في "إسرائيل" يريدها. الاقتتال الفلسطيني يدمر المجتمع الفسطيني.ففي مواجهة الاحتلال الصهيوني ، أظهر هذا المجتمع وحدته ، و قدرته على المقاومة في الانتفاضة الأولى ، التي حررت "إسرائيل " من الأوهام التي ظلت تعيش عليها منذ انتصارها في الحرب الخاطفة عام 1967.و شكل هدف بناء دولة فلسطينية في قطاع غزة و الضفة الغربية قاسما فيدراليا مشتركا لمختلف مكونات المجتمع الفلسطيني المنظم في عدة محاور عائلية و عشائرية ، إذ تمكن الزعيم عرفات ، بسياسته ، ومعرفته الدقيقة لواقع شعبه، أن يحافظ على وحدته الوطنية. الآن الأوهام سقطت.و الدولة الفلسطينية المستقلة أصبحت بعيدة المنال من الناحية العملية على الأقل.و جاء مسار الاقتتال الفلسطيني الأخير ليعزز البلبلة و التشاؤم في صفوف الشعب الفلسطيني ، ويزيد من انهيار المشروع الوطني الفلسطيني ، و تفسخ القضية الفلسطينية على طريق التصفية. بعد أربعين عاما من الهزيمة العربية في عام 1967، التي مكنت الشعب الفلسطيني من أخذ زمام الأمور بنفسه عبر تجسيده خط المقاومة ، هاهو مصير مشروعه الوطني يفلت من من بين يديه لأول مرة. -أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني-19 جوان 2007