صفاقس: فتح محاضر عدلية ضدّ أشخاص شاركوا في أحداث عنف بمنطقتي العامرة وجبنيانة (مصدر قضائي)    اختتام أشغال الدورة 25 للجنة العسكرية المشتركة لتونس وإيطاليا    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    جلسة عمل وزارية حول عودة التونسيين بالخارج    وزيرة الاقتصاد: الحكومة على اتم الاستعداد لمساندة ودعم قطاع صناعة مكونات الطائرات في تونس    الإقامات السياحية البديلة تمثل 9 بالمائة من معدل إختراق السوق وفق دراسة حديثة    مصر.. موقف صادم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - مولدية بوسالم تنهزم امام الاهلي المصري 0-3 في الدور النهائي    رابطة الأبطال الافريقية - الترجي الرياضي يتحول الى بريتوريا للقاء صان داونز    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    فيلم "إلى ابني" لظافر العابدين يتوج بجائزتين في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي"    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    إنطلاق فعاليات الاجتماع ال4 لوزراء الشباب والرياضة لتجمع دول الساحل والصحراء    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا يبقى من دور للاتجاهات غير الدينية في العالم العربي ?

تشهد العلمانية تراجعا ملحوظا في معظم البلاد العربية منذ ثلاثة عقود ، ولم تعد تحتل ذلك الحيز الكبير من الفضاء العام في الحياة السياسية العربية المعاصرة.ويعود السبب في ذلك إلى احتدام التناقض الجوهري بين الاتجاهات العلمانية العربية الحديثة وقوى الإسلام السياسي في مسألة الديموقراطية، وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحقوق المرأة، وقضايا المساواة بين الرجال والنساء أمام القانون، وتطبيق الحدود، وبعض أوجه ممارسة حقوق المواطنة، ورؤية الإسلام السياسي الى الديموقراطية وتعدد الاجتهادات داخل قياداته، التي يذهب البعض منها الى القول بالتناقض التام بين الإسلام والديموقراطية، في حين يذهب البعض الآخر الى المطابقة بين المبادئ الديموقراطية والشورية الإسلامية.
في الواقع التاريخي العياني، لا زالت تشكل هذه الموضوعات، ولا سيما منها موضوعي الديموقراطية والعلمانية بؤرة التوتر في العلاقة التناقضية بين التيارات السياسية العربية العلمانية من جهة، والإسلام السياسي من جهة أخرى. ولا زال الصراع الذي بدأ منذ عصر النهضة بين الحداثة العلمانية والرؤية السلفية التقليدية قائماً، وان كان قد اتخذ حركة المد والجزر، حسب الظروف التاريخية والسياسية التي مرت بها الأمة العربية، وطبيعة القوى السياسية الأساسية المسيطرة على طاقات المجتمع العربي.
وعندما كان العالم العربي يشهد في مرحلة الخمسينات والستينات تعاظم الثورات التحررية السياسية، وقيام الانتفاضات والحركات الشعبية والانقلابات التي تطيح بالأنظمة التقليدية الموالية للغرب، وتغير نظام الملكية، من تطبيق الإصلاح الزراعي الى تأميم الشركات الكبيرة والملكيات الكبيرة، حققت الحداثة العلمانية بعض الانتصارات والتقدم، لأنها كانت جزءاً من الصراع الإيديولوجي والسياسي والاجتماعي الجاري على الصعيد العربي بين القوى الثورية التي أسهمت في نشر الأفكار القومية عامة والماركسية بخاصة، وبين القوى التقليدية المحافظة.
ولكن في ظل الوضع العربي القائم المتسم بالتراجع والهزائم والانكسارات، وهيمنة الإسلام السياسي، ولجم الحركة النقدية الجذرية، تشن الحركة الإسلامية هجوماً في الميادين السياسية والإيديولوجية والثقافية، وتطرح مطالبها الايديولوجية والاجتماعية، وترد على اطروحات الاتجاهات العلمانية ببرنامج إسلامي واسع له جذوره التاريخية، وركائزه الشعبية، ومواجهة الوحدة القومية بوحدة إسلامية، والاشتراكية باقتصاد إسلامي، والديموقراطية بالشورى، وحقوق الإنسان والحريات الديموقراطية بتطبيق الشريعة. فيكون الهجوم الإيديولوجي والسياسي شاملاً، ويصبح العلمانيون كفرة وملحدين وخارجين على الإسلام.
وفي خضم المماحكات الجدلية السياسية بين الأحزاب والتيارات القومية والماركسية والإسلام السياسي حول موضوع العلمانية، يطالب الإسلام السياسي الحركة القومية بتحديد موقف من العلمانية، ويعتبر أن لا رابطة تاريخية بين القومية العربية والعلمانية، لأن القومية العربية حسب وجهة نظره خرجت في الواقع من عباءة الفكر الإسلامي وتاريخ نضال علمائه، ويصر على قناعته الراسخة بأن العلمانية ليست مرادفاً للديموقراطية، ولا هي ضرورة من ضروراتها، ولا هي إحدى آلياتها، ويربط بين قبوله بمبدأ التعددية الفكرية والسياسية ورفض العلمانية، التي تفسح في المجال في مفهومه للقوميين ان يتفردوا دون الإسلاميين بساحة العلم السياسي.
وقد أثبتت التجربة العربية الماضية والحالية أنه لا يمكن أن نجد منفذاً أو حلاً جذرياً لموضوع العلمانية بهذه الطريقة من المناقشات الجدلية السياسية الحامية بين الإسلاميين والقوميين، لأن التناقض الجوهري بين القومية العربية الحديثة وبين الإسلام السياسي يتمثل في حل قضية الديموقراطية، التي لا يمكن تلمسها وفهمها فهماً علمياً سليماً خارج سياق الصيرورة الاجتماعية العربية، وما تتطلبه من إنجاز ثورة ديموقراطية.
فالعالم العربي يعاني من التأخر التاريخي، ومن التخلف الشديد، والتجزئة، ومن بقايا الإقطاع والقبلية والطائفية، ومخلفات القرون الوسطى، والإقليمية، والاستبداد، والتمييز الطبقي الحاد، وهيمنة الاستعمار الجديد ممثلاً بالإمبريالية الأميركية، وهو تابع أو شبه تابع في مجمله، ويعيش في مرحلة ما قبل الاندماج القومي. ولذلك فان الثورة الديموقراطية لم تنجز فيه لا في العهد الكولونيالي، ولا في عهد الاستقلال السياسي، وهذا ما يجعل الثورة الديموقراطية ركناً أساسياً في المشروع القومي الديموقراطي النهضوي.
كما أن الثورة الديموقراطية في العالم العربي أكثر تعقيداً منها في أوروبا القرن الثامن عشر، أو التاسع عشر. ففي أوروبا كان إنجاز الثورة الديموقراطية يتطلب الإطاحة بسلطة الإقطاع والكنيسة المتحالفين. وكانت هذه مهمة البرجوازية الغربية الظافرة التي تحالفت مع الطبقات الأخرى من الفلاحين والعمال. وقد فرض انتصار البرجوازية الرأسمالية والصناعية على الكنيسة في الغرب فصل ذروتي السيادة العليا (أي الدين ممثلاً بالكنيسة المسيحية)، والسلطة السياسية، أي فصل الكنيسة عن الدولة، وتحرير الدولة من هيمنة النظام العقائدي الديني الذي أصبح معيقاً للحداثة والتقدم وغير محتمل وغير مقبول في معارضة النظام المعرفي الجديد المنافس الذي شكلته البرجوازية كطبقة صاعدة في أوروبا.
وترافق مع خروج الغرب من النظام الرمزي الديني بوساطة الثورة العنيفة، وصعود البرجوازية، وصعود السلطة الروحية الجديدة: أي العلمانية (بحسب تعبير بول بينيشو). وهي (أي العلمانية) أولاً وقبل كل شيء احدى مكتسبات وفتوحات الروح البشرية. وهي ثانياً موقف للروح البشرية أمام المعرفة التي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل الى الحقيقة، إنه موقف يحاول أن يكون منفتحاً وحراً الى أقصى حد ممكن تسمح به الشروط السياسية والاجتماعية، وأيضاً التقدم المنهجي والمعرفي والتقني السائد في عصر محدد، ومجتمع محدد، بحسب تعريف محمد أركون.
لا شك أن العلمانية بما تعنيه فصل الكنيسة عن الدولة، قد شكلت قطيعة معرفية ومنهجية ونفسية كبرى مع التصور الديني القروسطي للحياة والعالم في تاريخ أوروبا، وتعتبر أهم منجزات الثورة الديموقراطية في الغرب، لأنها عبرت بالدرجة الأولى عن الصراع والمجابهة بين العقل المسيحي الذي يدافع عن النظام الثقافي والمعرفي القديم، وبين العقل العلمي الذي يؤسس لنظام ثقافي ومعرفي جديد، والذي توجه بانتصار هذا الأخير، وتحقيق القطيعة داخل آلية عمل العقل الغربي نفسه، أولاً. وعن الصراع بين الفضاء الديني والفضاء الفكري والعقلي ثانياً. وبين مفهومين فلسفيين للمعرفة القائمة على الإيمان الديني، والمعرفة القائمة على الحداثة الفكرية والعقلية، والعمل التاريخي السياسي المرتبطة بهما، ثالثاً. وبين رؤيتين متناقضتين حول مصدر حقوق الإنسان والمواطن، الرؤية التي تقدمها التعاليم الدينية التي تطرح أولاً حقوق الله، وما على الإنسان إلا تقديم الطاعة والامتثال للسيادة العليا، باعتباره مديناً لها في سياق تواصل العلاقة الروحية القائمة بين الإنسان والله، حيث إن مفهوم الإنسان كشخص بشري في هذه الحال وحدة لا تتجزأ بين بعده الروحي الوجداني، وبعده الدنيوي الوضعي السياسي المدني، ويتفوق على مفهوم المواطن، وبين الرؤية العقلية التي تعترف بحقوق الإنسان والمواطن أولاً كما جاء ذلك في الإعلان الشهير الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789، والتي تقر بالمساواة السياسية والحقوقية بين جميع المواطنين في حقل المواطنة، ودولة القانون وأمام مؤسساتها، التي تضمن وتكفل حقوق المواطن في حياته المدنية والسياسية، بصرف النظر عن صلته وانتمائه الديني أو المذهبي أو العرقي أو الاجتماعي، حيث لا يجوز القبول بأي تمييز في الحقوق المدنية بسبب المعتقدات الدينية، إذ أن كل إنسان مواطن يمتلك الحرية الكاملة في الانتماء للدين الذي يريده، أو في عدم الاعتراف بأي دين، رابعاً.
ولهذا، فإن التحرر السياسي للدولة من الدين، أي تحررها من ذروة السيادة العليا التي كانت تخلع القدسية والمشروعية على هذه الدولة، وكذلك التحرر السياسي للإنسان من الدين، يمثل انتقال الدين من ميدان الحق العام الى ميدان الحق الخاص، لكي يأخذ شكل قضية فردية خاصة محضة. ولأن هذا التحرر السياسي هو حق يتعلق بالإنسان الواقعي، الفرد، مواطن الدولة، ومقياس لحريته، لا في الأفكار والمعتقدات أياً كانت طبيعتها، وإنما أيضاً في الحياة الواقعية، حيث يعيش الإنسان حياة مزدوجة، سماوية وأرضية، حياة في الدولة السياسية باعتباره كائناً اجتماعياً، وحياة في المجتمع المدني، باعتباره فرداً خاصاً، ولأن عملية الانتقال هذه، هي التي ستشكل ولادة العلمانية للدولة السياسية من ناحية، وللمجتمع المدني من ناحية أخرى.
إن مبدأ العلمانية الذي سيتأسس عليه المجتمع المدني، والدولة السياسية سواء بسواء، هو موقف للروح إزاء قضايا الوجود وقضايا العمل، قبل كونها نظاماً سياسياً يقضي على التدين الفعلي لجماهير الشعب المتدينة، مثلما لا تعني العلمانية الإلحاد، وكما قلنا تسعى الى التقليل من شأن الدين، أو القضاء عليه، بل تحترم حرية المعتقد للشعب.
ومن هذا المنظار، تصبح العلمانية روح المجتمع المدني، ولا يمكن تحقيقها الا في درجة جذرية من انفصال الدين عن الدولة، وبالقدر الذي تبرز به الدرجة المعينة من تطور الروح البشري للإنسان، حيث إن التحرر السياسي هو التعبير عنها، لكي تبني نفسها به في شكل دنيوي. وهذا لا يمكن حدوثه الا في ظل سيادة العقلانية، واستقلال المجتمع المدني عن السلطة الدينية، واستقلال السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، والعلمانية عن الظلامية، وفي ظل سيادة الدولة الديموقراطية الحديثة المعاصرة، حيث ان كل إنسان مطلق بمفرده، مؤمناً كان أم متديناً متعصباً لدينه أم ملحداً، ظلامياً أم عقلانياً، يكون فيها كائناً نوعياً سائداً.
ولكن تحرر الدولة الديموقراطية في الغرب من ذروة السيادة العليا الدينية، وسيادة النموذج الديموقراطي للحكم منذ القرن التاسع عشر القائم على حق التصويت العام، الذي حل محل وظيفة مديونة المعنى المستمد من الرأسمال الرمزي المرتبط بنظام الميثاق الديني، جعل العلمانية في الغرب مقطوعة عن كل علاقة بالبعد الديني، وقادت الى بناء مجتمع مدني تعددي يهيمن فيه نظام رمزي جديد أساسه حق الاقتراع العام، كإحدى خاصيات الديموقراطيات الكلاسيكية الغربية، وتحولت الى نوع من التمذهب الإيديولوجي كالأديان، حين فرضت تفسيراً اختزالياً للعالم ولتاريخ المجتمعات البشرية. ويحلل محمد أركون حاجة السلطة السياسية الى نوع من السيادة العليا بقوله: سواء كان المحيط الذي تمارس فيه السلطة دينيا او علمانياً، فإنها بحاجة الى ذروة السيادة العليا والمشروعية، ولا يمكن أن تنفصل عنها. والعلاقات الجدلية الكائنة بين السيادة العليا والسلطة السياسية تتغير وتتحول بحسب الأوساط الثقافية والتاريخة (أي بحسب المجتمعات البشرية). ولكنها تدلنا دائماً على استحالة الفصل الجذري بين العامل الديني بالمعنى الواسع للكلمة (أي ذروة السيادة العليا)، وبين العامل السياسي (أي ذروة السلطة السياسية). وقد كانت مسألة السيادة العليا محلولة طوال كل العصور الوسطى، حيث هيمن معطى الوحي واشتغل ومارس دوره بصفته مصدر كل حقيقة متعالية، ولكن بدءاً من اللحظة التي أخذ فيها حق التصويت العام يحل محل الوحي كمصدر للحقيقة والمشروعية، فإن سلطة الدولة قد أخذت تفرض طرائق شرعيتها الخاصة ومصادرها... فقد استمد الحكام مديونية المعنى طوال قرون عديدة من الوحي، وذلك في عالم المسيحية كما في عالم الإسلام. ويحاولون اليوم بكل قوة أن يستمدوه من حق التصويت العام. ولكن هذا الحق يتعرض باستمرار للضربات والصدمات التي تقلل من قيمته، وذلك من خلال الممارسة الفعلية للسلطة. ومديونية المعنى هذه هي الآن في طور النفاذ في النظام الديموقراطي في حين أنهم قد تخلوا بكل عنف ودون تفحص جاد عن مديونية المعنى التي تعبر عن نفسها في معطى الوحي. لقد قرروا فجأة بأن هذه المديونية صالحة فقط للشعوب البدائية ولا تليق بالناس الحضاريين.
هذا هو السياق التاريخي السياسي الذي تشكلت فيه العلمانية كلازمة أساسية على الصعيدين التاريخي المنطقي للثورة الديموقراطية في أوروبا.
أما على الصعيد العربي المتسم بالغياب الكلي للديموقراطية، وللرقعة الثقافية على حد سواء، فإن شعار العلمانية يطرح الآن ضمن فراغ ثقافي، وانعدام وجود حداثة فكرية وعقلية، باعتبارها الوسيلة الأكثر إلحاحاً لطرح الأسئلة الجذرية على الواقع، والتاريخ، والإسلام، وإحداث مجابهة فكرية وثقافية خصبة بين الرؤيا العقلانية والعلمانية للعالم والحياة، والرؤيا الدينية للعالم والحياة. وظل شعار العلمانية يطرح في نطاق السجال الإيديولوجي مع الإسلام السياسي، ومرتبط ارتباطاً عضوياً بالأحزاب القومية واليسارية الراديكالية، التي تسعى للتخفيف من هيمنة الإسلام في الرمز السياسي والأيديولوجي للدولة، دفاعاً عن حقوق الأقليات الدينية التي لها حساسية مفرطة إما بسبب تفوق الإسلام كدين للأكثرية في الحياة العامة، وإما رغبة منها في التحديث الاجتماعي، معتبرة تجربة الغرب نموذجاً يحتذى به على الصعيد الكوني. ولا يمس هذا الطرح العلماني بشكل مباشر المعضلات الأساسية التي يعاني منها العرب في طورهم الراهن، خاصة إنجاز الثورة الديموقراطية.
إخفاق الدولة القطرية
إذا كان التشكل التاريخي للدولة القطرية المسماة تجاوزاً بالقومية والحديثة من حيث النشأة والولادة، يعتبر بمنزلة الولادة القيصرية الاصطناعية، لأنها جاءت عقب الاجتياح الاستعماري الغربي للعالم العربي والإسلامي الذي فكك الامبراطورية العثمانية، وعلى أرضية التوازنات الدولية الناشئة بعد تجزئة البلاد العربية وتقسيمها بموجب اتفاقية سايكس بيكو، وبعد الحرب العالمية الثانية التي أعادت رسم الجغرافيا السياسية للعالم العربي والإسلامي، فإنه والحق يقال لم يكن للحركة القومية العربية نظرية واضحة المعالم عن الدولة القومية الحديثة كما شهدها الواقع الاجتماعي والسياسي في الغرب الرأسمالي مع بدايات صعود البرجوازية، وظهور الثورة الصناعية، والتي يصفها الكاتب التونسي رفيق بوشلاكه بأنها في مجملها دولة اندماجية قامت على أساس التداخل الوثيق مع قاعدة الأمة على أفق تجاوز الرابطة الطبيعية قبلية كانت أم أسرية لصالح الانتماء المدني السياسي والى الحد الذي لا يمكن تحديد السبق التاريخي والمنطقي ما إذا كان للأمة أم للدولة، بمعنى معرفة ماذا كانت الأمة القومية هي التي انتجت هذه الدولة ضمن سياق تطورها الذاتي أم أن الدولة نفسها هي التي صنعت الأمة وضبطت حدودها.
الدولة القطرية العربية التي تروج لها بعض التوصيفات بأنها "الدولة القومية" أو "الدولة الوطنية الحديثة" هي حالة تعبر في الصورة العامة عن رهانات ورغبات ايديولوجية، أكثر مما تعبر عن حقائق واقع هذه الدولة القطرية ذاتها، التي تبقى نشأتها التاريخية مختلفة جذرياً عن السياق التاريخي السياسي الذي نشأت فيه الدولة القومية الغربية ولأنها أيضاً ظلت بعيدة كل البعد عن الفتح البرجوازي الحديث بل لأنها تجهل كلياً هذا الفتح البرجوازي المسمى بالحداثة السياسية والثقافية، التي تقوم على ركيزتين أساسيتين هما: الديموقراطية السياسية الحديثة، والعلمانية والعقلانية.
فالمظهر الخارجي الحديث للدولة القطرية العربية يخفي واقعاً داخلياً ذي بنية تقليدية ومتخلفة من حيث الجوهر، تهيمن فيها ايديولوجية تقليدية، ما تزال ترى الى السياسة باعتبارها شأناً من شؤون شخص الحاكم أو الزعيم أو القائد الملهم، الذي يستمد مبدأه وفاعليته من الواجهة المؤسسية لسلطة بيروقراطية الدولة، ونظام الحزب الواحد، وايديولوجية بيروقراطية الدولة، التي تفهم وتمارس السياسة في بعدها التقني البراغماتي وترفض منطق الصراع الفكري، والجدل الثقافي والمعرفي، وتعمل على اخضاع تنظيمات المجتمع المدني لمنطق هيمنة أجهزة الدولة التسلطية.
إن صيرورة تشكل الدولة القطرية العربية الحديثة في علاقتها بالمجتمع المدني من جهة، وبالقوى الاجتماعية من جهة أخرى، لم تتم في نطاق القطيعة مع ميراث الدولة الكولونيالية التي تمثل الاستمرار التاريخي للدولة البيروقراطية الحديثة، التي ولدت في أعقاب الثورة الديموقراطية البرجوازية في الغرب من ناحية، مثلما لم تتم القطيعة مع الدولة السلطانية التي سادت العالم الإسلامي من ناحية أخرى.
وهذه الدولة القطرية العربية التي اضطلعت بتطبيق مشروعها التحديثي في نطاق علاقته بالمجتمع التقليدي الذي دمرت الرأسمالية الكولونيالية توازنه العرضي الذي كان سائداً، والذي وسم المجتمع العربي الكولونيالي بالتجزؤ والتذرر، والتباعد، والتنافر، بين مختلف أطرافه، قد خلقت بيروقراطيتها الحديثة ذات الطابع المركزي المهيمنة على هياكل ومؤسسات السياسة، والاقتصاد، والمتغلغلة في بنى ومؤسسات المجتمع المدني الوليد، حيث أصبحت هذه الدولة القطرية التي توحدت مع جهازها وبيروقراطيتها الحديثة خارجة عن المجتمع المدني، ومنفصلة عنه.
وكانت هذه الدولة القطرية تمثل في الوقت عينه العنصر التكويني الرئيس للعلاقات الرأسمالية وكونها "العلاقات الرأسمالية"، باعتبارها دولة كانت تبحث دائماً عن ممارسة سياسة وسط معينة بين النموذج الليبرالي ونموذج رأسمالية الدولة، وكانت تجسد رأسمالية الدولة التابعة للمراكز الرأسمالية الغربية بامتياز. لكن بعد تضخم هيمنة الدولة على المجتمع المدني وصولاً الى تدويله، وإلغاء دور القوى الاجتماعية والشعب على صعيد انتاج السياسة في المجتمع، انبثقت الدولة البيروقراطية التسلطية الحديثة، وامتلكت ناصية الاستبداد المحدث، من "مصادر الاستبداد التقليدي باحتكار الحكم مركز السلطة" من ناحية، ومن خلال "احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع" عبر اختراق المجتمع المدني على مختلف مستوياته ومؤسساته، و"بقرطة" الاقتصاد إما خلال توسعة القطاع العام، وإما بإحكام السيطرة عليه فالتشريع واللوائح (أي رأسمالية الدولة التابعة) وكمون شرعية نظام الحكم تقوم على القهر من خلال ممارسة الدولة للإرهاب المنظم ضد المواطنين من ناحية أخرى.
وتكمن خصوصية التحديث في الدولة القطرية العربية في انفصاله الكلي عن المسألة الديموقراطية، والحداثة السياسية، سواء في مفهومها الليبرالي الغربي المتعلق بإحلال مفهوم المواطنة، والاعتراف بسلطة الفرد الحر المسؤول، وبناء المؤسسات السياسية والدستورية التمثيلية، وما تقتضيه من إحلال قيم المشاركة السياسية من جانب الشعب في الشأن العام، بما في ذلك العامة، أم ببعدها المتعلق بالتوزيع العادل للثروة الوطنية وتوحيد التنمية وفق اختيارات اقتصادية اجتماعية تخدم مصالح الطبقات والفئات الشعبية.
وفي هذه المعادلة غير المنطقية التي تقيم جداراً صينياً بين مشروع التحديث ونمط الديموقراطية، تكمن أزمة الدولة القطرية العربية في ديناميات بناء السلطة وقضايا التحرر والتحديث على اختلاف مسمياتها، ونعوتها، وشعاراتها، من حيث أنها أصبحت في صورتها العامة دولة الزعيم أو العائلة أو الطائفة، أو القبيلة، لا دولة الأمة، بمعنى سيادة الأمة، وسيادة الشعب تمارس الاحتكار الفعّال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع بعد أن أفرغت العملية السياسية من المعارضة، حيث ألغت المجال السياسي بهيمنتها المطلقة على المجتمع المدني، وإخضاعها النقابات لهيمنة الحزب الحاكم، وترييف المدن من خلال تهميش فئات الفلاحين وإبعادها عن كل تأثير سياسي، وخلقها مجالها السياسي الخاص بها، الذي قصر المساهمة السياسية على بيروقراطية الدولة المتكونة من أجهزتها الأمنية الضخمة: أي أجهزة العنف المنظم والرقابة والعقاب الجماعي التي تستخدم لتفكيك المجتمع المدني والإجهاز عليه، والحزب الشمولي الأوحد، وعلى المؤيدين والموالين من التكنوقراطيين والمنتفعين بالسلطة.
إن الدولة البيروقراطية الحديثة عملت على خلق المجتمع وتأطير العلاقات الاجتماعية في كل الميادين وفق رؤية ايديولوجيتها الشمولية. ويقول رفيق بوشلاكه في معرض نقده لنمط التحديث المستجلب والمشوه بأنه يمثل الطلاء الخارجي للدولة القطرية العربية لإخفاء حقيقة القوى المتحكمة والماسكة برقاب هذه الدولة المسماة حديثة، والتي لا تعدو أن تكون في أحسن حالاتها نوعاً من الجمع والضم بين العصبية الجديدة والصاعدة، عصبية الجند والخدم التي يدخل ضمن دائرتها الجيش الحديث وأجهزة الأمن وقوة رأس المال طاقم المستخدمين، بما في ذلك الانتلجنسيا الحديثة التي حلت محل الفقيه التقليدي، والعصبية الطبيعية أو الموروثة المستندة الى قوة الطائفة أو القبيلة أو العائلة وإن كانت غالباً ما تتوارى خلف ظلال الحزب أو مقولة السيادة والوحدة الوطنية، وكثيراً ما تلتمس هذه الدولة لنفسها واجهات وشعارات مختلفة دون أن تجد صعوبة تذكر في استخدام من تشاء، وبالشكل الذي تشاء لتتويج هذه الدعاوى والشعارات بحسب سوق العرض والطلب فقد تسمي نفسها إسلامية وتحيط أجهزتها وطاقم رجالها بهالة من القداسة الدينية، إذا كانت الموجة العامة ضاغطة ودرجة الطلب على القيمة والرمز الإسلامي قوية، وقد تتلحف بشعارات التحديث والتنوير والدفاع عن قيم المجتمع المدني لإدانة خصومها والفتك بهم من جهة ولحظ التطابق مع القانون الدولي السائد خاصة بعد تداعي المعسكر الشيوعي للسقوط ومختلف مقولاته الرائجة من جهة أخرى.
إن الفشل التاريخي للدولة القطرية نموذج الدولة والايديولوجية القومية، وانتشار ظاهرة الشعبوية وانعدام تقاليد الحوار الديموقراطي في ظل تغييب كامل للديموقراطية من جانب الدولة التسلطية، التي حلت سلطة الرئيس أو الزعيم أو القائد العام للحزب الواحد أو الملك، أو الحزب الواحد في أعماق نفسية المجتمع العربي محل المذهب الواحد أو الدين الواحد، الذي لم يكن يسمح بما عداها، وانفصال الدولة القطرية عن المجتمع الذي هو أبرز مظهر من مظاهر الدولة الاستبدادية، والهزائم المتلاحقة التي منيت بها الأمة العربية، وإخفاق المشروع النهضوي العربي، شكلت جميعها الأرضية الخصبة، والأسباب الرئيسية للعودة الضخمة والصارخة للعامل الديني، والاستخدام الشديد السياسي والاجتماعي والثقافي لهذا الإسلام السياسي من جانب الحركات الإسلامية المتطرفة التي تطلق على نفسها اسم "الصحوة الإسلامية" باعتبارها أحد افرازات الهزيمة المذلة للدولة العربية أمام العدو القومي الأميركي الصهيوني من جهة، وأمام همجية الاستبداد من جانب الدولة التسلطية من جهة أخرى.
وليست ظاهرة التطرف الديني والتعصب الايديولوجي سوى أحد تعبيرات الأزمة البنيوية العميقة الشاملة التي تطال سائر مستويات المجتمع العربي، ومظهراً من مظاهر أزمة الدولة التسلطية العربية التي قضت على السياسة، وعملية إنتاجها في المجتمع العربي، وأفسحت في المجال لتوليد التطرف والعنف بسبب احتكارها وممارستها لقوة العنف ضد الشعب العربي. إن هذا الواقع يتطلب منا أن نتفهم التطرف والعنف من قبل الإسلام السياسي كرد فعل على عنف الدول التسلطية العربية من ناحية، وعلى التغلغل الأميركي الصهيوني في العالم العربي في ظل توقيعه اتفاقيات الاستسلام بين بعض العرب والعدو الصهيوني، التي تقود الى تصفية القضية الفلسطينية، وفي ظل سيادة نمط الاستهلاك الغربي، والعلاقات الرأسمالية الطرفية بسائر بني المجتمع، وتأثيرهما المباشر على صعيد تدمير البنى التقليدية، وتفكيك الروابط والعلاقات الاجتماعية، وتدمير القيم الشعبية من دون إحلال محلها روابط وعلاقات اجتماعية وقيماً حديثة ومدنية وعصرية، من ناحية أخرى.
لهذا كله، فرضت حركات الإسلام السياسي استعادة إشكالية العلاقة بين العلمانية والإسلام.وهي استعادة ثأرية، تريد من ورائها إدانة الحداثة والعقلانية والقومية والعلمانية والديموقراطية أو الوحدة العربية.. وحذفها من حقل الفكر السياسي من أجل حذف القوى التي تتبناها من الواقع.
صحيفة النهار اللبنانية ، 18/2/2008
@@@@@@@@@@@@@@@
2-الذهنية الشمولية تصبغ الديني وغير الديني
ملحم شاوول
1 -صحيح أن الغموض يكتنف مصطلح "الاتجاهات غير الدينية" وإذا أردنا التدقيق نلاحظ أنها ثلاثة في العالم العربي: الاتجاهات "المادية التاريخية" أي الشيوعية أو الاشتراكية التي تعتبر الدين جزءاً لا يتجزأ من السلطات المسيطرة وأداة من أدوات الهيمنة على المجتمع، أي أنه عدو عقائدي للمشروع الشيوعي؛ والاتجاهات "العلمانية" التي تريد، على غرار بعض التجارب الأوروبية أو التجربة التركية في المشرق، فصل الدين عن السياسة وعن الدولة؛ وأخيراً الاتجاهات "المدنية" التي تنشد دولة المواطنة والقانون والمؤسسات.
-2 في السياق التاريخي بدأت الاتجاهات الشيوعية والاشتراكية بلعب الدور الاجتماعي التغييري ودافعت عن فكرة "الثورة" و"التحول الاقتصادي الاجتماعي الجذري" بالعنف وبقيادة الفئات العاملة الأكثر فقراً واضطهاداً في المجتمع. هذه الاتجاهات واجهت وبعنف أحياناً التيارات الدينية واعتبرت في حينه أن التناقض والنزاع معها لا بد أن ينتهي بهزيمتها وبكف يدها عن السيطرة على المجتمع.
في موازاة ذلك، ظهرت الاتجاهات العلمانية غير الاشتراكية، ومنها القومية عربية أو غير عربية، وتأرجحت بين النموذج الفرنسي "الأكثر ديموقراطية" والنموذج الأتاتوركي "الأكثر سلطوية". وقد دعت هذه الاتجهات إلى كفّ يد السلطات والمؤسسات والفاعليات الدينية عن كل أشكال الحياة العامة وعن فسحات الشأن العام. ومنذ بداية تسعينات القرن الماضي راج مفهوم "المدنية" و"الدولة المدنية" و"المجتمع المدني" وقد روجت له أيضاً بعض المرجعيات الدينية. من الواضح أن هذا المفهوم يعكس تراجع الطرح الهجومي للمادية الاشتراكية ولمشروع العلمنة ويظهر التيارات غير الدينية بمظهر دفاعي أمام تصاعد التيارات الدينية. ويعود الى ذلك كون مفهوم "المدنية" يقبل التجاور ويطالب التيارات الدينية الطائفية بفسحة تتيح له التحرك والعمل المدني على أمل أن تصبح الدولة كياناً مدنياً أي حيادياً من الناحية الدينية.
-3 لقد انطبع في الذهن الشعبي التلازم والتطابق بين الأنظمة العربية "التقدمية" و"الاشتراكية" من جهة وبين أجهزتها القمعية ونزعتها الشمولية وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية الفاشلة، وكل ما يمتّ بصلة إلى العلمنة والاشتراكية والقومية. هذا علماً من جهة أخرى، أن الأنظمة العربية فسرت "ما هو غير ديني" على هواها، محافظة على طقوس وتبريرات وأشكال من التخاطب الاجتماعي تهدف أكثر إلى تطويع "الديني" واستخدامه الوظيفي من اجل انتاج خطاب مختلف ومنقطع على مستوى المضمون والمنظمات والبناءات الاجتماعية عن السياق الديني وخارج مرجعياته. كما لم تعمد إلى قيام قضاء وتشريع يشكلان انقطاعاً واضحاً عن الصعيد الديني. فبات في التصورات والذهنيات الشعبية كل ما هو "غير ديني" يمثل سلطات القمع والبرامج الاقتصادية الاجتماعية الفاشلة كما أصبح "الديني" يشكل من الناحية الوظيفية ملاذاً للفئات الاجتماعية المواجهة لهذه الآلة الغاشمة. فكانت تجربة الشاه في إيران والقومية البعثية في العراق وسوريا والتجربة الناصرية في مصر وجبهة التحرير في الجزائر، ناهيك عن تجربة الماركسية اللينينية في جنوب اليمن.
-4 بعد تصدع مشروع البناء القومي غير الديني وتوسع المجابهة مع المرجعيات الدينية التي استعادت القيادة الشعبية، عملت الأنظمة التي لم تنهَرْ على صياغة سياسة جديدة مع التيارات الدينية فحواها تقديم تنازلات مجتمعية لبعضها مقابل تجميد المواجهة مع النظام وعدم التدخل في إدارة الدولة. يعني ذلك الموافقة من قبل السلطات الحاكمة (والمستمرة بادعاء انتمائها إلى القومية العلمانية) على وجود فسحة في المجتمع الأهلي يمكن بعض الجماعات الدينية العمل فيها بل التحكم بتوجهاتها. وأبرز المجالات التي فتحت أمام عمل التيارات الدينية بموافقة السلطات والحكومات هي التعليم والخدمات الصحية والتنمية المحلية. فلا بد من تسجيل هذا التواطؤ القاتل للتيارات غير الدينية بين الأنظمة والحالة الدينيّة. فمن يدعي أنه في مواجهة مع الأصولية الدينية ويقدم تنازلات مهمة لها في مجالات الثقافة والتعليم وتكييف الشباب على نمط معين من التصور والتفكير إنما يحفر قبره بيده.
-5 لا بد ايضاً من ملاحظة أننا لا نملك معلوات ميدانية وافية عن حجم ومستوى انتشار التيارات غير الدينية وتغلغلها شعبياً في مراحل ستينات القرن الماضي ربما لعدم وجود، في حينه، ممارسة لإستطلاعات الرأي وللعمل الميداني المنهجي كسبيل لمعرفة اتجاهات المجتمع. لكن، منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي وسبعيناته وخلال تسعيناته، تبين من خلال العديد من استطلاعات الرأي التي أجريت، حيث أمكن إجراؤها بالحدّ الأدنى من الشروط الضرورية لتنفيذها، أن التيارات غير الدينية باتت أقلية لا تذكر (دون ال5% من العّينات المستطلعة) في كل من لبنان ومصر والأردن وفلسطين.
-6 في المقابل، تبين أيضاً أن أجندة التيارات الدينية السياسية وشعاراتها لا تختلف بشيء، بل تعيد انتاج جميع شعارات ومواجهات التيارات اليسارية والقومية التي كانت قائمة في الربع الأخير من القرن العشرين: أصبحت الإمبريالية العالمية استكباراً عالمياً والعدو نفسه، الولايات المتحدة، ومواجهة "الغرب" هي هي خلال الحرب الباردة وبعدها، كما بقيت مفاهيم المقاومة والعمل المسلح والحشد، والجماهير والأمة والشعبوية الاقتصادية الاجتماعية، تعيد ذاتها، كما أنشأت المؤسسات المرادفة لهذه المفاهيم من أجهزة أمن ومخابرات ورقابة على الاعلام وتقييد الحريات على غرار تلك التي كانت تمارس القمع
عليها.
جميع هذه الشعارات والممارسات هي شبه متطابقة بين "الديني" الحالي والذي كان يعتبر"غير ديني" سابقاً. فما هي مواقع الاختلاف السياسي بين مناضل "قومي علماني" في خمسينات القرن العشرين وستيناته وسبعينات ومناضل مسلم ملتزم دينيا في تسعينات ذلك القرن وبدايات القرن الحالي؟ والسؤال نفسه مطروح على صعيد الحزب السياسي والمؤسسة الإعلامية والنقابات والأجهزة السلطوية المختلفة.
-7 لسنا تالياً بصدد أدوار واتجاهات متباينة ومتقابلة بين "الديني" و"غير الديني" والسؤال يبقى هل تستطيع فعلاً الاتجاهات غير الدينيّة أن تنتج حيزاً "غير ديني"؟ وهل تظهر تجربة الاتجاهات غير الدينية ومؤسساتها وهيكلياتها أنها تستوي في مكان آخر مختلف تماماً عن المؤسسات والبنى الدينية؟ أم نحن بالتعيين الأخير بصدد تصورات وبناءات شمولية أكان لباسها "غير ديني" أم "ديني"؟
ملحم شاوول -(أستاذ في الجامعة اللبنانية)
جريدة النهار اللبنانية 18/02/2008


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.