قبل أيام قلائل طلب مني زميل اعلامي مغاربي قريب من دوائر صنع القرار عدم تحرير تقارير اخبارية أقوم في ثناياها بتغطية تطورات الوضع التونسي وذلك على خلفية عدم ارتياح بعض الجهات الرسمية لمحتويات هذه التقارير وماأوردته من تسريبات اخبارية يبدو أنها أزعجتها الى الدرجة التي ترتب عنها استنطاق مراسل الصحيفة العربية الصادرة من لندن داخل وطني تونس. وضمن نفس السياق طلب مني رئيس تحرير نفس الصحيفة اللندنية التي أكاتبها باستمرار التخفيف من النبرة التحريرية وذلك تجنبا لوقوع مقالاتي وتغطياتي التقريرية تحت طائلة الضغوطات التي قد يترتب عنها حظر النشر. ودون التوغل بالحديث عن مؤشرات أخرى لضيق مساحة حرية التعبير عند حدوث مستجدات بارزة كالتي حدثت في تونس مع نهايات شهر ديسمبر من السنة الماضية ومطلع شهر يناير من السنة الجارية ,فان قدر رجال الاعلام العرب على مايبدو هو معايشة ظروف عمل نفسية وسياسية ومادية أقرب ماتكون الى ظروف التحرك بين الألغام والمساحات الحارقة. ولعلني ضمن هذا السياق لم اكن في معرض التشهير بمناخ سياسي داخلي بقدر ماانني كنت أود من خلال هذه المقدمة رواية بعض المؤشرات على حجم الممنوعات الاعلامية والصحفية في بلادنا العربية . اليوم مرت بمخيلتي احجام المخاطرة الحقيقية التي يتعرض اليها مراسلو الصحف ووكالات الأنباء وأجهزة الاعلام المرئي والمسموع وكل العاملين في الحقل الاتصالي بما في ذلك حقل الاعلام الاليكتروني الأشد حداثة وتطورا ضمن هذه الدوائر الاعلامية المذكورة. كانت المخيلة تحدثني بمصير رجال تجرؤوا على كشف ملفات فساد ومظالم سياسية وخروقات قانونية ودستورية في بلاد العالم الثالث ,كما مصير رجال اخرين طالبوا بتطبيق القانون وعدم التعدي على حقوق الناس وممتلكاتهم وأعراضهم وسلامتهم الجسدية ...وهم بلاشك لم يقوموا الا بعمل وطني وانساني شريف أملته عليهم ضمائرهم وأخلاقهم التي تستحق منا كرجال اعلام كبير التحية والتقدير وبالغ الاحترام ان كانوا اليوم أحرارا أو سجناء وراء القضبان أو شهداء أبرار بين يدي رحمة ربهم تعالى . مالايدركه القارئ في كثير من الأحيان هو حجم المعاناة التي يعيشها الاعلاميون العرب من أجل تقديم الخبر طازجا وصادقا وشفافا وأمينا الى الرأي العام,حيث يكتفي الجمهور في العادة بالاستمتاع بالمادة الخبرية او مقال الرأي دون تقدير جهد أولئك الذين يضحون بأموالهم وأوقاتهم وراحة بالهم وربما يخاطرون بحياتهم من أجل وصول المعلومة في وقتها الأسرع والأنسب الى أكبر دائرة بشرية ممكنة على وجه المعمورة... قصة ألم نقضيها وراء الحواسيب من أجل امتاع القارئ دون انصاف مادي أو معنوي ممن يتلقفون مانكتبه بفارغ الصبر وراء مكاتبهم الفاخرة أحيانا وأرائكهم الوثيرة في كثير من بلاد الأرض ,ولعل مايلطف من خواطرنا قليلا ويريح ضمائرنا بعض الشيء بعد رحلة معاناة يومية مع مستجدات الخبر والتحليل والمطالعة والتثقيف والتركيز الذهني والتحرير هو رؤية مانكتبه لعالم النور قبل أن تئده نرجسية بعض المنابر الاعلامية أو ديناصورات العمل السياسي الذين يكرهون النقد والحقيقة مجردة وموضوعية ولو بأقدار عالية من النسبية... عزاؤنا في ظل الألغام السياسية والفكرية والأمنية التي نتحرك فيها في منطقتنا العربية أن ثمة ربا لايترنا أعمالنا حتى وان لم نلق على ذلك الجهد مقابلا دنيويا منصفا ,أو حتى لو علم القراء أنه لم تدخل جيوبنا أموال تعوضنا عن حرماننا من رؤية أبنائنا وأهلينا والاستمتاع معهم بأطيب الأوقات والتمتع بمفاتن الحياة الدنيا كما هو شأن الكثيرين من الاعلاميين العرب وغيرهم من اعلاميي شعوب الأرض الذين احتضنتهم مؤسسات تدفع لكلماتهم المزورة والكاذبة في كثير من الأحيان مايسيل له اللعاب قبل أن تركع أمامه أسمق الهامات... لقد كانت مسيرتنا مع العمل الاعلامي مسيرة عشق ووفاء ومحبة للبسطاء الذين عانينا مثلهم مرارة زور الحرف والكلمة,كما مرارة الاحتكار الذي تمارسه بعض المنابر الحزبية أو المنابر السياسية الخطية ,ولذلك لم يكن أمامنا من بد الا الانخراط في تجربة صحيفة الوسط التونسية www.tunisalwasat.com كمنبر اعلامي مستقل بالاضافة الى المساهمة التحريرية في العديد من الصحف العربية المشرقية أو المهجرية كما المنابر الاليكترونية المستقلة من أجل كسر الحصار الذي مورس علينا وعلى أقلام كثيرة مقتدرة وأصوات حرة اختارت الانحياز للفكرة المتألقة بعيدا عن تعليمات الجوقة الحزبية التي تفقد الانسان تمايزه الفكري وروحه الابداعية. ندرك بلا شك أن ثمن الشهرة والانتشار الواسع ولاسيما في سوق الفضائيات هو السكوت وصمت القصور وتزييف الحقيقة أو بالمقابل الدخول تحت رحمة التكتلات الحزبية التي تقف وراء بعض الفضائيات التي تعمل بأجندة حزبية تخفيها بأناقة القفازين ,غير أننا اخترنا الطريق الأشق وهو التوكل على الله تعالى أولا واخرا واثبات الجدارة من خلال العطاء المثابر ذي القيمة التي يحكم عليها القارئ الموضوعي قبل المثقف الحسود أو المنافس الحقود ... سوف لن نسكت بمشيئة الخالق عن قول الكلام المباح كلما كانت الحاجة والواجب والضرورة تدعونا الى ذلك , وأما الأشكال الأخرى من المساومات المعلنة والخفية والتي تتراوح بين شيء من العطاء وشيء من الوعيد فسنتركها وراء ظهورنا ,مؤمنين بأن ماأصابنا لم يكن ليخطأنا وأن ماأخطأنا لم يكن ليصيبنا ... أمانة الكلمة ستكون بين جنوبنا أقوى من صمت يفرض على شعوبنا رسميا في كثير من الأحيان بأساليب العصا والجزرة , وليست معارضتنا العربية هي الأخرى ببعيدة عن هذا الأسلوب ولو بطريقة المكافات التي تعطى للمتزلفين والمطبلين للزعيم الأبدي وبمعاقبة الأصوات الحرة في البرية ... سر نجاح الاعلام ومصداقيته تكمن بعد اخلاص القائمين عليه في موضوعيته وملامسته للحقيقة وقضايا وهموم الناس وفي استقلالية رجاله ونسائه وعدم خضوعهم للمساومات المادية والضغوطات الجماعاتية الاحتكارية ,ومن سلك هذا الطريق فقد تلمس مسالك الرقي والنجاح ولو بعد حين ومن تنكب عنه فقد مارس التضليل الاعلامي والتزوير ولو توهم ظاهرا أنه على خير عظيم ! غير أن هذه الاستقلالية ضريبة للحرية لايدفعها الا الأحرار ,فاللهم اجعلنا قولا وعملا من عشاق وطلاب الحرية والصدق والمسؤولية. ألا فأمنوا معي حتى لايكون اعلامنا ملكا جائرا أو حكما جبريا- اللهم امين... *تم النشر على صحيفة المصريون بتاريخ 15 فبراير 2007+ صحيفة الوطن الأمريكية بتاريخ 14 فبراير 2007+أسبوعية صوت العروبة الأمريكية بتاريخ 14 فبراير 2007 حرر بتاريخ 13 فبراير 2007-26 محرم 1428 ه *كاتب واعلامي تونسي & رئيس تحرير صحيفة "الوسط" التونسية