حين لازمت لفترة طويلة معالم النشاط الحزبي المعارض , وحين مرت علي من الدهر ثلاث عقود قضيتها متقلبا بين جنبات هياكل التعليم والنشاط الفكري والسياسي وبين أحضان وسط أسري اتسم بالمحافظة وكثير من التواضع المادي , انذاك فرضت علي الظروف أن أكون مستسلما لقدر سياسي لم أختره بنفسي حين عانقت النشاط التلمذي والطلابي في سن مبكر لأشهد مخاضات وأحلام شباب تونس في مرحلة عمرية جد مبكرة ... لم أكن حينها قادرا على التأمل بدقة في مالات بعض المغامرات السياسية التي كان يتحكم البعض في خيوطها من وراء الحدود والبحار , أو كان البعض الاخر يديرها بأحلام القيادة والتصدر السياسيين , أو أن جزءا اخر كان يمارسها دون اتقان لأدوات صناعتها وقد غلب عليه الحس الوطني والشعور الديني الغامر ... لم أندم كليا على تجارب وخبرات أكسبنيها الله تعالى بعد طول تقلب ومراس , ولكن حز في نفسي أن ألازم الصمت تجاه أخطاء سياسية فادحة كنت بصدد استشعارها حين كان يقع شحذنا أيام دراستنا بالجامعة التونسية من قبل قيادات فكرية وسياسية تصدرت المشهد السياسي علنيا أو حتى من وراء حجاب ... لعلني لم أكن يومها حين دقت الأعمار تمام عقدها الثاني قادرا على مواجهة أجهزة حزبية متحكمة ومنتشرة في عرض البلاد وطولها ولكنني أيقنت مع مرور الأيام بأن سيطرة الوهم على بعض العقول والجري وراء أحلام القدرة الجامحة على احداث التغيير دون مراعاة سنن الله تعالى في خلقه أو مراعاة سعة التكليف للأنفس البشرية ...أيقنت أن كل ذلك قد قاد حياتنا الوطنية الى حالة من العطالة والجمود التي لاينبغي السكوت عليها ... بعد استيعاب هول الصدمة الأولى التي ألقت بالالاف من الطاقات الوطنية الشابة في المنافي والسجون , كان لزاما علي ومن باب المسؤولية الوطنية والأخلاقية ألا ألازم كما هو شأن الكثيرين حالة الصمت المخجل أو خطة الهروب الى الأمام بادعاء صوابية المسلك السياسي وصحة كل الرؤى الفكرية والتصورات الحزبية التي تم اعتمادها في أفدح مواجهة تونسية بداية سنوات التسعينات , ومن هذا المنطلق قررت الخروج في شجاعة الى الفضاء العام اسما ولقبا وهوية فكرية وسياسية مستقلة اختارت التعبير عن نفسها من خلال توسط في النهج الاعلامي وتجديدا في الرؤية الفكرية والسياسية من منظور يحترم سماحة الاسلام ويعلي فيه توجهاته المقاصدية وقيمه الأخلاقية ويقطع في وضوح تام مع أساليب العنف والتنطع التي تأذت منها دول وشعوب المنطقة وحتى مجمل الأسرة الدولية . قررت أن أكتب وأكتب ثم أكتب لأنني موجود ولم أكن أبدا في عداد الأموات الذين يستسلمون لانزلاقات الدولة العربية الحديثة على شواطئ موضوعات المأسسة واحترام سلطة القانون , أو يستسلمون للقدرات التنظيمية الهائلة التي يتمتع بها البعض من المعارضين ليهيمنوا على الساحة من خلال علو أصواتهم أحيانا ومن خلال قدراتهم المالية أحيانا أخرى أو من خلال شبكة ولاءات دولية تلغي قدرة الشعوب على الاختيار القطري والمجتمعي السليم . عندما صمت قلمي محترما سن الاخرين وسبقهم في مجالات العطاء الفكري والسياسي والاعلامي , أحسست يومها بدور للكلمة الشفهية داخل المنتظم الحزبي والفضاء العام , فكان أن نطقت وتكلمت وطالبت بالمراجعة والشجاعة في التقويم ..., ولكن مضت الأيام وأيقنت بأن سلطة القلم أعلي شأنا وأشد قوة وأثرا من سلطة الشفاهة والكلام داخل فضاءات مغلقة لايسمعك فيها الا المناضلون المتحزبون الذين تغلب عليهم المحافظة والاتباع . من ذاك المنطلق كان خروج الحرف الى عالم واسع ورحيب نخاطب فيه القارئ والمواطن والانسان بعيدا عن منطق لايرى الأمور الا من خلال مايسطره القمقم القيادي , لتتوالى بعد ذلك جملة من الرؤى والمراجعات التي جهرنا بها دون وجل أو خوف الا من الله تعالى ثم من ضمائرنا . لقد اكتشفنا الوطن مجددا مع رحابة الكلمة وبساطة الانسان وعمق الشعور الوطني في لحظة التأذي الجماعي , وهو ماأفسح لنا الباب واسعا من أجل مد قنوات الاتصال مع جمهور عريض فيه ماهو نخبوي وفيه من هو من الكادحين بين أزقة وشوارع هذا الوطن الذي عشقناه حتى استحالت علينا رؤية الكون دون استعمال عدساته . تجربتنا مع الاعلام الحر والنزيه والمناضل , ومحصلاتنا مع التونسي أينما كان داخل تراب الوطن أوخارجه , وخبراتنا مع مكونات الفضاء العمومي بمختلف أطيافه ومكوناته كشفت لنا بأن الحقيقة موزعة بين مختلف الأحزاب والمشارب الفكرية والسياسية ... النسبية في النظر الى الأمور والاعتدال في الطرح ومراعاة مصالح الاخرين عند مباشرة العمل السياسي وانصاف المرأة ككيان ضحى من أجل اثبات وجوده العلمي والاجتماعي والسياسي , والاقتراب من هموم الناس ومشاغلهم اليومية وتفهم مصالح الشعوب والدول ونبذ التسلط في ادارة الجماعات البشرية والاقتراب من فهم العلاقات الدولية السليمة بعيدا عن الشوفينيات والأوهام والصراعات الاقليمية والعالمية الحادة ... رؤية مجددة ترى في الاسلام كيانا حضاريا وجماليا وأخلاقيا موجها يعين على تهذيب المسلك الاجتماعي ويقرب بين المختلفين في النهج الفكري والسياسي ويرسي حوارا حضاريا متقدما بين الأمم والشعوب والتكتلات البشرية والدولية , دون اغفال لقيم العصر ومناطق العفو ومساحات الاجتهاد التي لامجال لتقدم انساني في ظل الغفلة عنها ... تجربة جديدة تشق طريقها بثبات دون أن نغفل عن وجود الحاسدين والمتربصين وهو شأن الظاهرة الانسانية , ولكن ايماننا بالانساني والقيمي والوطني والعالمي المشترك سيعيننا بعد مشيئة الله على التغلب على مصاعب سوء الفهم والجهل بمكامن التحديث والتجديد في مسالك فك القطيعة بين مكونات أسرة وطنية وانسانية واحدة . 25 أكتوبر 2007- مرسل الكسيبي* *كاتب واعلامي تونسي/رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية :