لم تزل أصداء مداولات السادة نواب الشعب بخصوص ميزانية 2008 تتردد في الآذان والآفاق لافتة انتباه المتابعين إلى الانعطاف النوعي في أداء المعارضة عامة والاتحاد الوحدوي خاصة. وهو ما يدعو المحلل للشأن السياسي لتقييم أداء المعارضة البرلمانية منذ أن دخلت المعارضة التونسية رحاب البرلمان، وإن المتتبع لهذا الأمر يكتشف انقسام أداء المعارضة بالبرلمان التونسي منذ 1994 إلى اليوم إلى مرحلتين كبريين مختلفتين اختلافا نوعيا. أما المرحلة الأولى فتمتد من سنة 1994 إلى 2007 وهي مرحلة تأسيس العمل البرلماني التعددي تميزت بانقسام المجلس إلى كتلتين الأولى كتلة الأغلبية النيابية التجمعية والمهيمنة على 80% من مقاعد البرلمان وكتلة الأقلية البرلمانية وهي كتلة المعارضة الحائزة على 20% فقط من المجلس وقد سيطرت كتلة الأغلبية على المشهد البرلماني بسبب تفوقها العددي وانضباطها الحزبي وتماسكها الوثيق وتوزيعها للأدوار مستعينة بقيادة الحكومة لها فكانت الجوقة التي تكرر أناشيد الوزراء وتمجدها بالتثمين والاستحسان والثناء والثانية كتلة المعارضة جديدة العهد بالبرلمان وقليلة المعرفة بأبواب الميزانية والبرلمان والبرامج الحكومية علاوة على قلة عددها وضعف التنسيق بين صفوفها إن لم نقل انعدامه غالبا، فكانت القلة الضعيفة الممزقة في مواجهة الأغلبية المتلاحمة. فلم يكن الصراع الديمقراطي بين الكتلتين متكافئا بيد أن ما ميز أداء المعارضة عامة هو لجوؤها إلى إستراتيجية الانتقاد والرفض غير المدعم غالبا لبرامج التجمع فيما يقع ضمن مصطلح لعن "ظلام" برنامج التجمع وهي مرحلة نجد تبريرها في عدم خبرة المعارضة وضعفها في مقابل انتفاخ الحزب الحاكم ودربته في الحكم والبرلمان. كما تجدر الإشارة إلى أن هيمنة هذا الخط الاستراتيجي لم تمنع ظهور استثناءات سجلت تميز بعض المعارضين بعمق أطروحاتهم ودقة تحاليلهم ونضج اقتراحاتهم وبدائلهم ولقد استمر أداء المعارضة في البرلمان ذي الغالبية التجمعية إلى غاية 2006 على هذا النحو. أما مع مطلع سنة 2007 فبدأ البرمان يعرف تحولا جديدا تدعم أثناء مناقشته ميزانية السنة القادمة 2008 يبرز خط جديد يتميز بطرحه لبدائل مجتمعية وسياسية وثقافية واقتصادية شاملة في خطاب عقلاني واقعي بناء بعيد عن الصراخ أو العويل والتهويل ويحمل لواء هذا الخطاب الاتحاد الديمقراطي الوحدوي الذي بعيدا عن شكر النفس، دشن المرحلة الثانية من المعارضة النيابية بكل نضج واقتدار وهي مرحلة تقديم البدائل الشاملة ومنافسة الحزب الحاكم بكل ندية والانتقال من لعن الظلام إلى إيقاد الشموع. ولقد كان لافتا للجميع فصاحة تدخلات نواب الحزب وعمقها وفاعليتها وجدواها. فعلا صوت الاتحاد الديمقراطي الوحدوي من خلال مداخلة أمينه العام في رحاب مجلس النواب معلنا للجميع منطلقات الوحدوي النبيلة "إننا غير معنيين بمن يحكم ويسير بقدر ما يعنينا كيف يحكم انسجاما مع الخيارات الجوهرية لوطننا وشعبنا حاضرا ومستقبلا..." وذكّر الجميع بان الاتحاد الديمقراطي الوحدوي ليس حزب موالاة كما يحلو للبعض ترديده ظلما وبهتانا وليس حزب مغالاة كما يوسوس البعض كفرا وعدوانا "إننا لسنا من الذين يحملون على أعينهم نظارات لوحية لا يرون من خلالها إلا السواد بل إننا حزب منطلقه وطني والوطنية تقتضي منه أن يعاضد الانجازات ويحميها وينميها ويعارض النقائص في الخيارات والهنات في الممارسة...". إن كلمة الأخ الأمين العام للحزب (انظر الوطن عدد 18) لم تكن مجرد إعلان مدو لضرورة استقبال المعارضة مرحلة انجاز التحول الديمقراطي بكل وعي ومسؤولية وشجاعة وإنما كانت أيضا مناسبة لتقديم الحزب بديله المجتمعي الشامل في الديمقراطية " بعث مؤسسة حوار وطني تعمل على تطوير الحياة السياسية وتعميق الفهم المشترك والاستراتيجي لمشكلات التنمية والاستقرار والعدالة الاجتماعية والتنمية السياسية في ظل توافق وطني ايجابي". وبديله الاقتصادي والاجتماعي " القطاع العام يمثل قاطرة التنمية والضامن الوحيد لتلازم المسارين الاقتصادي والاجتماعي كما أكدنا بأن مشكلة المؤسسة لا تكمن في ملكيتها للعام أو للخاص ولكن في كيفية إدارتها والتصرف فيها". وبديله الثقافي " التمسك بالهوية العربية الإسلامية لشعبنا في وجه موجات الغزو الثقافي والإعلامي... مع مراعاة دور العقل وضرورة التلاقح والتفاعل مع الثقافات من حولنا لا للانصهار فيها والانبتات الذي يولد التطرف والانغلاق". وبديلنا التحرري والقومي "إننا نقف دائما في وجه الاستعمار والصهيونية ونرفض التدخل الخارجي في شؤون وطننا وقضايانا العربية ونعادي الاستقواء بالأجنبي والاعتماد عليه في الشأن الوطني والقومي من طرف أي كان". ولقد دعم هذا البرنامج تدخلات الأخ عبد الكريم عمر حين أكد على ضرورة خدمة الحكومة مصالح الشعب العليا "لأنه لا معنى لأي مؤشرات مهما علت نسبها ما لم تنعكس إيجابيا على حياة شعبنا في تحسين قدرته الشرائية وفي تشغيل حقيقي ودائم لأبنائه وفي توفير أساسيات صحتهم من دواء وتجهيزات صحية وفي تعليمهم وتطلعاتهم لحياة حرة كريمة". كما رفض التهميش والإقصاء المفروض على الأحزاب المعارضة ودعا إلى إعادة صياغة العلاقة بين حزب الحاكم والمعارضة على أساس احترام متبادل وشراكة حقيقية. وفي نفس السياق جاءت مداخلة الأخت مفيدة العبدلي متنقدة لقطاع الإعلام والتعليم وما ميز الأول من ضعف وتخلف "لأن الإعلام ظل يراوح مكانه أو يكاد" والقطاع الثاني من ضعف في المردودية وإسقاط للإصلاحات "إن هذه الإصلاحات أسقطت اسقاطا على المجتمع والمدرسة... ولم يشرك فيه" ونادت بالتخلي عن مناظرة الكاباس "هذا السيف المسلط على أعناق شبابنا من طالبي الشغل" إن دور المعارضة البرلمانية الحاملة للبدائل الشاملة والجدية والواقعية على غاية من الأهمية في هذه اللحظة التاريخية من تاريخ تونس. وان أداء بعض المعارضات على رأسها الاتحاد الديمقراطي الوحدوي كان سباقا وممتازا ومؤسسا لرؤية جديدة مجدية ومثمرة، أما البقية التي لا تزال تضع نظارات لوحية فإننا ندعوها إلى الاستفاقة واللحاق قبل أن تجرفها الأحداث !!.