تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللغة عصبيّة وقوّة
بمناسبة يوم الأمم المتحدة للغة العربية يضعنا عصر الثورة المعلوماتية في قلب الانقلابات في المفاهيم التقليدية
نشر في الشعب يوم 01 - 01 - 2011

اللغة عصبية كعصبية الدم والارتزاق والولاء ونحوه. وتتداخلها عصبيات تقوى وتضعف، وأشرفها على الاطلاق عصبية الدين، وهي ألزم للإنسان لزومه للسياسة والملك والقوة والغلب.
وربما حلت عصبية الثقافة محل الدين في العصر الحديث، خاصة في عصرنا الحاضر، عصر العولمة، بعد الالتحام العجيب بين الشعوب والقبائل والحضارات والأمم بفضل تكنولوجيات الاتصال والمواصلات وبفعل الحروب.
فأصبحت اللغة بقوة الاقتصاد والاجتماع والتربية والتعليم.وعبر أربعة عشر قرنا عاشت لغتنا أطوارا عديدة. اعتزت بظهور الدين ونزول كتابه العظيم، فاصطفى من فصحاها لغته وإعجازه وبيانه. فأسلمت القبائل لأمره كما أسلمت للغته؛ فوجدت لهجاتها او بعض لهجاتها نفسها في قرآنه، فكانت قراءات القرآن المعروفة. واستعربت الأقوام من عجم وروم وبربر وصغد وغزّ وتتر وصقالب في أمة الدين الجديد، بما وجدت قرآنه قد استوعب واتسع للمعرّب من ألفاظها ومعانيها وأخبارها وأيامها. ولم يمض قرن او بعض قرن من انتشار الاسلام حتى اغتنت لغته العربية بعلماء الأمم وبعلومهم في لسانها، وحتى كادت فارس على عظمتها تلحق بمصر ويتعرب لسانها تماما كما تعربت بلاد المغرب والأندلس وجزائر كثيرة في البحر المتوسط، لولا غلبة العصبيات القبلية فيها وحمى صراعها على السلطة، وغلبة السياسي على الديني، والانقسام على الوحدة، والاحتراب على التصافي والتقوى في الله.
وكان ذلك حكما مقضيا من أحكام السياسة، عندما تتوسع الدولة ولا ينهض باللغة الدينية الموحدة تعليم نظامي كالتعليم الذي عرفته الامم حديثا، بفضل تصور صناعة القلم والكاغذ والكتاب وبظهور الطباعة والصحافة وسائر وسائل الاتصال الجماهيرية المعروفة اليوم، والتي هي ركن من أركان قوة اللغة وانتشارها.
وأول جدل لغوي ثار في حينه بين المسلمين كان حول تعليم الدين للأقوام الداخلة فيه، بأي لسان يكون؟ هل يجوز الاقتصار فيه على الترجمة له بلسانها، أم انه لا يجوز ترجمة القرآن الا ان تفهمه بلسانها أي بلغتها ويتحرك به لسانها على عجمته في عباداتها، الى ان يعتدل به لسانها، وتتعرب تماما؟
ولم يكن بد من نشر الدين أولا وتعليم قرآنه لاحقا. فانحسر المد العربي، وبعبارة أخرى انحسرت العربية عن مواكبة المد السياسي الاسلامي المتعاظم خاصة في المناطق القصية عن بلاد العرب، في بلاد النهر وفي غيرها من بلاد الروم والافرنجة والبربر وبلاد النوبة والسودان ومجاهل افريقية والصحراء.
وعندما قويت نزعات الانفصال في الدولة الاسلامية، في بلاد خراسان أولا ثم في بلاد ما وراء النهر، وسادت دول كالطاهرية والصفارية والسامانية والغزنوية في شرق الخلافة، قامت السياسة التي تفرق بين الامة الواحدة بلغاتها المختلفة وألسنة أقوامها المتعددة بحكم الواقع والجغرافيا والعصبية والسياسة والتنافس، رغم بقاء جذوة الدين حية في النفوس.
وتكيفت لغة الاسلام لدى معظم الاقوام المؤمنين به الى لغة دينية قرآنية منحسرة ولغة قومية متأثرة بالعربية في الكثير او القليل من مظاهرها الكتابية والتعبيرية والأدبية، دون ان يتعارض ذلك مع جوهر الانتماء للأمة بمفهومها الاسلامي الثقافي والديني الواحد.
ولما ضعف شأن العرب في الحكم، وهو مدار الغلبة والقوة، ضعف تأثيرهم اللغوي في الأقوام المخالطة لهم. والقلة لها دورها في العصبية ضعفا وامتهانا.
ولقد وصف ابن خلدون لغة مضر في عصره باللغة التي تراجعت عن كونها لغة التداول الواسع في الدولة، وكونها وحدها لغة البلاغة والشعر، حتى انه ذكر ان للبربر أدبا يجدون فيه من الحلاوة مثل بلاغة العرب، وان من لغاتهم ما اصبح يقرأ ويكتب وله نسق ونحو وحروف كالعربية، وان زادت عليها بمخارج وأوضاع مخصوصة هي من صميم حياة البربر وبيئتهم.
ولم تستطع الاقوام المحبة للعربية لمحبتها للقرآن ولرسوله ان تذهب في التعريب اكثر مما كانت تسمح به وسائل العصر. حتى انه يروي ان بعض زعماء البربر ممن أسسوا الدول كان يسمي الجماعة من اصحابه بآيات من قصار السور، واحدة واحدة على أفرداهم، تعريبا لألسنتهم وتحفيظا لهم القرآن.
وكان ينبغي الانتظار الى قيام العصر الحديث ليصبح للغة العربية شأن آخر غير ما عرفته في السابق، نقصد ما حدث لها من تراجع وذبول خارج نطاق الدين في أوساط التربية والتعليم والحياة العامة. ويرجع الفضل في كشف الغمة عن الامة في لغتها الى مؤسستين كبيرتين قامتا بدور عظيم مشرقا ومغربا هما الازهر والزيتونة، اللتين ظلتا مع غيرهما وإن بدرجة أقل قلعتين صامدتين في وجه الاستعمار الثقافي الاجنبي ومخلفاته طيلة قرنين من الزمان.
وللحقيقة كان هناك مؤسسات اخرى قامت بدور في الدفاع عن العربية، وكان لأصحابها فضل لا ينكر في محيطهم من اجلها، وهم نصارى العرب في المشرق، خاصة في الشام والعراق. فقد كان لهم لاعتبارات دينية وتاريخية واجتماعية دور كبير في دفع غائلة اللغات الاجنبية عن لغتهم القومية والدينية في الوقت نفسه، وربما غلبت عصبيتهم الدينية على القومية مع تنامي الاستعمار الغربي المسيحي في منطقتهم. فقد أسهم تجذرهم العرقي وتأصلهم الديني في المسيحية في هبتهم لمناوأة الاستيطان الاوروبي في بلدانهم وفعه بكل قوة، وفي مقدمتها قوة العقيدة وانتمائهم العضوي للحضارة الاسلامية.
ويمكن ان نقول إن الاحتكاك بالغرب عن طريق الحروب الصليبية ثم عن طريق الحروب الاستعمارية ولد اكثر من مناسبة لاستعادة الوعي بالذات لدى العرب المسلمين وغير المسلمين لمغالبة العدو، وحتى تقليده في اقتضاء الحرية لنفسه مثله، والسيادة على غيره مثله والنهضة بلغته مثله.
فاعتزت العربية بالهجرة الى الامريكيتين باعتزاز أهلها المهاجرين بها، وتدعمت بدخول وسائل الطباعة وصناعة الكتاب والمجلات والصحف الى أوطانهم الاصلية، وشاعت بها بما يقرب من شيوعها في العالم الجديد وفي أوروبا.
وركزت حركات الاصلاح في المهجر سواء في أوروبا او في امريكا على الشأن الثقافي واللغوي، فجعلت تضاعف المجهود من اجل تطويع العربية لأساليب الخطاب الجديدة، الصحفية والدعوية والأدبية والسياسية وغيرها. فكانت نهضة الامة ابتداء من لغتها، بما لأبنائها من مادة ومال وجهد لخدمتها ومنافسة غيرها في مجال نشاطها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفكري والادبي والعلمي.
واستنسخ العرب الكثير من المؤسسات اللغوية في بلدانهم، على غرار ما عند الاقوام المتقدمة، من مجامع لغوية ومعاجم دور نشر وطباعة وحركات أدبية وفنية ومسارح وانتاج ونشر وتوزيع، للتمكين للعربية في الحياة العامة والادارة والتعليم.
وكانت التحديات القائمة كبيرة، فالاستعمار مجند بقوانينه ونظم تعليمه ومؤسساته لتعزيز لغته ودحر اللغة العربية من أمامها، تدريجيا وبكل الوسائل والاغراءات، تمكينا لنهجه السياسي في السيطرة على مقدرات الشعوب الاقتصادية والاجتماعية ودمجها في بوتقة ثقافته ونفوذه، ولولا الخوف من التنصير لدخل الناس أفواجا في لغته وثقافته. ولكن صبغة الاستعمار القهرية والعنصرية والابتزازية ونزعته الالحادية والعلمانية جعلت الناس تنفر منه، ولا تكاد تأخذ بلغته الا لتأمن شره او انتهاز علم منه او منفعة جارية تتقوى بها عليه. ولم تفلح دعواته ولا دعوات انصاره لحمل الناس على الانفتاح على لغته؛ وانما ذلك لا لذاتها ولكن لارتياب الناس في مضامينها المكرسة في ثقافته واعلامه، ولسوء تأثيرها البيّن على لغتهم ومستقبلهم ومصيرهم.
ومعروف ان اول محاضرة عمومية ألقيت في الخلدونية كانت بحضور المقيم العام الفرنسي، وكان فحواها يكرس قضية اختلاف اللغات عن المعنى الالهي وحث الاقوام على التعارف عن طريق اللسان وابتغاء الافضل حيثما كان. وكان في ذلك ما فيه من تمكين للسياسة الاستعمارية ومحاربة الاقوام في لغتهم ودينهم خاصة في مجتمعات كانت اللغة والدين والقومية والوطنية فيها شيئا واحدا في التعبير والتسمية والمضمون. ولم يكن اندفاع شاعر شاب كالشابي في ذلك الوقت او الحداد، ليطعن احدهما في مقاييس الادب العربي الفنية والرمزية والآخر في تقاليد المرأة العربية المسلمة في البيئة التونسية الزيتونية في ذلك الوقت، ليسلم احدهما او كلاهما من اندهاش أخلص المقربين منه واستنكارهم عليه، للوضع الاستعماري الراهن وتحدياته على الامة.
وأمثالهما كان في الشرق الكثير منهما. ولم تكن الجماهير في معاداة مع التقدم أو الحضارة أو الانفتاح على اللغة، أو دون لهفة لتطوير أحوالها الاجتماعية والثقافية بما هو خير وأقوم، ولكنه التأبّي من الوقوع في الفخ الاستعماري المفضي الى الاندماج والذوبان والى الانفصام عن الدين والملة والامة.
وتبارت الاقلام بإيعاز او دون ايعاز في الشكوى والتبرم من امراض العربية في النحو او الاعراب وفي التركيب والاشتقاق والمعجم، وغير ذلك مما يرونه بالمقايسة للفرنسية او الانڤليزية تعجيزا للأقلام وكدا للأذهان ومضيعة للوقت والاموال في التربية والتعليم والتأليف والنشر.
وتعالت الاصوات بالدعوة الى إسقاط الإعراب وبعضها بالدعوة الى استبدال الحروف باللاتينية، وبعضها الى التصنيف في المعجم على نحو المعاجم الاوروبية بحسب الاول من الكلمة لا الأول من الجذر مراعاة للاشتقاق الذي تختص به العربية، واذا كل إصلاح نحوي أو تيسير في العربية يقتبس لا من أصولها او فروعها أو عبقريات الكاتبين بها، بل من فلاسفة اللغة الاجانب ونظريات لاحظّ لأصحابها بمعرفة العربية، وبعضهم لا يحفزهم على طرح أفكارهم التجديدية وفي سوق المزايدة بالتحديث للعربية الا التعالم والتماهي في الثقافة الأجنبية وجلب الماء لطاحونة أعداء الاسلام.
وشجعت بعض الثقافات الاجنبية على إشاعة التناحر بين أبناء الامة الواحدة، ما بين اصحاب اللسان الواحد وبين اصحاب اللسان المزدوج، بين الأزهريين والمدرسيّين في مصر، وبين الزيتونيّين والمدرسيّين في تونس مثلا.
فكان ذلك تحديا اخر من التحديات القائمة في وجه نهضة اللغة العربية في المؤسسات التعليمية التقليدية، التي اصبحت شيئا فشيئا في دائرة القرار الاستعماري او التأثير السلبي للحكم المحلي الموالي للاستعمار سواء اثناء وجوده او القائم بعد رحيله ضمن مخلفاته.
وكاد تحدي الطباعة أخيرا يقضي على أمل استعادة العربية سيادتها في محيطها بعد خروج الاستعمار، وذلك عن طريق تكثيف الجدل حول مشاكل الطباعة العربية مقارنة بالطباعة الفرنسية بالنظر الى صناديق الحروف العربية التي تزيد بالكثرة أربعة أضعاف أمثالها في اللغة الفرنسية، بسبب صور الحروف في الاول وفي الوسط وفي الآخر، وبسبب الحركات او تشكيل الحروف تسهيلا للقراءة، وتأثير ذلك على الكلفة والجدوى.
وزاد تراجع الخط العربي في المدارس، بسبب نقص المعلمين الحذاق للخط، وقلة الأدوات المتاحة في سوق الوراقة، من الشكوى من فساد الخطوط اكثر مما كانت عليه فسادا من قبل للأسباب الحضارية التي فسرها ابن خلدون، ومنها تناقص العلم ونقص حملته في المغرب في حين كان الخط يجري على قواعد وأصول طورتها الحضارة في المشرق لكثرة العمران به واتساع العلم.
وقيل إن خروج السلطة من يد العرب في ايام الخلافة العثمانية طوال خمسة قرون تقريبا أفضى باللغة العربية الى تققهر لم يُعْرَفْ له مثيلٌ في جميع عصورها. لكن الحقيقة تشهد بعكس ذلك فيما لا يزال يُرى من خطوط رائعة لخطاطين عظام على نقائش المساجد والزوايا في العالم الاسلامي من شرقه الى غربه، وأغلبه بأيْدٍ تركية محلية او مستجلبة، ولا ننسى ان الاتراك هم أول من أدخل حروف الطباعة الى كثير من البلاد التي يحكمونها كمصر والشام وليس نابليون ولا غيره، وابن خلدون طبع تاريخه في تركيا وترجمه الاتراك قبل ظهوره بأوروبا او معرفة أوروبا به وقبل طباعته بمصر فشكوى العرب من ضياع لغتهم بسبب خروج الحكم من أيديهم لم يعفهم من مسؤوليتهم عن تدهور أوضاعها بسبب الاختراقات الاجنبية، خاصة الاوروبية لدولهم وقيام الصراعات بين عروشهم وقبائلهم وتهافتهم على التقوّي بالاجنبي على بعضهم البعض واستيلاء اكبرهم على ما في يد أصغرهم.
أما التحدي الاكبر للعربية، فهو شرفها بالقرآن الكريم، الذي نزل بها. فإن اكبر الضربات التي تلقتها العربية، ومازالت تتلقاها جاءتها من مكانتها من القرآن بلاغة وإعجازا في نفوس المتكلمين بها.
ففي عصر تراجع فيه التأثير الديني، بسبب طغيان الحضارة المادية الغربية على العالم، أسهمت العلوم الحديثة من الأنثروبولوجيا والفيلولوجيا وعلم الاجتماع، في النظر الى كافة اللغات من زاوية واحدة، في النشأة والتطور والمآل. واصبحت اللغة تخضع الى معادلات المصالح المرسلة اكثر من استجابة الانسان لها لأسباب دينية اعتقادية او وطنية ضيقة.
فكم من لغات ماتت واخرى تغيرت كثيرا أو قليلا وأخرى استحدثت استحداثا او قامت على أنقاض غيرها، فكيف لا تقوم الخصومة في نفوس أعداء اللغة العربية كخصومتهم لأقوامها، ولا يأتونها من جانب نظرياتهم في التطور الطبيعي لخضد شوكتها بخضد شوكة اهلها او العكس، ومنه كان الرهان عليها، لتنحسر في بيوت العبادة او تخضع الى الدخيل والاقتراض وكلّ ضروب التجريب عليها في بنيتها المورفولوجية والنحوية والمعجمية الى حد التحلل والاستبدال بها. ومن ذلك جاءت دعوة التزاوج بينها وبين العاميات، ودعوة الاختلاط العشوائي باللغات الاجنبية ليزيد الطينة بلة ويقوّي النفور منها الى غيرها، بدعوى أمراضها الحديثة خلافا لغيرها من اللغات الحية المنافسة لها على اكثر من صعيد رسمي وشبه رسمي. واذا العربية تعاني من مخلفات الاستعمار اكثر مما عانت من الاستعمار نفسه. تحت كم هائل من النظريات التحديثية والتجديدية لحشرها في مأزق التبعية او الموت أمام تحدي العلوم التكنولوجية وتطبيقاتها المختلفة اليوم.
وربما قُصِدَ بها في بعض القرارات الدولية لحقوق اللغات لدى الأقليات غير المعنى في ذاته، اي ان منحها فقط حق لغة الاقلية في عالم اللغات المسيطرة على العالم اليومَ، وليس حق اللغة السيدة في مجالها الحيوي ومجالها الجغرافي. وقد يصل الامر بالتدخل الخارجي في الشأن اللغوي لدى الدول المهيمن عليها من قِبَلِ مجلس الامن او المجتمع الدولي المنقاد بكليتة للقوة الغالبة، الى فرض »كوته« (أو حصة) لغوية في الدساتير العربية والاسلامية، لحمل اللهجات المتشرذمة في تلك الدول الى محل اللغة الرسمية، تضييقا على العربية، واجتثاثا لأثرها في اللغات الاسلامية والاوروبية في الكتابة أو النطق او الالفاظ والمعجم.
وتصورنا ان اللغة العربية، رغم ما جرّه الاستعمار عليها من مآس ومخلفات، تبقى بمميزاتها الذاتية وتراثها وتاريخها الطويل وعبقرية أهلها، وخاصة بمكانة دينها في النفوس وقرآنها العربي المحفوظ عصية عن كل استيعاب في احضان اللغات الاخرى الا ما هو من تبادل واغتناء بالمصطلحات أخذا وعطاء، والا ما هو ثقافة اسلامية متنوعة لغويا، او انسانية محايدة دينيا.
وكما اغتنت العربية بالاسلام قديما، ايام كانت في واد غير ذي زرع، فإنها بفضل الله تجدها اليوم في واد ذي بترول اذا صح التعبير! وكل العالم يشهد انه لولا البترو دولار، المتدفق من الجزيرة العربية منذ اكثر من نصف قرن، الى جانب عدد من الدول الاسلامية في افريقيا وآسيا، لما أمكن للحضارة التكنولوجية الحديثة من النماء والترعرع، ولما وجدت مراكز البحوث والمختبرات والمؤسسات الصناعية في الغرب تمويلها ورأس مالها منه للانتاج في مختلف التكنولوجيات؛ ومنها التكنولوجيات التي خففت عن ظهر العربية ما كانت تنوء به من دعاوي قصورها على اللحاق باللغات المتقدمة في مجال الطباعة والنشر وعالم الاتصالات والانترنات.
وإنما اللغة قوّة وعصبيّة، بقوة العصبية الدينية والسياسية والثقافية في عالم اليوم، وبالأحرى في عالم تسوده المعرفة وصناعة المعرفة والمعلوماتية، عالم العولمة الاقتصادية وتكنولوجيات الاتصالات والمواصلات.
ومن يتابع ما يجري من هجمة على المال العربي والاسلامي، في عالم المنافسة على السلطة والنفوذ على المستوى الدولي، يعلم ما يراه من تحامل على العرب والمسلمين وعلى قضاياهم الى حدّ رميهم جملة وتفصيلا بالارهاب. لكن هبة الاسلام في أوروبا نفسها بعد الحادي عشر من سبتمبر، واستعادة تركيا وقبلها ايران أنفاسهما الاسلامية، وكذلك لبنان وفلسطين المحتلة والصومال وأفغانستان والعراق مع تصاعد المقاومة وضرباتها الموجهة الى خصر الصهيونية المسيحية العالمية، لهو دليل ساطع وأمل بازغ على ان العربية لغة وقومها أمة أو اسلامها دين سيتعزز من جديد ويكون لدولهم أو لاتحادهم عبر افريقيا وآسيا وفي أوروبا نفسها شأن غير شأن الأمس في الذلة والابتزاز الخارجي. ستجد العربية اعتزازها تحت كل سماء وفوق كل أرض.
ولا فضل لِلُغَة على لُغة الا بعبقرية الانسان وانتمائة الى الحضارة والتقدم النابعيْن من حسن عقيدته وكرامته الانسانية. ولم تكن العربية في يوم من الايام تهديدا لأيّة لهجة أو لسان، ولكنها بما هي لغة القرآن العظيم ورسوله الكريم مرفوعة الى المحل الأعلى فوق كل لغة قومية أو محلية، فضلا عن كل لغة فرضها الاستعمار في وقت من الأوقات على الشعوب ظلما وابتزازا. ويعلمنا التاريخ بأن اكثر اللغات الميتة إنما اندثرت بعدما كانت غالبة بسبب طغيان من رفعوها من الحكام سلاحا لمحاربة الشعوب والأمم في كرامتها وحريتها.
إن التحديات التي كانت مرفوعة في وجه العربية في عصور التدهور السياسي والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والحضاري لم تعد القوّةَ التي كانت عليها قبل عودة الوعي الى العالم العربي والاسلامي بعد التحرير من ربقة الاستعمار، وبعد الأخذ بمقومات الحضارة الحديثة وآليات التغلب والقوة خاصة وقد فتح الله أهلها من جديد على ثورة مادية ضخمة، سخرت من حسن الحظ ورغم تكالب الخصوم والأطماع لإصلاح شأن اللغة. وليس شأن اللغة بالشأن الأقل من شؤون مقومات الشخصية العربية. فلم يعد مصنع انتاج في أوروبا الا وهو يفكر في سوق الاستهلاك العربية، فيعرّب بضاعته لضمان الترويج والربحية لها. ولم تعد دولة من الدول المعتبرة في أوروبا والعالم، الا وتنطق محطاتها للبث الاذاعي والتلفزي بالعربية الفصحى وصولا الى أوسع عدد من الجماهير عبر الوطن العربي، تمكينا لعلاقاتها التجارية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
ولولا المال العربي وهذه الحمية التي تعضدها الثروة لدعم اللغة العربية لعدت العربية في اليونسكو من بين اللغات المهددة قريبا بالانقراض تحت ضغط تكنولوجيا المعلومات والانترنات والموبايل.
وأصبحت اللغة عن طريق مدخل الانترنات وتكنولوجيا المعلومات والمحمول مدخلا مهمّا من مداخل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وازدهرت خطوطها وكيفيات إخراجه إلكترونيا وشاعت نصوصها التراثية والحديثة عبر المواقع الكثيرة وبنوك المعطيات.
وحروب اللغة لم تصبح في وقت من الأوقات أشد مما هي عليه اليوم في عصر العولمة والاتصالات والمواصلات الالكترونية. فإسرائيل نفسها بادرت في وقت متقدم الى تعريب نظم الكمبيوتر للتحكم في الشبكة المعلوماتية العربية أخذا وعطاء وتجسسا وتخريبا للمعطيات المناهضة لسياساتها ومستقبلها، اذ أنها تملك لوحدها ما يقرب ما تملكه الولايات المتحدة الامريكية من البرمجيات الكمبيوترية، أي نصف الكمية العالمية.
وحسب استطلاعات الرأي لم تعد مشاكل العربية تمثل الا اثنين في المائة من بين المستطلعين عن اسباب تخلفها عن بعض اللغات الاكثر حضورا في عالم المعلوماتية والانترنات، وربما يتركز ذلك في جانب التصحيح اللغوي آليا، الضعيف الى الآن في برمجيات النشر المكتبي لكن حظها بأكثر من خمسمائة مليون متكلم بها في العالم ان أهلها مدعوّون الى وضع استراتيجية لغوية مشتركة وتوحيد جهودهم ودولهم وأموالهم للاستثمار في مشاريع معالجة العربية بالكمبيوتر في مستوى البرمجيات والانترنات وتعريب اسماء المواقع، الذي بدأ منذ قرارات قمة تونس للمعلومات في 2005، وحمايتها وكذلك حماية بنوك المعطيات من التخريب والتجسس.
وفي اعتقادنا إن أهم جانب بقي الى الآن مفتقرا الى التطور في البرمجيات العربية هو خيار تصحيح اللغة آليا، أي إيجاد مصحح نحوي ولغوي مثلما تحظى به اللغات المتقدمة، خاصة الأوروبية، وكذلك توسيع شبكة ترجمة العربية الى لغات الحضارة السائدة دون إهمال ترجمتها وربما بصورة اساسية الى لغات الدول الاسلامية، الناطقة بالفارسية او الأوردية والتركية وغيرهما من اللغات المتأثرة مباشرة أو غير مباشرة بالعربية، كالكردية والماليزية والأندونسية والألبانية، وكذلك ايضا الى اللغات الافريقية كالهاوسا والسواحلية، واللغات المتوسطية كالمالطية والاسبانية والبرتغالية.
والعمل (الديني والسياسي) كذلك من اجل مكانة لغات بعض الاقليات المهمة في الدول الاسلامية وفي غيرها الى مرتبة اللغة الرسمية، خاصة في الدول الافريقية ذات الجماهير التي تهفو قلوبها الى العربية لأسباب دينية، بغرض التخفيف عنها وطأة اللغات التي استعمرها أصحابها، وأصبحوا حريصين على الاستبدال بها لغة العرب والحضارة الاسلامية.
وكذلك الرجوع في السياسات الاستعمارية ومخلفاتها، التي أفقدت عددا من البلدان الاسلامية ارتباطها اللغوي بالعربية عن طريق تصفية آثارها منها وتحويل حروفها الى اللاتينية.
فلابد من إعادة الاعتبار مثلا الى كلمات دخيلة من قديم في اللغة العربية عن طريق الفرس والعجم والبربر، وإعادة إحيائها داخل العربية الحديثة، ولو عن طريق الترادف أو كمسمّيات حضارية تأتّت من التفاعل بين العربية وغيرها من اللغات من قديم الزمان بسبب الاحتكاك والتثاقف.
ويضعنا عصر الثورة المعلوماتية أو تكنولوجيا المعلومات الذي نعيشه في جميع مظاهره، ومنه العولمة الاقتصادية والانترنات واقتصاد المعرفة في قلب عصر الانقلابات في المفاهيم التقليدية التي كانت قائمة بسبب التباعد الجغرافي والثقافي بين الاقطار والأمم والحضارات والتعصب للغة الواحدة، وإنكار ما سواها تذمما أو تحرجا، لأسباب دينية أو عرقية أو نحوها.
فاللغة التي يمكن وصفها باللغة الاسلامية اليوم اتسعت لتشمل معظم لغات الدول المتقدمة المعروفة تقليديا بوجود أقليات اسلامية او المعروفة بحربها قديما للمسلمين والعرب. فهذه اللغات لم تعد في منافسة قاتلة كالماضي مع العرب أو مع المسلمين، لوجود كاتبين وقارئين مسلمين فيها او لحيادية بعض الكتابات الاسلامية فيها.
واذا كان للمسلمين اليوم عربا أو غير عرب من جنسيات أصلية أو مزدوجة ان يتعلموا من اللغات أولاها بالتعلم ويعلموها أبناءهم، فلا أقل من تعلم ثلاث لغات: لغة أوروبية (وربّما صينية أو يابانية) ولغة تركية أ و فارسية أو عبرية، اضافة الى لغتهم الأم في حال ما كانت العربية مثلا.
فتعليم اللغات في عصر تكنولوجيا المعلومات ووسائلها الحديثة اصبح أبسط بكثير مما كان عليه الأمر قديما. وتبقى اللغة سلاحا، ولكن ليس بالضرورة بالمعنى السلبي، بل بمعنى أنها أداة للمعرفة والتعرف كالآلة الحادة لقطع الادغال امام الرؤية.
واللغات تمثل غنًى في حدّ ذاتها، بعبقرية أفرادها والمتكلمين بها قديما وحديثا، والترجمات منها الى اللغة الأم أصبحت متاحة حتى آليا، ولو ان الترجمة الآلية تعتبر طريقة غير مأمونة على اللفظ والمعنى والاسلوب للمدلولات المجازية والرمزية في اللغة عامة، ولكنها ترجمات تقرّب أكثر مما تبعّد، خاصة في التواصل العلمي الاكثر استنادا الى المصطلاحات الدقيقة.
ولست ممن يدعون الى التخلي عن اللسان الواحد التي قد يمنح الفرد عبقرية أصفى من عبقرية تمازج اللغات وتقاطع أساليبها لديه.
فليس من الغريب ان نتساءل لماذا تاقت نفس الشابي الى الآداب الأجنبية ليرتوي منها في عبقريته الشعرية ويقتبس منها لخياله، وهو الذي له اكثر من أخ مبرز في اللغة العربية، أي مبرز في الترجمة منها وإليها باللغة الفرنسية، ولم يتعلم هو هذه اللغة، ولا تحدث يوما عن توقه الى تعملها ولا عن تأسفه في موضوع جهله باللغة الثانية في مجتمعه، وهي الفرنسية، الغالبة يومها على ثقافة النخبة وغير قليل من الزيتونيين.
هل السر في ذلك إلا كمن اغتذى بحليب أمه عامين كاملين، ولم تضطره الظروف الى غير ذلك الامتياز الطبيعي في تكوين شخصيته الذهنية ومناعته الفكرية والأدبية، دون ما يمنع فكره وذوقه بعد ذلك من الاغتذاء بما هو متاح له من غذاء عن طريق الترجمة. وقد لا يقودنا هذا التساؤل فقط الى تخصيص قرية عربية فصحى، في زحمة ما اصبح يطغى في مجتمعاتنا من تخصيص قرى لبعض اللغات الاجنبية في أوطاننا للتمكين لأبنائنا من تعلمها دون انتقالهم كالماضي الى أوطان تلك اللغات لحذقها.
وقد يرى بعضهم في »بابل اللغات«، أو ما يسمى »برج بابل« ضيرا على العربية وسلامتها وإشعاعها، ولكني أرى انه بالعكس يمكن تربية أذواق الناس على التعدد اللغوي، كالتعدد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والاعلامي وما الى ذلك، وسيعلم منه بعد قليل أن لكل لغة مقامها، ولكل كاتب لغته وأسلوبه ولكل فئة عبقرية لسانها المفضل. والعبرة بالنتائج كما يقال. فلا غرابة ان نرى لغة الاعلان تتطور في بعض البلاد العربية غير الحفية بالعربية نحو اللاّلُغَة، لنفرة الناس منها وبعد انتمائها الى لغة الثقافة أو اللغة الفكرية أو العلمية.
ويجب ان نحمد للنظام العالمي الجديد، في ظل ثورة المعلومات والاتصالات والانترنات والهاتف المحمول والسكايب (التخاطب السمعي البصري عبر الانترنات)، كونه حرر التربية والتعليم من ضغوط النظام الواحد الموحد للأذهان والعقليات والأذواق والأحاسيس والانفعالات، والذي للأسف قتل الكثير من المواهب وإن استكثر من المتعلمين والمثقفين السطحيّين، ولم يولّد عبقريات كالشابي وابن خلدون وغيرهما في حضارتنا العربية الاسلامية. وينطبق ذلك على الأقل في العصور المسماة بعصور الانحدار والاستعمار التي كاد يبدل فيها نظام اللغة العربية وحروفها وأرقامها بالكامل، ويضطرنا حكامه الى لغة الحداثة والحرية والنور والعلم، كما تعلموها في الخارج دون أن يوفروا لمجتمعاتهم حقيقة الحرية والحداثة والعلم والنور لظهور زعامات وأعلام مثلهم.
ولكننا لا نؤمن أخيرا بترك اللغة دون مقومات البقاء والتطور، والمقصود مقومات الدفاع عنها وإحلالها مكانتها من اللغات المنافسة ومن اللهجات المزاحمة ومن الأذواق غير المصقولة بأصقال الأصالة والحضارة، فاللغة قبل كل شيء وبعد كل شيء عصبيّة وقوّة، ويكذبك من يقول لك من بين اللغات ما هو خير من غيرها وأسهل وأوعب لمصطلاحات الحضارة، أو أفضل نبرا وإيقاعا أو ألين لفظا وأسهلا تعبيرا أو أمتع أسلوبا. فالمسائل كلها انطباعية. وكلها أمور نسبية، ولم تنشأ لغة كاملة من أصلها، ولا كمّلها الدين عن غيرها ولا غذتها عبقريات فكرية خارقة أو أدبية أو فلسفية عن غيرها. فكل لغة قابلة أن تكون بمقام الانڤليزية في هذا العصر، لو قوي أهلها على مجابهة الصعاب والانتشار بها في الأرض من كل سبيل، من تجارة وصناعة وحروب وسلطان ودين إن أمكن أو دعوة كما يقول ابن خلدون.
وتلك سنة الله في خلقه، لا تغيرها لا تكنولوجيا المعلومات لدى الأقوى، ولا زحوف المتكلمين وان كثروا. ولكن ارادة الحياة والعمل الدؤوب اذا لابس قلوب المؤمنين بأن اللغة هي في نهاية المطاف كن أو لا تكون، وإن نزل بها القرآن من السماء، فهي كلها لغات من خلق الله في طبيعة الانسان والاجتماع البشري، ولا فضل لإحداها على الارض إلا بالفعل البشري. وكالدين، ان لم ينهض به معتنقوه فإنهم يوشكون به على الهلكة، ولا ينفعهم أن تبقى لغتهم محفوظة به في السماء، كما لا تضيرهم لغات أخرى اذا اتخذوها لسانا للتعبير وتبادل المنافع. لكن اذا قِيلَ ان لغة في الارض منحها تاريخها وتنزيلها المقدس ما ضمن لها اكثر من خمسة عشر قرنا حياة متصلة متجددة، وهي حالة اللغة العربية، ولم يكن لأحد أن يشيح عنها، ويقول إن أحرى الناس بلغة واحدة أو واسعة في عالم ترابطت قراه وقبائله وعشائره وأممه حتى غدت قرية في أمة واحدة أو أمة واحدة من أمم كثيرة في قرية واحدة، لا ينبغي أن تكون العربية، يكون قد خالف الواقع وأشار الى غير ما ينبغي الاشارة إليه بأصبع التفضيل.
تونس 18 / 12 / 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.