احتل البنك الدولي مركزا مهما في واجهة الأحداث السياسية والاقتصادية العالمية، بسبب فضيحة الفساد التي تعرض لها رئيسه السابق بول وولفويتز، أكثر من إسهاماته في نظريات التنمية. وبمناسبة إعداد تقريره المقبل حول “التنمية في العالم” الذي أعاد فيه طرح موضوع غير جذاب (لم يعالج منذ عام 1982) وهو الزراعة. وتمثل الزراعة في البلدان النامية أكثر من %30 من الناتج المحلي الإجمالي و%60 من فرص العمل. وعلى الصعيد العالمي، هناك أكثر من %70 من الفقراء يعيشون في مناطق ريفية، ولاسيما في جنوب آسيا وإفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى. ويبرهن البنك الدولي بالحجة أن النمو في الزراعة يساهم أكثر من القطاعات الأخرى في تخفيض الفقر، وأن فاعلية الزراعة تعتمد على الاستثمارات العمومية: وهذه الأخيرة يجب أن تزداد، ولاسيما في إفريقيا. ويعالج التقرير السياسات العامة الداعمة للزراعة، ولكن أيضا للقطاعات الأخرى، لأنها تساعد اليد العاملة الرخيصة على ترك الزراعة في ظروف جيدة. ويعتبر هذا الإسهام من البنك الدولي مرحبا به بقدر ما بقيت الزراعة موضوع نقاش حاد بين اقتصاديي التنمية. ويذكر الخبيران الاقتصاديان من البنك الدولي مارتين رافيون وشاو هواشين أن التخفيض المدهش للفقر في الصين منذ العام 1980، يعود بالدرجة الرئيسية إلى زيادة النمو في المناطق الزراعية (وإلى الهجرة نحو المدن) أكثر منها في المناطق المدينية. وأظهر خبيران آخران من البنك الدولي وهما لوك كريستيانسين وليونيل ديميري، أيضاً، أنه في البلدان ذات الدخل المنخفض، كانت الزيادة في الإنتاجية الزراعية لها تأثير قوي على تخفيض الفقر: فالنمو في القطاع الزراعي امتلك القدرة على تخفيض الفقر بنحو 2 - 3 مرات أكثر من القطاعات الأخرى (الصناعية والخدماتية). ومع ذلك، فإن هذه الأسبقية للزراعة تنخفض كلما أصبحت البلدان غنية. ففي إثيوبيا على سبيل المثال، الإنتاجية الزراعية لا تزال ضعيفة لكي تواكب النمو الديموغرافي، الأمر الذي يقود العائلات الريفية إلى مشترين للقمح. وحسب الخبير كريستيانسين، فإن نمو الصناعة والخدمات لم يكن له أي تأثير في تخفيض الفقر. وفي المقابل، فإن النمو بنحو %4 في قطاع الزراعة خلال عقد، كان كافيا بتخفيض الفقر إلى الثلث، عبر تنويع الزراعة، وتحسين إدارة الموارد(الماء)، والبنيات التحتية، والأسواق الريفية، ومن خلال تشجيع الأعمال الريفية خارج نطاق الزراعة. إنها مقومات النمو للبلدان الآسيوية، على سبيل المثال، تايوان، وتايلاندا، والفلبين، إذ سبقت عملية التصنيع في هذه البلدان، تحويل تكنولوجي للزراعة، التي كانت تعاني في السابق من نقص في الإنتاجية. ومع ذلك، فإن تحرير الأسواق الزراعية المقترحة من البنك الدولي إذا كانت مفيدة في البلدان التي تعمل فيها الأسواق بصورة جيدة، فإنها غالبا ما كانت لها تأثيرات سيئة في البلدان الفقيرة. إذ إن الفلاحين يكرهون المغامرة بسبب فقرهم، إضافة إلى أنهم لا يستطيعون الحصول على قروض زراعية. والحال هذه، تكون منتوجاتهم غير تنافسية، أمام المنتوجات الزراعية المستوردة من البلدان الصناعية المدعومة غالبا. إن عقيدة التنمية خادعة في طبيعتها. فهي تضيّع عقولنا كما فعلت في زمانها فكرة الأرض المسطحة لكن النتائج هنا أخطر بما لا يقاس على وجودنا. وفي واقع الحال وعلى الرغم من كل الخطب حول الحاجات الحيوية والنضال ضد الفقر وبعد مرور عقود عدة من الزمن مكرسة رسميا للتنمية ما زال على ازدياد عدد الأشخاص الذين يعانون الحرمان في أقصى أشكاله. وأضحى مفهوم التنمية مجرد ابتهال لا يحث على القيام بأعمال طارئة وملموسة كما يفترض. بيد ان الواقع شاخص أمام أعيننا: هناك 80 بلدا تراجع دخل الفرد فيها عما كان عليه منذ عشر سنين وعدد الذين يعيشون يومهم بدخل اقل من دولار واحد لا يتناقص ابدا (2,1 مليار) بينما يقارب عدد من يكسبون اقل من دولارين يوميا الثلاثة مليارات. هكذا يلزم الفقير 109 أعوام ليحصل على ما يجنيه لاعب كرة القدم الفرنسي زين الدين زيدان في يوم واحد! وتم إفساد التنمية المستدامة بخمس طرائق: أولا من خلال عالم الأعمال الذي حوّلها مرادفا للنمو المستديم وهذا بمنزلة صفة متناقضة مع الموصوف تعكس الخلاف بين رؤية تجارية للعالم وأخرى بيئية واجتماعية وثقافية. فبات شعارا للشركات المتعددة الجنسية وأوساط رجال الأعمال. والأخطر أنها ومن باب سوء المصادفة فتحت المجال أمام “ردة فعل خضراء” اي الانحراف التدريجي للحركة البيئية عبر ما يطلق عليها “واقعية النشاط الاقتصادي”. وباتت تسمية “بيئي” كما صفة “المدافع عن الطبيعة”، تطلق من دون تمييز على من يدمرون الغابات او يقتلون الحيوانات طمعا بجلودها. وتتم تغطية هذه الممارسات بتوريات مشكوك فيها كالإنتاجية او قطاف الثمار الطبيعية للحيوان والنبات. وتنفق الشركات التابعة لدول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية سنويا حوالي 80 مليار دولار كرشى من أجل الحصول على امتيازات أو تعهدات. وهو مبلغ من شأنه بحسب الأممالمتحدة القضاء نهائيا على الفقر في العالم. وأضحت التجارة غير المشروعة للحيوانات الحية والمنتجات المشتقة من عظامها المصدر الثاني للدخل بعد الاتجار بالمخدرات في عالم الجريمة المنظمة. وأدت هذه التجارة التي تمثل في الواقع مصدر دخل ضعيف الأخطار إلى زوال قريب لبعض الأصناف مثل وحيد القرن والنمر. يعاني 800 مليون شخص سوء التغذية بينما تختنق قلة قليلة من التخمة.ومع مسألة الصناعة الغذائية تبرز إلى الضوء أهمية مواضيع من نوع النزعة الاستهلاكية المفرطة وانعدام المساواة على المستوى العالمي والضعف الذي يصيب السلطات العامة. ان انفتاح السوق العالمي الكبير باسم التبادل الحر وقواعد منظمة التجارة العالمية والرقابة على المساعدات تدعم الصناعة الغذائية وتمركزها حيث ان عشر شركات تسيطر على نسبة 60 في المائة من هذا القطاع (البذور، السماد، الادوية، التصنيع ونقل المنتجات). إن نمو الانتاجية الزراعي يحرر أيضا قوة العمل التي يجب امتصاصها غالبا من قبل القطاعات المدنية غير الرسمية. وإذا استمرت الزراعة تمثل قاعدة النمو، كما هو الحال في الصين، فإن هذا الأمر حصل في ظروف سياسية مختلفة، ومقابل زيادة عدم المساواة الاجتماعية. * كاتب اقتصادي أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني.