يتساءل المتابعون للشأن التونسي حول ما إذا كان تنامي الأصولية السلفية في المنطقة المغاربية، دفع بالسلطات التونسية لتغيير استراتيجيتها السياسية والأمنية في التعامل مع الظاهرة الإسلامية. ويبرر مراقبون هذا التساؤل ببروز مؤشرات مفادها أن السلطات التونسية بصدد دراسة إمكانية الترخيص لحزب ديني معتدل وفق خطة تستهدف احتواء الظاهرة الإسلامية، بدل الملاحقات الأمنية والمحاكمات، وذلك لقطع الطريق أمام الأصولية السلفية، ومحاصرة انتشارها.ويرى البعض أن ملامح هذه الخطة تبلورت عقب الاشتباكات المسلحة التي شهدتها تونس في مطلع عام 2007 بين قوات الأمن وعناصر وصفت بالسلفية والإرهابية،وبعد إعلان الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية عن تحولها إلى فرع لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. ويرجح مراقبون وجود “رغبة” لدى بعض الإسلاميين المعتدلين والحكومة في الوصول إلى نوع من التقارب تمهيدا للترخيص لحزب إسلامي يكون مقدمة لامتصاص حالة الاحتقان لدى البعض، ويحصن البلاد من خطر الأصولية السلفية. ودفعت هذه التقديرات إلى سجال سياسي وإعلامي عكس تباينا في الآراء والمواقف ارتقى إلى تناقض حاد ارتفعت مؤشراته واشتدت في وقت قياسي. ولم تفلح تصريحات وزير العدل وحقوق الإنسان التونسي البشير التكاري التي نفى فيها بشدة أن تكون حكومة بلاده بصدد دراسة إمكانية السماح بتأسيس حزب إسلامي،في تبديد هذا الضباب، ولا في وقف هذا السجال الذي اتخذ منحى تصاعديا يتوقع أن يتفاعل أكثر فأكثر خلال عام 2008. ورفض وزير العدل التونسي أن تستحوذ أي جهة أو جماعة على الإسلام الذي هو دين كل التونسيين، قائلاً “إذا قبلنا بحزب سياسي على أساس ديني، فإننا بذلك سنكفر كل التونسيين”. ويحظر قانون الأحزاب التونسي تأسيس أي حزب سياسي على أساس ديني أو عرقي، حيث تنشط حاليا في تونس بشكل قانوني 9 أحزاب سياسية متباينة تنظيميا وفكريا وأيديولوجيا، يتقدمها حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم. وقال البرلماني هشام الحاجي،إن “طرح مسألة الحزب الديني لا يفيد لعدة أسباب من أهمها أن الدين هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وادعاء احتكاره أو التّحدث باسمه يلقي بنا في متاهات التكفير. ويختلف منذر ثابت الأمين العام للحزب الاجتماعي التحرري، حزب معارض معترف به، مع هذا الرأي، معتبراً أن التراث الديني هو “ملك مشاع بين كل التونسيين، وأن محاولات الوصل بين المرجع الديني المقدس والتنظيم السياسي، أمر مرفوض بشكل قطعي”. لكن الجريبي أصرت على أن حزبها يساند “نضال” حركة النهضة من أجل وجودها القانوني، ورأت أنه دون “انتهاج خيار التفتح على الاختلاف، وإقرار حق المواطنة الكاملة،فإن تونس تبقى مفتوحة على احتمالات لا يقبلها أي وطني غيور مهما كان انتماؤه السياسي، ومهما كانت مرجعيته الفكرية”.وقال المحلل السياسي برهان بسيس،إن الحديث المتنامي عن إمكانية الترخيص لحزب ديني في تونس هو تعبير عن “أماني بعض الأطراف السياسية أكثر منه ترجمة لاتجاه واقعي نحو هذا المسار”.وتختلف القراءات حول أساس هذا السجال وتتباين إلى حد التناقض، حيث يرى مراقبون أن مجرد الحديث عن الترخيص لحزب ديني هو “سابقة سياسية بحد ذاتها “بالنظر إلى طبيعة المعارك السياسية والقضائية بين السلطات التونسية والإسلاميين خلال السنوات الماضية”، بينما لا يتردد البعض في وصف هذا الحديث بأنه بالون اختبار لقياس نبض الشارع السياسي في البلاد”. ولا يخفي بسيس رفضه لمثل هذه التقديرات قائلاً “لقد جرب البلد الأحزاب الدينية وخبرها التاريخ السياسي المعاصر لتونس فلم يجد في هذه التنظيمات سوى ازدواجية الخطاب والانجرار إلى ممارسة العنف”. وأضاف أن القيادة السياسية التونسية “حسمت هذه المسألة بمساندة قطاع واسع من النخب مختلفة الأطياف في رفضها مهما تكن مبررات إقحام الدين كمرجعية في التنظيم السياسي، اعتبارا لما أكدته مثل هذه التجارب من أضرار حقيقية تصيب معنى الدين كمقدس جمعي مطلق والسياسة كمجال للاختلاف المدني”.وأيا كان الأمر، فإن كل الدلائل تشير إلى أن هذه المسألة ستبقى مرشحة للمزيد من التفاعل، ليس فقط بسبب حساسية الموضوع، وما رافقه من اضطراب في تفسير أو تبرير بروزه، وإنما أيضا بسبب الالتباسات الكثيرة المحيطة به التي جعلت البعض يصفها بالزوبعة السياسية والآخر بمجرد بالون اختبار. لكن لا يقلّل هذا السجال من شأن تجربة الأحزاب السياسية في تونس التي تعتبر من التجارب القديمة في العالم العربي والدول النامية،حيث يعود تاريخ التنظيم ضمن أحزاب سياسية إلى منتصف القرن الماضي، مثل جماعة “تونس الفتاة”، التي تحولت فيما بعد إلى الحزب الاشتراكي الدستوري، وفي عام 1988 إلى التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم حاليا.