قد يكون نقد السلطة في وضعنا الحالي أيسر و أقل مجازفة من تناول وضع المعارضة رغم ما فيه من دواعي النقد و علامات الإفلاس و الإحباط. وقد أتيح لي مؤخرا أن أتبين بما لم يبقى معه مجال للشك أن الديموقراطية التي نحكم باسمها لا تختلف في شيء عن ديموقراطية حوانيت بعض المعارضين و صحفهم. وصدق قول ربك " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون." * * * و عندما يضرب عن الطعام قائدي حزب معارضة احتجاجا على غلق منافذ العمل السياسي و تعطيله عن القيام بدوره ماذا يفعل من لا منفذ و لا حزب له؟ فهل بقي اليوم بيننا من يشك في حقيقة الوضع السياسي في بلادنا حتى نحتاج لمثل هذه العملية الاستعراضية نلفت بها انتباهه و نستدر من خلالها استعطافه؟ و هل هناك في تونس اليوم حزبا أحسن حالا من الديموقراطي التقدمي حتى يصبح ما يتعرض له موجبا لاستنفار الأنصار و استعطاف الأحرار؟ كلا وألف كلا فأين ما يحصل له مما حصل لغيره دون استثناء بما في ذلك الحزب الحاكم نفسه. أحزابنا اليوم مدمرة منهوبة و مولى عليها تحرر مواقفها و تدار شؤونها مباشرة من القصر أو مكاتب المصالح الأمنية و يتكفل بتسييرها أعوان المخابرات و المرتشون المندسون في قياداتها و إن استعصت تحاصرها فيالق المليشيات و الأعوان النظاميين و السريين المسلحين يشتتون أصحابها و يضطهدون أنصارها يذيقونهم الويلات حتى لا يبقى لهم شغل آخر غير المعاناة. و الويل و الثبور لمن يتصل بهم أو يحاول مجرد الإقتراب منهم. الجميع يعرف ذلك وكلهم صامتون. و الإضراب عن الطعام في مثل هذا الإطار إعلان عن إفلاس الديموقراطي التقدمي يندرج في وضع عام سكنته الأحقاد و العداوات و غلبت عليه المغامرة و الأنانية و طغى على أصحابه حب الظهور على الشاشات و الصحافة و الأنترنات و ما يتوهمونه في أنفسهم من عبقرية ودهاء في المناورات. و لا أحد يجهل أن استقامة الحال بمثل هذه الأعمال من المحال. إنهم في واد و الشعب في واد منصرف تماما عنهم. ما يريده الأستاذ الشابي و من معه بهذه المناورة هو أن يجعل الأزمة الشاملة التي تمر بها البلاد أزمته و أن يحول محور الجدل و الحوار و الشغل الشاغل لتونس اليوم يدور حول شخصيته و لا أحد غيره. و الويل لمن لا يساند أو يجاهر بالنقد أو يخالفه فديموقراطية التقدميين لا تحتمل المعارضين و تجر خلفها المجابهة بلا تنسيق أو طلب موافقة في قطار لا يمكن أن توقفه إلا صدمة الجدار في آخر الطريق. تحالف الجهل هذا لن يقود لغير الخيبات و الهزائم و الأزمات. فماذا سيحصل إذا أجلي الحزب عن مقره و ما عسى أن يتغير لو سحب صاحب الدعوى قضيته؟ الأمر سيان لأن القضية في جوهرها تستهدف جر المعارضة إلى رهان خاسر من أصله بهدف احتكار الساحة لشخصه على مدى السنتان القادمتان ليعلن لنا ليلة الإنتخابات الرئاسية بكل عبقرية عن انسحابه لعدم توفر أدنى شروط الشفافية و الديموقراطية في العملية الأنتخابية. و لكن هيهات.. و كما لسلطة الإستبداد في الداخل و الخارج صحف تستكتبها و موجات وشاشات تستنفرها و لجان و جمعيات و هيئات تحركها للتأييد و الولاء و بيانات المساندة و التأليه لها استكملت هذه المعارضة دارتها حتى أصبحت صنوا لها تسمع جعجعة و لا ترى طحنا بل "طحينا" و تردى ثم المزيد من الإسفاف و التردي الشاهد على عجزها و وفاق الخديعة و النفاق الذي يجمعها. قد يضن البعض أن وضعنا فريد من نوعه و أن حالنا لا مثيل له و لا يوجد مثله. و الحقيقة أننا أينما ولينا وجوهنا من حولنا لا نرى غير أوضاع أنكى و أظلم من حالنا. أوضاع ما أحوجنا لإدراكها حتى ندرك الإطار الذي يحكمنا و لو أن المجال لا يتسع هنا لاستيعابها. لقد عمت في كل الأقطار أنظمة بائسة مرتهنة تلج الألسن في كل مكان بفضائحها و لا يكاد يمر يوم دون هتك المستور و انكشاف غرائب الأمور من عجائب دسائس وفساد أصحاب القصور. وعسى أن يكفينا حالنا شغلا لنا و انشغالا بوضع بلادنا نقراه كما يقرأه اليوم أي شخص من أفرادنا فلم يعد يشك أحد في أننا في وضع استبداد و قهر وظلم تحكمه أخلاق جشع و تفرد و غصب و يلفه خطاب مخادعة وكذب ونفاق فما أحوجنا أن نضع بيننا و بين هذا الحال مسافة واضحة لا لبس فيها حتى يجرفنا السياق و ندمج في خانة وفاق الصمت و النفاق. الصورة بكل ما فيها أننا نحكم على مرأى من العالم كله و علم منه بأحد أكثر أنظمة الإستبداد في عالم اليوم تخلفا دون أن يكون ذلك قدرنا بقدر ما هو مفروض علينا، بل يقرون به و يعترفون بتحالفهم مع المستبدين لعدم ثقتهم في هكذا معارضين و شعوب مستغفلة. الصورة المغشوشة التي يمولها و يسوق لها من ترتبط مصالحهم باستقرار بلادنا و لو على جثثنا تقوم على الحيلولة دون انكشاف الوجه القبيح لحقيقة نظامنا، لذلك حاولوا خداعنا و خدعونا فعلا بحزيبات لم يرخص لأحد فيها إلا بعد تيقنهم من تحكمهم فيهم بحيث لا يتعدى دورها دور ورقة التوت التى تخفي عورات النظام الذي يدعمون. إنها أحزاب تمنح كما تسند لزمات أسواق المواشي و كراء مصبات النفايات و كذلك تعطى تصاريح إصدار الجرائد و تكوين الجمعيات. و هكذا تحول الشأن العام حكرا على المحضيين و الموالين الذين بذكر صاحب نعمتهم يسبحون و لدوائر دعمهم شاكرين حتى إذا اعتقدوا أن عودهم قد قوي على الإنقلاب على ولي نعمتهم تحولوا مناضلين كحال كل مناضل شريف و حر غيور مارقون خارجون عن القانون عرضهم ومالهم و أهلهم مستباحون. لذلك غريب أمر هذه الأحزاب التي تتبجح علينا اليوم بحمل لواء المعارضة الحقيقية بما يحمله خطابها من غرور و ما تفضحه أفكارها من قصور في نزوعها للإستفراد بتركة نظام بلغ مرحلة مرض موته و الحال أن ما يفرق بيننا و بينهم لا يتعدى الإمتيازات التي غنموها عندما كانوا متواطئين مع المستبدين. لا شك أن الصورة التي حكمت بها تونس واستبد بها على شعبها على مدى نصف القرن الذي مضى على استقلالها لم تعد تتفق مع واقعها ولم يعد أحد يقبل بالشكل الذي انتهت إليه من تكريس لنهبها و مصادرة لمستقبل أجيالها و امتهان لكرامة أبنائها و تأسيس للتمييز و الإقصاء بين أفراد شعبها. لقد مرت خمسينية الإستقلال خيبة للإصلاح و تلتها خيبة خمسينية إعلان الجمهورية و نحن اليوم على أبواب خيبة عشرينية "العهد الجديد" و لم يعد أحد في مستوى الغباء ليثق بوعود التسويف بالإصلاح التي يطلقها نظام الإستبداد و لا بالمبادرات الدون كيشوتية لمعارضته المنفصمة تاريخيا و اجتماعيا و لم يعد أحد يجهل أن سلطة الإستبداد آلت إلى الإهتراء شأنها شأن معارضيها و لم يعد يبقى لها من صدى خارج دوائر المطبلين و المداحين من الطامعين فيها و المتمعشين منها و أننا في وضع مريض تضافرت شواهد قرب نهايته بعد أن حولوا البلاد صحراء يبابا من حولهم. الإزدراء هو ما يلاقيه السياسيين في مثل أوضاعنا ألئك السياسيون الأوصياء الذين توهموا أن السياسة حكر عليهم لحكمونا بمشيئتهم و أنهم خلقوا ليسطروا لنا نمط حياتنا و كيف نعيش في بلادنا. الإزدراء لمن ذهب في اعتقادهم أن السلطة تؤهلهم لحراستنا من أنفسنا الإزدراء لمن ضنوا أن السياسة و كالة لهم لترويضنا على ما يريده الغير لنا و تطبيق خططه علينا. الإزدراء لألئك الذين يتاجرون بنا لترويع الغرب منا حتى يستمروا على حكمنا و يوغلوا في قهرنا و نهبنا. الإزدراء لكل ألئك السفلة الأغبياء الذين يرتزقون من الكيد و البطش بكل فرد حر منا في كل موقع من مؤسساتنا. الإزدراء لكل من سرقوا نصيبنا من وطننا و قضوا على مستقبل أبنائنا. الإزدراء لمن لا يروقهم ما نقوله و لا يعجبهم ما نقوم به و لا يلائمهم ما نفكر فيه الإزدراء للمتخفي خلفنا، للمتنصت على حديثنا في عقر بيوتنا للمتعقب لتحركاتنا لم يبقى لنا ما نخفيه.. لأننا ببساطة نزدريه. و عندما نجمع لهم ما يكفيهم من الإزدراء لنجازيهم الجزاء الذي يليق بهم على كل ما فعلوه سوف يستيقضون ليصبحون على واقع جديد يكتشفون فيه أن الوطن لنا و ليس لهم و أنه بكل ما فيه يزدريهم.