يشهد الواقع السياسي في تونس حالة احتقان شديدة ، وتدل على ذلك عديد المعطيات ليس هذا مجال استعراضها لان ما يهمنا في هذا المقال ليس السياسي اليومي أو الإجرائي بقدر ما يهمنا مقاربة مبادئ السياسة وأفكارها التي يحتكم إليها الفرقاء مختلفين أو مجتمعين. ونحسب أن الاحتقان المذكور ناتج عن توتر في الخطاب أو عن خطاب متوتر أصلا ينبني على مبدأ رفض الآخر والإقصاء ،وهو نتيجة لتربية نشأ عليها قادة ومفكرو التيارات السياسية المختلفة ،لذلك يحتاج الخروج من هذا المأزق الذي يعيق تطور الحياة السياسية في البلاد إلى مراجعة تطلب شجاعة وجرأة على شاكلة جرأة اردوغان في تركيا، ولا نبالغ إذا ذهبنا إلي القول بأن كل تيار فكري أو حزب سياسي في تونس يحتاج إلى" أردوغانه"الخاص به بما هو رمز للتغيير والثورة على الجمود والتفاعل مع المتغيرات بما يفعل المبادئ الكبرى والأفكار العظيمة في الواقع الاجتماعي. ولان أردوغان التركي نشأ داخل الحقل الإسلامي ، ولان التيار الإسلامي في تونس يمر بحالة استثنائية كما أن حضوره داخل اللعبة السياسية يكاد يكون محوريا تدور حوله كل المقاربات والمواقف حضورا وغيابا ، ولانه أيضا معطى لا يمكن أن نغفل عنه أو نتجاهله رأينا أن نبدأ بالبحث في خصائص الاردوغان الإسلامي التونسي ، ما هي دواعي الدعوة إلى وجوده ؟هل هي ضرورة ملحة أم حاجة مستقبلية أم تحسين قد يستغني عنه؟ هل هناك من هو مؤهل للقيام بهذا الدور ؟ وهل هناك من هو مستعد لذلك وما هي المهام المرحلية المطلوبة منه و كذلك المهام الاستراتيجية؟كل هذه الأسئلة وغيرها نحاول الإجابة عنها أو مقاربتها من أجل تعميق الحوار حولها . في البدء لا بد من الإقرار بأن اردوغان التونسي المفترض أو المنتظر لن تكون له من الممهدات الموضوعية التي قد تيسر مهامه لاختلاف الواقع الموضوعي بين تونس ولا تركيا ، وليس مبرر الاختلاف الموضوعي أو الفارق في القياس مدعاة لعدم طرح هذا الإمكان في رأينا بل لعل ذلك يجعل الأمر أكثر إلحاحا لان من ينتظر منه أن يكون في حجم هذا الزعيم التاريخي(فردا ام جماعة)لا بد أن يأتي بما لم تستطعه الأوائل. ليس من المفيد الوقوف كثيرا عند الحاجة إلى مثل هذه الدعوة لان كل تجربة بشرية تحتاج إلى المراجعة والتغيير طيلة مسيرتها التاريخية إذا رامت أن تنجح أو تحقق أهدافها ،لكن ما هو مطروح هنا هو مستويات هذه الحاجة وقد أشرنا إليها بمصطلحات تستعمل عادة عند علماء الأصول في تصنيف المصلحة(الضروري ، الحاجي ،التحسيني)بما يعني أن هذه الدعوة هي في تقديرنا "مصلحة"بصرف النظر عن درجتها التي سنبحث فيها لاحقا و"المصلحة يدور معها الحكم وجودا وعدما". وبمنطق رياضي نلغي احتمال أن تكون هذه المصلحة تحسينية لان التحسيني في درجة المصالح هو تتمة وتكملة للحاجي الذي هو بدوره مفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق ،وإن كان التيار الإسلامي في ضيق يحتاج فيه إلى التوسعة فان ذلك وحده لا يكفي لان هذا التيار في مرحلة إن لم يتوفر له فيها هذا الاردوغان المنتظر" لم تجر مصالحه على استقامة"بحسب تعبير الأصوليين بما يعني أن الدعوة إلى وجود اردوغان التيار الإسلامي في تونس هو بدرجة الضروري غير أن السؤال الذي يجب الإجابة عنه هو ما هي دواعي الضرورة في هذا الإطار ؟ وفي اعتقادنا تنبع الضرورة من جهتين ، جهة أولى هي حاجات هذا التيار إلى مراجعات حقيقية وحسم على المستوى الفكري في عدد من القضايا الجوهرية على أن تكون هذه المراجعات حاسمة وواضحة وهو ما يتطلب جرأة نحسب أنها الدافع لضرورة وجود اردوغان إسلامي تونسي ، أما الجهة الثانية التي تنبع منها ضرورة هذه الدعوة فموضوعية تتعلق بزاوية الاكراهات الواقعية التي يفرضها وجود هذا التيار ضمن مكونات أخرى على الساحة السياسية ما زالت لم تتضح بعد كيفية ولا مبدأ التعامل معها ، وزاوية إكراهات واقعية أخرى تفرض على التيار تفعيل مشاريعه في الواقع الاجتماعي من أجل حلول ناجعة لمشاكل المجتمع وهو ما يتطلب إعادة النظر في جملة من التصورات والآليات المتحكمة في تنزيلها داخل أدبيات هذا التيار وهنا نسأل من هو الشخص المؤهل أو القادر على أن يكون اردوغان الحركة الإسلامية التونسية؟ تتطلب الإجابة عن هذا السؤال معرفة جملة القضايا والتصورات والآليات التي يفترض أن يتجرأ هذا الاردوغان المنتظر على تغييرها أو على الأقل فتح حوار جدي حولها لمراجعتها ، ولان المجال هنا يقصر عن تناول كل القضايا فإن ذكر بعضها قد يساعدنا على مقاربة الإجابة عن سؤال الشخص او الطرف المفترض لهذه المهمة، وفي اعتقادنا توجد قضية رئيسية أولى قد تكون هي قطب الرحى في جملة القضايا الأخرى المطروحة على التيار الإسلامي في تونس وبالتحديد على "أردوغانه المنتظر"لان عدم حسمها إلى الآن يرجع زيادة عن الظروف الموضوعية التي مر بها التيار إلى وجود أزمة حقيقية تتمثل في غياب خيال سياسي قادر على تجاوز ما خلفته محنة التسعينات، هذه القضية هي قضية العلنية وقد يسأل سائل عن علاقة قضية سياسية بقضايا عقدية وفكرية في خطاب التيار الإسلامي ونحسب أن السؤال لا يدرك معنى أن يكون تيار ما علنيا لان العلنية تقتضي الحسم في خيارات التغيير الاستراتيجية بما يحدد أسلوب العمل السياسي، ولن نعتد هنا بسعي التيار الإسلامي للحصول على تأشيرة العمل القانوني لان ذلك وحده لا يكفي لتحرير طاقات الفعل داخل التيار من مكبلات السرية التي تعودها منذ نشاته والتي نحسب أنها راجعة إلى أساسا إلى الخيارات الفكرية والنظرية فالرؤية الفكرية والمنهج الأصولي للحركة الاسلامية في تونس برغم قيمة الجهد الذي بذل في إنجازها لم تستطع أن تساعد الفرد المنتسب لهذه الحركة على حسم رؤيته وبناء شخصيته وبقي فردا لا يقدر على تحديد مرجعيته يتأثر بأدبيات" الإخوان المسلمون" وينفتح على الحداثة ورواح بين التشدد والوسطية ، وتعد هذه الخصال عند البعض ميزة إيجابية تساعد هذا الفرد على التطور والحوار فإن ذلك لا يقلل من خطورة غياب المرجعية المحددة للتوجهات والرؤية العامة ،خطورة تنعكس على مستوى الخطاب الذي يوصف من خصوم التيار بكونه خطابا مزدوجا، ولئن كان للواصفين أغراضهم السياسوية فان الأمر في نظرنا يعد منطقيا إذا نظرنا إليه في ظل غياب المرجعية المحددة فقضايا المرأة والحرية والقبول بالآخر لا يكفي الحسم فيها بقرار مركزي تتخذه قيادة الحركة في مؤسساتها العليا طالما لم تكن الأسس النظرية التي بني عليها واضحة ومتبناة لدى كل المنتسبين لها . لن يعدم مخالفو هذا الرأي الحجة لابراز العوائق التي تعترض هذا الطرح وتشكك فيه ولكن نحسب أنها على اختلافها وتنوعها تبقى عوائق واقعية بالمعنى الإجرائي للكلمة بما يعني أن على" الاردوغان المنتظر" أن يستنفر كل جهده وطاقاته الفكرية وخياله لإبداع سبل التحرر منها وتجاوزها لان من يقف وراء هذه العوائق قد لا يكون له الاستعداد لفسح المجال أمام هذا التطور خاصة إذا كان من خارج التيار ، وهذا ما يفتح لنا باب البحث عن المؤهل للعب هذا الدور بالنظر إلى واقع وإمكانات التيار الإسلامي ولسنا هنا في وارد التشكيك والبحث في نوايا وذمم المناضلين داخل هذا التيار ولكن البحث يقتضي منا النظر إلى ما هو متوفر في الواقع حتى نستطيع مقاربة الإشكال المطروح. فإذا انطلقنا من الزعامات التاريخية للتيار نقف أمام صنفين ،صنف أول نحسب أن مساهماته الفكرية والعلمية لم تعد تسمح له بالفعل داخل التيار إلا بقدر الافادة الروحية أو ما تعرف بدرجة الآباء الروحيين ذلك انه قد ثبت بالتجربة فشل الجمع بين وظيفتي المفكر والسياسي للفارق البين بينهما وعلي هذا الصنف أن يحسن توظيف موقعه الجديد ومن هؤلاء نذكر الشيخ الغنوشي والدكتور عبد المجيد النجار، وصنف ثان هو القيادات الميدانية التي تحملت المسؤولية إبان المحنة وهي رموز قدمت وأصابت و أخطأت وعليها أن تعيد النظر في موقعها داخل التيار بما يساعده على التطور دون أن تستقيل بما يعني في نهاية التحليل أن الصنفين غير قادرين على أن يستجيبا لشروط الاردوغان المنتظر، ولم يبق أمامنا غير فئة الشباب الجامعي أو عناصر الاتجاه الإسلامي سابقا فهم وحدهم الآن مؤهلين في نظرنا إلى تطوير التيار الإسلامي في تونس بناء على ما صار يتسم به هؤلاء من نضج فكري بعد ان عاشوا مرحلة لم يكونوا فيها متصدرين للمهام القيادية وكان حجم حضورهم الميداني في الجامعة وما اتسمت به من حراك متواصل يمنعهم من التأمل والمراجعة دون أن يشفع لهم ذلك في التنصل من مسؤولية ما آل إليه وضع التيار الإسلامي بعد التسعينات غير انه في تقديرنا صار لهؤلاء الشباب بعد تجربة السجن والتقدم في البحث العلمي من القدرة على الإلمام بالمتغيرات في الواقع التونسي والتفاعل معها بما يرجع للتيار فعاليته داخل المجتمع ويساعده على المساهمة في الخروج من أزماته السياسية والاجتماعية التي يعاني منها . ينبع هذا الحكم من قراءة بعض المقالات التي ينشرها هذا الشباب بين الفينة والأخرى وكذلك من تحليل بعض مساهماته في الندوات الفكرية التي تنظمها بعض الجمعيات الثقافية، قد لا يكون ذلك كافيا في نظر البعض ونحن نذهب إلى اكثر من ذلك فقد يقعد هؤلاء الشباب عن القيام بهذه المهمة إذا اشتدت المعوقات الموضوعية أمامهم ولن يعدموها لان المتربصين بالجديد كثر ولا يسعنا هنا إلا أن نراهن على التاريخ وليس في ذلك أي تناقض مع الجرأة التي اشترطناها في "الاردوغان المنتظر" لان هذه الجرأة معطى قائم في واقع الحال تحتاج إلى بعض الوقت. (*) باحث جامعي