لاتزال ظاهرة الإسلام السياسي على تنوع حركاته و تياراته في العالمين العربي والإسلامي تشغل إهتمام الباحثين و المفكرين بسيل من القضا يا والإشكاليات التي تتصدرها إمكانية ولادة تيار إسلامي ديمقراطي مستنير و معتدل يستطيع التفاعل بإيجابية مع تحديات ومجريات الواقع المعاصر و في القلب منها المسألة الديمقراطية، و ما يتفرع عنها من أهمية الوعي بثقافة حقوق الإنسان، و دور المجتمع المدني العربي الوليد في تحقيق الديمقراطية. لقد سادت الحياة السياسية العربية في الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي ، الرؤية الواحدية ،و منهج المواجهة اللفظية العنيفة و الرفض الإيديولوجي الحاد للرأي الآخر.فقد استبعدت القوى السياسية العربية على إختلاف مشاربها الفكرية و الإيديولوجية من برامجها السياسية و ممارساتها مفاهيم «الديمقراطية البرجوازية » أو «الديمقراطية الغربية». وفي الواقع التاريخي العربي الذي كان يعج بالثورات الشعبية و الإنقلابات العسكرية ، لم تشكل الديمقراطية مطلبا شعبيا، و لم توجد قوى وشرائح اجتماعية منظمة و مؤثرة و معبأة ومهيأة نفسيا و إيديولوجيا لكي تطالب و تكافح من أجل تطبيق المفاهيم الليبرالية..وكان الوعي السائد لدى النخبة السياسية الصاعدة أن الديمقراطية الليبرالية مرتبطة بالهيمنة الإمبريالية الغربية.و الحال هذه ساد في البلاد العربية نموذج الدولة التسلطية التي وأدت الديمقراطية الليبرالية ، و هي لا تزال طفلة تحبو. ومنذ إنتصار الثورة المحافظة في الغرب مع مجيء تاتشر وريغان ، تبدل المناخ العالمي ، و أصبحت الديمقراطية بمفهومها الليبرالي إيديولوجية مهيمنة و مطلبًا شعبيًا جارفاً لايمكن الوقوف بوجهه ورفضه. ولم تسلم المنطقة العربية من شظايا هذه الإيديولوجيا التي استعمرت المخيلة الإنسانية منذ سقوط جدار برلين و انهيار المعسكر الإشتراكي بقيادة الإتحاد السوفياتي. وفيما شهدت المنطقة العربية نهاية الحرب الإيديولوجية بين الأحزاب و الحركات الإسلامية و اليسارية ، حيث أن اعتناق فضاء الديمقراطية تطلب من التيارين الإسلامي واليساري إنهاء تحفظ كل منهما على مشاركة التيار الآخر في اللعبة السياسية والإعتراف العلني و الصريح بحقه المشروع في المنافسة السلمية من أجل الوصول إلى سدة الحكم ،رفضت الدول التسلطية العربية خيار الديمقراطية التعددية ، و التخلي عن امتيازاتها و مصالحها التي يؤمنها لهااحتكار السلطة . لاشك أن التعددية السياسية تكسر إحتكار النظم التسلطية العربية للدولة و المجتمع ، وتفسح في المجال للإسلاميين لإنهاء عزلتهم و إقامتهم الجبرية، و تمنحهم فرصًا ذهبية للعب دور فاعل في الحياة السياسية العربية.و في ظل إنقلاب ميزان القوى لمصلحة الإسلاميين ، أصبحوا هؤلاء أكثر تقبلا للتعددية السياسية والإنتخابات العامة، بالرغم من إستمرار تحفظهم على مفاهيم الديمقراطية الغربية. كما إن نجاحات الإسلاميين المحدودة ناجم عن كونهم الفريق الأساسي الذي يصارع النظم الإستبدادية الضعيفة المشروعية في العالم العربي. و إذا كان الإسلاميون بدؤوا جديا في تحديد مواقفهم المعقدة من قضية الديمقراطية ،فإن هذا التعاطي الإيجابي لا يعني أن الإسلاميين أصبحوا ديمقراطيين أو تخلوا عن تحفظاتهم العديدة عن بعض المفاهيم في الديمقراطية الغربية.فالتيار الإسلامي الأصولي الذي فرض نفسه أفقيا و عموديا في العالم العربي، لا يزال متحفظا على الديمقراطية كمشروع سياسي متكامل ، و إن اختلفت مستويات التحفظ على هذا المشروع . وبينما يعتمد النهج الديمقراطي على اعتبار الدستور الذي تراضت عليه الأمة مرجعا نهائيا لشؤون الحكم و علاقات الحاكم بالمحكوم، و علاقات المحكومين بعضهم ببعض وحتى طريقة تغيير الدستور وتعديله يحتكم فيها إلى الدستور نفسه، يرى الإسلاميون الأصوليون على إختلاف تياراتهم السلفية أن المرجعية في قضايا الأمة و الدولة للدين متمثلة في النص الشرعي مفسرا ومنزلا على الواقع على منهج السلف الصالح.لكن التيارات السلفية تفرق بين مبدأ المرجعية المطلقة للدستور و مبدأ القبول بصياغة دستور حيث يوجد من بين التيارات السلفية من يقبل بمبدأ صياغة دستور ويرفضونها آخرون. إن مرتكزات النهج الديمقراطي تقوم على ما يلي: إعطاء الشعب حق التشريع وصياغة القوانين والأحكام من خلال المؤسسات المنتخبة ومن خلال الإستفتاءات الشعبية.بينما يجمع الأصوليون على أن الذي يملك حق تفسير النصوص وتنزيلها على الواقع هم العلماء المؤهلون. كما يرى الأصوليون أن منظومة الحريات في النهج الديمقراطي مرفوضة قطعا في بعدها الفكري، لأن الحرية بهذا المعنى تتضمن حرية الكفر و الإلحاد أو ممارسة ماحرمته الشريعة. إن الصورة التي يقدمها الإسلاميون الأصوليون عن الديمقراطية تعكس الأزمة العامة التي يعاني منها الإسلام و الفكر الإسلامي المعاصر، و هي أزمة مرت بها المسيحية في مواجهتها للتحديات التي طرحتها الديمقراطية الليبرالية و العلمانية. فالتحدي المركزي الذي يواجهه الفكر الإسلامي هو مفهوم التعددية بمظاهرها المختلفة الفكرية و الدينية و السياسية والثقافية و اللغوية و العرقية. ولايزال الفكر الإسلامي بشكل عام يتبنى الموقف التقليدي المبني على ميراث المدارس الفقهية والأصولية ، و هذا ما يفسر المكانة المركزية التي يوليها الفكر السلفي للشريعة. غير أنه إلى جانب التيار السلفي المهيمن في العالم العربي ، هناك التيار الإسلامي المستنير الذي يقوده الفيلسوف الإسلامي راشد الغنوشي، و الذي بلور الأطروحات الإسلامية الجديدة حول الديمقراطية وعلى صعيد الفكر السياسي ينتقد الغنوشي تصرف بعض الإسلاميين الذين في ممارساتهم يخلقون إشكالية مع الديمقراطية ، رغم أنهم عانوا من عدم توافر الديمقراطية ، «لذا وجب محاربة هذا الاستبداد الذي جعل أعداء الإسلام ينظرون للإسلام كأنه حكم سلطوي يحقر الجماهير، فأين لهذا الإرث الإستبدادي أن يكون مصدرًا للحق، ومصدرًا للشرعية. فالحاكمية للشعب، وحاكمية الله تمر عبر الشعب « . المستقبل - الاربعاء 5 أيلول 2007- العدد 2724 - رأي و فكر - صفحة 19