فتحي قاره-: تنقسم الصحف اليومية الصادرة في تونس إلى قسمين: قسم يتكلم بلسان عربي فصيح (خمس صحف) وقسم يتكلم بلسان أعجمي فرنسي (أربع صحف). وهذه الصحف بقسميها موجهة أساسا لأبناء تونس ومعروضة للبيع في كافة أنحاء البلاد. إن الملاحظ لهذا الوضع من بعيد بإمكانه أن يفترض أن تونس بلد متعدد اللغات أو أنه يسكنه شعبان : أحدهما عربي اللغة والثقافة والانتماء والآخر فرنسي اللغة والثقافة والانتماء وإلا لما كان واقع صحافته بهذا الشكل. ولكن الحقيقة غير ذلك، فتونس لا تعرف تعددا لغويا ولا تتواجد على ترابها الوطني شعوب و أمم متعددة اللغات والأديان كما هو الحال في الهند مثلا. بل هي شعب واحد لغته العربية و دينه الإسلام كما يشير الى ذلك دستور البلاد. ولا يمكن فهم هذا الواقع الشاذ والغريب إلا بوضعه في اطاره التاريخي وفي إطار واقع القوى الفاعلة في المجتمع التونسي ودرجة وعيها وتحملها لمسؤولياتها التاريخية. إن استعمال التونسيين للغة الفرنسية كلغة بديلة عن لغتهم الوطنية في التواصل والتخاطب بينهم وفي وسائل إعلامهم كالصحافة ما هو إلا مخلف من مخلفات الاستعمار الفرنسي وأثر من آثاره. فقد عمل هذا الاستعمار على نشر اللغة الفرنسية بين المستعمرين كوسيلة فاعلة لتقويض ذاكرتهم اللغوية الأصلية ثم لدمجهم باسم التحديث والتحضر والترقية في المجتمع الفرنسي الكبير.(1) إن الذين يتواصلون مع أبناء بلادهم بلغة المستعمر القديم - مهما كانت الأسباب التي يبررون بها سلوكهم هذا - يواصلون عن وعي أو عدم وعي منهم مهمة هذا المستعمر. يقول جلبير غرانغيوم :" اللغة الفرنسية في المغرب العربي ترد الى الاستعمار، تتأصل فيه ، وتذكر بأثره إن لم تجدده "(2) فهل من مبرر في أن يخاطب الصحافي التونسي أخاه القارئ التونسي بغير اللغة التي تجمع بينهما ؟ هل أن الأحداث الوطنية أو المقابلات الصحفية التي تجرى مع أعلام ومشاهير تونسيين تقع بغير لغتهم العربية ؟ لماذا تشتغل الصحف التونسية المستعملة للفرنسية إذن كمجرد مترجمة لواقع تونسي عربي الوجه واللسان كي تفرض على القارئ التونسي رؤيته واضعا على عينيه نظارات اللغة الفرنسية ؟ أليس من الأولى لهذه الصحف أن تتوجه إلى الفرنسيين أنفسهم ما دامت تخاطبهم بلغتهم ؟ يعلم المختصون أن اللغة ليست مجرد أداة عمل يمكن للمرء استبدالها بغيرها متى شاء كما يستبدل ملابسه أو نظاراته؛ بل اللغة ترتبط ببنية الإنسان النفسية والعقلية وبهويته وانتمائه وثقافته, وكما أن الإنسان لا يمكنه استبدال عينيه لينظر بهما إلى واقعه بعيون فرنسية أو عيون عربية فانه لا يمكنه استبدال لغته الأم. واللغة حمالة فكر وثقافة وتصور كامل للعالم ولذلك فان عقول البشر وتصوراتهم تختلف باختلاف لغاتهم. عندما أراد الشاعر محمود درويش أن يعرف نفسه قال في إحدى قصائده :" أنا ..لغتي " ، والفرنسي لا يعرف إلا بانتمائه واستعماله للغته الفرنسية وكذلك العربي والانكليزي وغيرهم. وإذا كان من المفيد تعلم لغة أجنبية والاستفادة من ثقافتها وعلومها فانه لا يمكن أن تصبح هذه اللغة الأجنبية لغة بديلة أو معوضة للغة الوطنية ولو بشكل جزئي في مجال الإعلام والتواصل بين أفراد ينتمون إلى نفس اللغة والوطن. و لنا أسوة حسنة في السيد رئيس الجمهورية التونسية زين العابدين بن علي الذي لا يستعمل غير اللغة الوطنية في خطبه داخل البلاد وخارجها مما جلب لتونس الاحترام والتقدير الذين لا ينالهما إلا من كان يعتز بذاته ويتمسك بمقومات هويته. يعتبر الدكتور محمود الذوادي أن استعمال اللغة الفرنسية أو الانكليزية في مجتمعات إفريقيا وآسيا بدل استعمال اللغات الوطنية والمحلية لهذه الشعوب لا يمثل فقط تفقيرا لتلك اللغات واللهجات وإنما يعمل أيضا على تقوية وإطالة عمر التبعية الثقافية من خلال تجذر الرموز الثقافية للآخر بالمجتمع التابع. (3) ان استبدال الذات للغتها بلغة الآخر يعني نفي الذات وإحلال الغير محلها انه استبدال للهوية بهوية الآخر. يقول نزار الزين :" التماهي بالآخر.. فقدان للذات التي انأخذت بالآخر دون أن تحتفظ بقيمتها و دون أن تصبح ذلك الآخر، و العرض ههنا : تبدد للشخصية و فقدان للهوية و صعلكة حضارية".(4) إن ضعف القوى الوطنية الداعمة لمقومات الهوية و المدافعة عنها من كل محاولة اختراق وهتك وتذويب هو الذي ترك السبيل مفتوحا أمام ضعاف النفوس الذين استعاضوا عن الكفاح من أجل إثبات الذات بالانهزام الحضاري والارتماء في أحضان الآخر وإحلاله محل الذات فاصبحوا يعملون يوميا من خلال صحفهم على تقويض وإضعاف الذاكرة اللغوية لشعوبهم ومسخ هويتها بفرض لغة الآخر كلغة مزاحمة ومنافسة للغة الوطنية لتحتل مساحات أكبر فأكبر في وسائل الإعلام والتوعية والثقافة وبالتالي في عقول و فكر أبناء هذه الشعوب. إن المؤسسات التي تصدر صحفا بالفرنسية للتونسيين تستغل أوضاعا حضارية واجتماعية وتاريخية وثقافية معقدة لتتمعش من مخلفات الاستعمار الفرنسي ومن لغته وتحقق أهدافا مادية ذاتية على حساب مقومات وهوية الشعب التونسي وثقافته وموقعه الحضاري. لقد أثبتت الدراسات الاجتماعية الحديثة أنه لا يمكن تحقيق تنمية مستقلة بغير الاستناد إلى الهوية القومية والروحية بشكل عام. و لا تستطيع أية أمة أن تحلم بالخروج من ضعفها إلا على قاعدة إحياء ثقافتها واستعادة أصالتها وقيمها الحية ولا يمكن لأية حضارة أن تنبني على قيم خارجية أو غريبة ليس لها في الواقع المحلي أي جذور.(5) وأرى أنه آن الأوان للقائمين على الصحف الصادرة في تونس بالفرنسية أن يدركوا أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال وعليهم أن يفكروا منذ الآن في إصلاح الوضع متمثلا في احترام لغة البلاد ومخاطبة قومهم بلغتهم وإرساء إعلام يحترم اللغة الوطنية واستعمالها بين التونسيين. الهوامش 1) د. سالم حميش ، مجلة "الوحدة" ، مايو 92 ، ص 52 2) مجلة "الفكر العربي المعاصر" ، أفريل 91 ، ص 64 3) نفس المرجع السابق، ص 88 4) مجلة "مواقف" ، عدد 66 ، سنة 92 ، ص 34 5) د. برهان غليون ، "اغتيال العقل" ، ص 27 07-09-2007