مع عودة التحكيم الأجنبي.. تعيينات حكام الجولة 5 "بلاي أوف" الرابطة الاولى    استقالة متحدثة من الخارجية الأميركية احتجاجا على حرب غزة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    ماذا في لقاء سعيد برئيسة اللجنة الوطنية الصلح الجزائي..؟    أخبار المال والأعمال    سليانة .. رئس الاتحاد الجهوي للفلاحة ...الثروة الغابية تقضي على البطالة وتجلب العملة الصعبة    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    «الشروق» ترصد فاجعة قُبالة سواحل المنستير والمهدية انتشال 5 جُثث، إنقاذ 5 بحّارة والبحث عن مفقود    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    لدى لقائه فتحي النوري.. سعيد يؤكد ان معاملاتنا مع المؤسسات المالية العالمية لابد ان يتنزل في اختياراتنا الوطنية    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    حركة النهضة تصدر بيان هام..    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    وزير الشباب والرياضة يستقبل اعضاء فريق مولدية بوسالم    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    سفينة حربية يونانية تعترض سبيل طائرتين مسيرتين للحوثيين في البحر الأحمر..#خبر_عاجل    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل لغة المستعمر غنيمة أم صنارة للاستلاب ولاستمرار الهيمنة؟
نشر في الصباح يوم 04 - 01 - 2009


أولا: ياسين واللغة الغنيمة:
من المعروف أن عبارة "اللغة الفرنسية غنيمة حرب" قد استعملها كاتب ياسين، وهومؤلف جزائري كتب معظم مؤلفاته بلغة موليار وبعضها بالعامية الجزائرية في آخر حياته.
وكما هو منتظر يردد العديد من المثقفين والمتعلمين الفرنكوفونيين في تونس وغيرها من المجتمعات المغاربية القول بأن اللغة الفرنسية هي عبارة عن غنيمة كسبتها تلك المجتمعات من المستعمر الفرنسي وينبغي، إذن، المحافظة عليها. وقبل أن نحلل درجة صحة أوبطلان فحوى هذا الخطاب دعنا نتعرف على المعنى اللغوي لكلمة غنيمة في لغة الضاد. فكلمة غنم أو غنيمة في اللغة العربية تعني الفوز بالشيء بدون مشقة. ومن ثم، تحمّس كاتب ياسين ويتحمّس في عصرنا هذا هؤلاء المثقفون والمتعلمون المغاربيون إلى تكرار المناداة بالقيام بكل ما هو ضروري من أجل المحافظة وصيانة الموروث اللغوي الإستعماري الفرنسي بين أغلبية سكان أقطار المغرب العربي التي تعرضت إلى الاستعمار الفرنسي منذ القرن التاسع عشر.
ثانيا: الغنم بالغرم :
يشير كلام العرب إلى أن الغنم/الغنيمة لا يخلو حتما من الضرر والخسارة لصاحبه. ولذلك جاء في ملاحظات وحكم الناطقين بلغة الضاد قولهم "الغنم بالغرم" أي أن للوجه المجاني الربحي الظاهر للغنيمة وجها مقابلا/آخر/خفيا ينطوي على معالم سلبية طالما يقترن بها الفوز بالغنيمة، ذلك المكسب المتحصل عليه دون مشقة.
إن التأمل في مثل هذا القول العربي "الغنم بالغرم" يشكك في المدلول اللغوي لكلمة الغنم/الغنيمة (الفوز بالشيء دون مشقة وضرر وخسارة) ليؤكد أن الواقع الاجتماعي البشري أكثر تعقيدا من مجرد مضمون معاني المفردات اللغوية. ومن ثم، يجوز القول بأن المتحمسين لفكرة "اللغة الفرنسية غنيمة" قد تشابه الأمر عندهم بين المعنى اللغوي والاجتماعي لكلمة غنيمة . وبعبارة أخرى، فإنهم قوم أغراهم المعنى المجرد للفظ الغنيمة في اللغتين العربية والفرنسية le butin فجاءت نظرتهم ضيقة لواقع الأمور ومن ثم متفائلة إزاء اللغة الفرنسية كغنيمة حرب لا يجب التردد في أخذها والمحافظة عليها والتحمس لها. إن مثل هذا الموقف غير المتأني أدى عندهم بالضرورة إلى فهم قاصر ومشوّه لطبيعة استمرار آثار الإرث اللغوي الاستعماري الفرنسي على سلوكاتهم الفردية اليومية وعلى هويتهم الثقافية والحضارية في عهد الاستقلال.
ثالثا : شعار اللغة غنيمة في الميزان:
دعنا نفحص مدى مصداقية/بطلان موقف المنادين بشعار اللغة الفرنسية على أنها غنيمة : أي أنها مكسب مجاني أتى بدون مشقة وليس فيه ضرر وخسارة للمجتمع المرحب بتبني ذلك الشعار. لقد ذكرنا من قبل أن ذلك الشعار ضيق الرؤية والآفاق وبالتالي فهو سطحي الفهم وساذج في إدراك وقائع الأمور الحقيقية الميدانية على الأرض بالنسبة للتعامل مع اللغات الأجنبية الدخيلة على المجتمعات البشرية. فنحن نرى في المقابل أن قول العرب "الغنم بالغرم" قول حكيم يتصف بالعمق في الفهم والإدراك الناضجين لطبيعة الأشياء في الميدان. إذن، فمضمون هذا القول نجده صالحا لتحليل معالم الغرم المصاحبة للغنيمة "الغنم غرم". وبعبارة أخرى، نود الكشف هنا عن معالم الخسارة والضرر للغات الوطنية بسبب مجيء اللغات الأجنبية الدخيلة إلى المجتمعات البشرية. نختار هنا حالة المجتمع التونسي للنظر في جوانب الخسارة والضرر التي تعرضت وتتعرض لها اللغة العربية (اللغة الوطنية) في المجتمع التونسي المعاصر من جراء دخول اللغة الفرنسية مع الاحتلال الفرنسي للقطر التونسي في سنة 1881. ويمكن تعميم ذلك بسهولة على بقية مجتمعات المغرب العربي باستثناء ليبيا. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن الاستعمار الفرنسي، مقارنة بنظيره الانكليزي، يعطي أهمية كبرى لنشر لغته وثقافته وتعليمهما لسكان المجتمعات التي يحتلها. ومن ثم تفهم ظاهرة التنافس الكبير الذي كسبت رهانه اللغة الفرنسية ضد اللغة العربية في عديد القطاعات بالمجتمع التونسي وغيره من المجتمعات المغاربية أثناء الاحتلال الفرنسي وبعد الاستقلال.
رابعا: خسارة العربية مع حضور الفرنسية:
وكما أشرنا، إن الاستعمار الفرنسي يولي أهمية كبيرة إلى نشر لغته وثقافته بين الشعوب المستعمرة بحيث تصبحان منافستين للغة/للغات وثقافة/ثقافات تلك الشعوب. نركز هنا على بعض معالم التنافس الخطير الذي طرحه ويطرحه حضور اللغة الفرنسية (لغة المستعمر) على اللغة العربية (اللغة الوطنية للمجتمع التونسي) في عهدي الاحتلال والاستقلال بالبلاد التونسية:
(1) اللغة الفرنسية (اللغة الغنيمة) هي اليوم لغة الاستعمال الأولى بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال لدى الكثير من التونسيات والتونسيين ومؤسساتهم. لا يسمح هذا الواقع اللغوي التونسي بالقول إن اللغة الفرنسية هي مجرد غنيمة للمجتمع التونسي بريئة من السلبيات. لأن مجيء هذه اللغة أضر بوضع اللغة العربية/اللغة الوطنية بسبب منافسة اللغة الفرنسية لها ليس في عصر الاحتلال الفرنسي فقط، وإنما أيضا في عهد الاستقلال، بذلك خسرت اللغة العربية رتبتها الأولى في التعامل بين التونسيات والتونسيين وفي مؤسساتهم في مجالات لا تكاد تحصى داخل المجتمع التونسي منذ تمركز الاستعمار الفرنسي به في نهاية القرن التاسع عشر.
(2) مما لاشك فيه أن الحضور القوي للغة الفرنسية في عهدي الاحتلال والاستقلال بالبلاد التونسية أدى إلى حالة من الاغتراب بين الكثير من التونسيات والتونسيين واللغة العربية، لغتهم الوطنية. وتتمثل حالة الاغتراب هذه في ضعف وجود علاقة حميمية وعاطفية بين هؤلاء ولغتهم الوطنية بحيث لا يكادون يعتزون بها ويغارون عليها ويدافعون عنها. يشبه هذا الشعور باغتراب الناس عن لغتهم الشعور باغتراب الناس عن وطنهم. وهذا التشابه ليس بالأمر الغريب، إذ اللغة هي أكبر المعالم المحددة لهوية الوطن. ولذلك قيل إن اللغة هي الوطن. ومن ثم، فمن تسكنه في العمق لغة وطنه يسكنه وطنه في العمق أيضا في حله وترحاله داخل هذا الوطن وخارجه. ومما لا يحتاج إلى برهان أن منافسة اللغة الفرنسية للغة العربية التي نتجت عنها حالة الاغتراب مع اللغة العربية/اللغة الوطنية بين العديد من التونسيات والتونسيين المثقفين والمتعلمين على الخصوص لاتعطي شعار كاتب ياسين "اللغة الفرنسية غنيمة حرب" تأييدا يذكر. فحضور حالة الاغتراب للغة العربية بين أهلها بالمجتمع التونسي في زمني الاستعمار والاستقلال بسبب حضور وانتشار استعمال اللغة الفرنسية يمثل بكل المقاييس الموضوعية ضررا وخسارة للغة العربية، اللغة الوطنية والرسمية للبلاد التونسية.
(3) إن وضع اللغة العربية المشار اليه في (1) و(2) يؤدي حتما إلى نتيجة ثالثة ليست في صالح شعار كاتب ياسين. فإعطاء اللغة الفرنسية (الغنيمة عند هذا الكاتب الجزائري) المكانة الأولى أو الواسعة في الاستعمال وحضور حالة الاغتراب مع اللغة العربية في المجتمع التونسي لدى عدة قطاعات وعند كثير من الأفراد والفئات الاجتماعية التونسية يدفعان بالضرورة اللغة العربية إلى حالة إفقار/تفقير في زادها اللغوي. إذ اللغة، أي لغة، هي كائن حي تستمد نبض حياتها وتطورها من عملية الاستعمال الكامل والشامل لها في مجتمعها. والعكس صحيح. أي أنه يصيبها التراجع والفقر والجمود والتأخر إن هي أقصيت قليلا أو كثيرا من فرصة الاستعمال الكامل في حلبة كل أنشطة المجتمع بأصنافها المختلفة . ومن جديد، فإن الحد من استعمال اللغة العربية بدرجات مختلفة بالمجتمع التونسي لصالح اللغة الفرنسية (الغنيمة) منذ مجيء الاستعمار الفرنسي في 1881 لا يمكن اعتباره بالمقاييس النزيهة غنيمة : أي مكسبا إيجابيا للغة العربية، لغة البلاد. إذ هو يمثل عامل إفقار وتخلف للغة العربية . فاللغة، هذا الكائن الحي، تنمو وتتطور وتتقدم بالاستعمال الكامل في محيطها الاجتماعي . وفي المقابل يصيبها الركود والتخلف بدرجات مختلفة وفقا لمدى استعمالها في الحياة الاجتماعية. تلك هي المعادلة الصحيحة والدقيقة لفهم أحوال اللغات سلبا وإيجابا في مجتمعات الشرق والغرب على حد سواء.
(4) هل يجوز اعتبار اللغة الأجنبية غنيمة إذا أصبح استعمالها مصدرا لبث مركّبات النقص والشعور بالدونية إزاء استعمال اللغة الوطنية لدى المواطنات والمواطنين؟ يكفي هنا ذكر مثال واحد لتجلي أعراض مركبات النقص لدى التونسيات والتونسيين من جراء استعمال اللغة العربية/اللغة الوطنية. يخجل معظم التونسيات والتونسيين اليوم من كتابة صكوكهم المصرفية/شيكاتهم وإمضائها باللغة العربية لأنهم تعلموا من مجتمعهم المتأثر بإيديولوجيا المستعمر الفرنسي أن لغتهم الوطنية ليست لغة الحداثة التي تمثلها في اعتقادهم اللغة الفرنسية.وهو تصور خاطئ، إذ لم تعد اللغة الفرنسية كذلك اليوم. ومن ثم تسخر الأغلبية التونسية من الأقلية التونسية الصغيرة جدا التي لاتزال تكتب صكوكها وتمضيها باللسان العربي. فاستعمال اللغة الفرنسية في الحالة المذكورة أصبح، إذن، بوابة لنشر وغرس مركب النقص والشعور بالدونية في الشخصية القاعدية التونسية. فالتحليل الموضوعي لتلك التصرفات المهينة للغة العربية من طرف أهلها يدحض بقوة مقولة شعار كاتب ياسين " اللغة غنيمة حرب".
(5) تفيد دراساتنا للمسألة اللغوية بالمجتمع التونسي الحديث بأن معظم الفتيات والنساء التونسيات المثقفات والمتعلمات على الخصوص يتعاطفن أكثر مع اللغة الفرنسية من تعاطفهن مع اللغة العربية، لغتهن الوطنية. ولهذا انعكاسات سلبية على اللغة العربية بالنسبة لأجيال الحاضر والمستقبل في المجتمع التونسي. ينسف بقوة هذا الانحياز إلى اللغة الفرنسية لدى التونسيات المتعلمات والمثقفات مفهوم "اللغة الأم" في المجتمع التونسي. فالعامية العربية التونسية النقية -كلغة أم- لا يكاد يكون لها وجود حقيقي في خطاب تلك التونسيات كأمهات. تفيد الملاحظة الميدانية أن الكثير منهن لا يكدن يخاطبن بناتهن وأبناءهن إلا بالفرنسية وأن البقية من التونسيات المتعلمات والمثقفات يتحدثن في أسرهن بخطاب فرنكوأرابي متخم باللغة الفرنسية حتى أن كلمة " أمي"، مثلا، في خطاب الأطفال والشباب من الإناث والذكور لأمهاتهم يكاد يندثر استعمالها بالكامل في عدة جهات ومناطق بالبلاد التونسية. ويقع تعويضها بكلمة " ماما" القريبة جدا من الكلمة الفرنسية "maman".
خامسا: كيف تصبح لغة المستعمر غنيمة:
لا تسمح عينة الأمثلة الخمسة السابقة بالقول أن حضور اللغة الفرنسية (لغة المستعمر) في المجتمع التونسي في زمن الاحتلال وعهد الاستقلال يمثل غنيمة ربحها التونسيون من فرنسا. لأن هناك شروطا أساسية يجب توفرها قبل أن يصبح استعمال اللغة الفرنسية وغيرها من اللغات الأجنبية غنيمة حقا للمجتمع التونسي وغيره من المجتمعات المغاربية التي احتلتها فرنسا. نقتصر هنا على ذكر ثلاثة شروط رئيسية تؤهل اللغة الأجنبية لكي تكون غنيمة للمجتمع المستقبل لها:
(1) يتمثل أهم شرط يحتاجه المجتمع التونسي اليوم وفي المستقبل لكي تصبح اللغة الفرنسية عنده فعلا غنيمة، في تغيير نمط الإزدواجية اللغوية الثقافية (عربية وفرنسية وثقافتهما) لصالح اللغة العربية وثقافتها.أي أن تصبح مكانة اللغة العربية وثقافتها نفسياواستعمالا إجتماعيا هي الأولى عند التونسيين ومؤسساتهم.وهذا مانجده اليوم مفقودا إلى حد كبير بالمجتمع التونسي بعد أكثرمن نصف قرن من الإستقلال. والأمثلة كثيرة جدا على استمرار تحيز التونسيين ومؤسساتهم للغة الفرنسية وثقافتها. تفيد الملاحظات الميدانية أن معظم التونسيين والتونسيات مزدوجي اللغة والثقافة منذ عهد الاستعمار يعطون نفسيا مكانة أعلى وسمعة إجتماعية أرقى للغة الفرنسية وثقافتها. وهذا ما يتجلى في عينة محدودة من الأمثلة الحية: أ فموقف الطلبة المتخصصين في اللغتين الفرنسية والإنكليزية وآدابهما إزاء زملائهم في اللغة العربية وآدابها يكشف عن طبيعة هذا الموقف. فيغلب على الأوائل نظرة يشوبها الاحتقار والدونية للأواخر. ب لايزال مركز الدراسات الإقتصادية والإجتماعية CERES يستعمل اليوم اللغة الفرنسية في المقام الأول في ندواته ومنشوراته وذلك رغم سهولة التعريب في العلوم الإجتماعية والإنسانية. ت أقام فرع الديمغرافيا في قسم علم الإجتماع بجامعة تونس ندوة حول قضية السكان في 19 و20 ديسمبر 2008. فكانت أغلبية أوراق المداخلات من طرف التونسيين باللغة الفرنسية. ث حضرت أخيرا اجتماع أعضاء نادي بشرى الخير بالعاصمة الذي يوجد فيه وزراء وسقراء وديبلوماسيون وأساتذة تونسيون هم الآن في سن التقاعد. فكانت اللغة الفرنسية هي اللغة الطاغية في التفاعل بينهم خاصة في إلقاء المحاضرة والتعليق عليها اللذين أقصيت منهما بالكامل اللغة العربية الفصحى وحتى العامية التونسية فكانت اللغة الفرنسية سيدة الموقف في قراءة نص المحاضرة وفي حديث من قام بالتعليق على ما ورد في كلام المحاضر.
تبين الأمثلة الأربعة مدى استمرار انتشارالتحيز للغة الفرنسية وثقافتها بين التونسيين وذلك بعد أكثر من خمسة عقود من الإستقلال. فالسلوكات التونسية اللغوية الواردة في تلك الأمثلة تشير بوضوح بأن اللغة العربية/اللغة الوطنية ليست هي اللغة الأولى نفسيا واستعمالا إجتماعيا عند التونسيين ومؤسساتهم. ويعود هذا الوضع عند التحليل إلى ما نسميه الإزدواجية اللغوية الثقافية المتحيزة إلى اللغة الفرنسية وثقافتها على حساب اللغة العربية/اللغة الوطنية وثقافتها في عهدي الإستعمار والإستقلال. فبدون تغيير هذا الموقف إيجابيا لصالح اللغة العربية وثقافتها عند التونسيين لا يجوز موضوعيا اعتبار معرفة اللغة الفرنسية وثقافتها غنيمة كما قال كاتب ياسين. ويتطلب هذا الأمر الرفع من شأن اللغة العربية وثقافتها بحيث تصبح الرغبة والتعاطف نفسيا وإجتماعيا مع استعمال اللغة العربية في المكانة الأولى عند الجمهور التونسي المتعلم والمثقف على الخصوص. وهذا ما يتصف به موقف الزيتونيين والتلاميذ التونسيين خريجو ما يسمى شعبة(أ) من التعليم التونسي المعرب في مطلع عهد الاستقلال من القرن الماضي.وفي المقابل، فإن موقف الأغلبية من التونسيين خريجي المدارس الفرنسية ومعهد الصادقية والنظام التعليمي التونسي مزدوج اللغة والثقافة لفترة ما بعد الإستقلال موقف متحيز نفسيا واجتماعيا أكثر لصالح لغة المستعمر وثقافته. وبعبارة أخرى، إنه موقف يهيئ التونسيين للقبول والرضى باستمرار الإستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي.
يرى عالم الإجتماع الماليزي الشهير سيد حسين العطاس أن هذا التكوين اللغوي الثقافي لصالح الطرف المهيمن يقود إلى بروز ظاهرة ما سماه بالعقل السجينThe Captive Mind بين أهل الطرف المهيمن عليه. أما المفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي فقد تحدث هو الآخر عن حالة استعداد الشعوب التي وقع استعمارها للإستعمار. ونحن نعتقد أن الإزدواجية اللغوية الثقافية المتحيزة للغة الفرنسية وثقافتها تسهل عملية استعداد تلك الشعوب نفسيا وثقافيا لقبول استمرار الإستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي بعد الإستقلال. وليس من المبالغة القول أن هذا الوضع هوالسائد اليوم ليس في المجتمع التونسي فحسب بل في بقية المجتمعات المغاربية الثلاثة التي احتلها المستعمر الفرنسي. يمثل هذا الوضع ما أطلقنا عليه مصطلح التخلف الآخر الذي يشيرإلى أن تلك المجتمعات المغاربية الأربعة لم تنجح بعد نفسيا وثقافيا واجتماعيا في تطبيع علاقتها بالكامل مع اللغة العربية/لغتها الوطنية. أي أن اللغة العربية ليست لها المكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات الأغلبية الساحقة خاصة بين المتعلمين والمثقفين وأصحاب القرارالسياسي في هذه المجتمعات وذلك بعد عقود عديدة من الإستقلال. وبالتأكيد فإن استمرار انتشار ظاهرة التخلف الآخر اليوم في الأقطار المغاربية تفند في وضح النهار وبكل شفافية مقولة كاتب ياسين: لغة المستعمر غنيمة حرب. وبعد كشف الحجاب عن أخطاء تلك المقولة، نتوقع أن عددا كبيرا من التونسيين سوف يكونون قادرين على التعبير على موقفهم الجديد بعاميتهم العربية التونسية مخاطبين كاتب ياسين قائلين:ماعدش تعديها علينا؟.
(2) وكنتيجة لما ورد أعلاه يمكن القول أن المجتمع التونسي يشكو من قصور تطبيع علاقته بالكامل مع اللغة العربية، لغته الوطنية. وهذا يعني أن يصبح استعمال اللغة العربية شاملا لكل القطاعات في المجتمع التونسي وليس مقتصرا على بعض القطاعات فقط كما هو الحال اليوم بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال. فالمجتمعات المتقدمة، على سبيل المثال، نجدها ملتزمة بالكامل باستعمال لغاتها الوطنية في كل شؤونها، كما هو الأمر في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانياواليابان وكوريا الجنوبية وغيرها من المجتمعات المتقدمة.
(3) أما الشرط الثالث ذو العلاقة بالشرطين السابقين فهو موقف نفسي وفكري يعطي اللغة العربية المكانة الأولى في قلوب وعقول جميع التونسيين بحيث يصبحون بطريقة عفوية جماعية كاسحة متحمسين للغيرة والدفاع وحماية اللغة العربية من التهميش والإقصاء من الاستعمال في قضاء شؤون الأفراد ومؤسساتهم بالمجتمع التونسي الحديث.
فبدون كسب المجتمع التونسي لرهان تلك الشروط الثلاثة بطريقة كاملة يبقى استقلال المجتمع التونسي منقوصا في أهم معالم الإستقلال الحق والمتمثل في التحرر الكامل من رواسب الإستعمار اللغوي الثقافي الذي يجعل عقول التونسيين ومؤسساتهم سجينة كما أكد ذلك عالم الإجتماع سيد حسين العطاس. إذ تشير الدراسات أن العقول السجينة هي عقول ينقصها التأهل للإبتكار والإبداع واكتشاف التصورات والحلول البديلة للأشياء المطروحة انطلاقا من تراثها الفكري والعلمي والثقافي لهويتها الحضارية.
ومع استمرار غياب تلك الشروط الثلاثة بدرجات مختلفة بالمجتمع التونسي اليوم لايجوز بكل المقاييس اعتبار حضور اللغة الفرنسية غنيمة للتونسيات والتونسيين كما صرح بذلك تسرع شعار كاتب ياسين في القول «اللغة غنيمة حرب». ومن ثم فالمجتمع التونسي فاقد كثيرا لأعز معالم الإستقلال من الإستعمار الفرنسي. ويمثل استرجاع التحرر اللغوي الثقافي الكامل، الإستقلال الثاني في مسيرة المجتمع التونسي الحديث. وفي الختام، يتطلب كسب رهان الإستقلال اللغوي الثقافي/الإستقلال الثاني مقاومة جادة تنشر أولا الوعي المكثف بضرورة التحرراللغوي الثقافي بين التونسيين في كل الطبقات والقطاعات بالمجتمع التونسي.ثانيا، يصعب أن تفوز تلك المقاومة بدون اتخاذ قرارات سياسية ملتزمة ومقاومة بالعمل والكفاح الملموس بالساعد والقلم لصالح اللغة العربية وثقافتها. ثالثا، وحتى تتوج كل جهود المقاومة بالفلاح والنجاح لابد من تأسيس نظام تعليم جديد تتصدر فيه اللغة العربية/اللغة الوطنية وثقافتها المكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات التونسيين ومؤسساتهم مع التفتح الملتزم والواسع على اللغات الأجنبية وثقافاتها وعلومها الحديثة على الخصوص.
عالم الإجتماع /جامعة تونس
العنوا ن الإلكتروني :


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.