. فجأة، عاد الحديث في تونس هذه الأيام إلى التساؤل حول احتمالات الاعتراف بحزب سياسي، ذي خلفية دينية ومدى مشروعية ذلك من الناحيتين، القانونية والسياسية. واللافت للنظر، أن سبب هذه "الزوبعة الإعلامية" لا يرجع هذه المرة إلى حركة النهضة، التي عادت إلى الساحة من مداخل متعدّدة وهي تنوي أن تستأنف حملتها من أجل الاعتراف بها بعد أن يتم إطلاق سراح بقية سجنائها وعودة مغتربيها، وإنما تعود الضجة إلى خبر سرّبته مصادر، قيل بأنها مطّلعة أو رسمية. هذا البالون الذي أطلِق في سماء الساحة السياسية، أثار مخاوف البعض وأحدث الاضطراب في صفوف آخرين. فالعلمانيون الراديكاليون تخوّفوا من أن يكون الخبر صحيحا وأن يؤشر على احتمال أن يكثِّف النظام من حجم الصّبغة الإسلامية على خطابه وتوجّهاته الثقافية والسياسية، في حين أن كوادِر النهضة فاجأهم هذا التحوّل المحتمل وتخوّف الكثير منهم، من أن تشكل هذه الخطوة – إن صحّت – مناورة لا تخلو من ذكاء ستزيد من وضع عراقيل إضافية أمام رغبتهم في الحصول على الاعتراف القانوني. عندما تولى الرئيس بن علي السلطة يوم 7 نوفمبر 1987، أسّس شرعيته في البداية على عدد من المنطلقات السياسية والأيديولوجية، وقد استحضر في هذا السياق تجربة الرئيس الأول للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة، الذي أخفق في مسألتين رئيسيتين، حسب اعتقاد الكثيرين. تعلقت المسألة الأولى بالتعددية الحزبية، التي كان يرى فيها عامل تهديد وتخريب للوحدة الوطنية، ولهذا ارتكز بيان 7 نوفمبر على التبشير بالحريات السياسية، كما عمل الرئيس بن علي منذ اليوم الأول، على إظهار حالة من الانفتاح الواسع على الأحزاب وقيادات المعارضة، وبالأخص على حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة السيد أحمد المستيري، رئيسها السابق ومؤسسها، وبذلك، تم استيعاب صدمة الانتقال الفجئي للسلطة، وشعرت عموم النخبة بأن مطالب الإصلاح السياسي، التي رفعت منذ أواسط السبعينات، قد تأخذ طريقها نحو التنفيذ. أما المسألة الثانية، فقد لخّصها شعار رفع في تلك المرحلة وهو "المصالحة بين الدِّين والدولة"، الذي تضمن إيحاء بأنه قبل ذلك التاريخ كانت الدولة والدِّين في حالة خِصام. وقد انقسمت النخبة بسبب ذلك الشعار إلى شطرين، قسم مع وآخر ضدّ، حيث دار صِراع فكري وسياسي اتسم بحيوية نادراً ما عرفت البلاد مثلها، أما القيادة السياسية، فقد سارعت إلى اتِّخاذ عدد من الخطوات والقرارات، ذات الطابع الرمزي، تفاعل معها بشكل إيجابي عموم التونسيين. فأول زيارة قام بها الرئيس بن علي إلى خارج البلاد، كانت للسعودية، وذلك لأداء العُمرة، وقد راجت يومها صورة له وهو يقبِّل الحجر الأسود، كما كان كثير الاستشهاد بالآيات القرآنية في كل خطبه الرسمية، وقرر بث الآذان في وسائل الإعلام السمعية والبصرية وأعاد الاعتبار لإسم الزيتونة، حين حوّل كلية الشريعة وأصول الدِّين إلى جامعة، كما نفذ عديد الاقتراحات التي قُدّمت له والخاصة بإنشاء مجلس إسلامي أعلى وإحداث وزارة للشؤون الدينية، إلى جانب حِزمة من إجراءات أثارت مخاوف الأوساط العلمانية، التي لم يتردّد شق منها في إصدار نصوص وعرائض تنتقد هذه التوجه الإسلامي للسلطة وتمارس ضغوطا شديدة، مما دفع بالرئيس بن علي إلى الإعلان في أكثر من مناسبة بأنه لن يتخلّى عن المكاسب التي تحقّقت في عهد الرئيس بورقيبة. كان الرئيس بن علي يظُن بأن هذا التوجّه سيكسبه تأييد الإسلاميين، إلى جانب تعاطف عموم التونسيين، لكن بالرغم من ذلك، قامت السياسة بتعميق الفجوة بينه وبين حركة النهضة، مما أدّى إلى اندلاع صراع وجود انتهى إلى المواجهة الشاملة بين الطرفين. في هذه المحطة بالذات، كان يتوقّع أن تكتفي السلطة بالمعالجة الأمنية والقضائية، لكن عنصرا جديدا نجح البعض في إقحامه في المعركة السياسية، وهو عنصر أيديولوجي غريب عن المكوِّنات الثقافية للرئيس بن علي. لقد تمكن التيار الاستئصالي من وضع خطّة عُرِفت بخطة "تجفيف المنابع"، وظنّ رموز هذا التيار بأن تنفيذها سيشكِّل حلا سِحريا للتخلّص نهائيا من ظاهرة الإسلام السياسي، لكن ذلك أدّى عَمليا إلى حصول انزلاق خطير، تمثّل في الخلط بين الإسلامي المناهض للسلطة وبين المتدَيِّن. فالالتزام بالصلاة في أوقاتها وامتلاك مصحف أو كتاب ديني ووجود علامة السجود على جِباه الشبّان، قد اعتُبرت في تلك المرحلة العصِيبة، قرائن على الانتماء لتيار "إرهابي"، وهو سلوك أمني أدانته المنظمات الحقوقية التونسية بوضوح في العديد من بياناتها. ولا شك في أن ذلك التوجّه قد أضرّ كثيرا بصورة النظام التونسي في العالم العربي والإسلامي، حيث كشَف ذلك السّلوك عن جهل كبير لدى مَن ورّطوا السلطة في تلك السياسة بالأسباب العميقة، الكامنة وراء نشأة الظواهر الثقافية والدينية وتطورها، إلى جانب كونها قد وضعت السلطة أحيانا وكأنها في حالة مواجهة ضدّ الدِّين والتدَيُّن. يمكن القول إن ما يجري في السنوات الأخيرة، هو محاولة من قِبل النظام لإعادة ترميم شرعيته الدِّينية، التي تضرّرت خلال مرحلة التسعينات وبداية الألفية الجديدة. يأتي في هذا السياق، طبع نسخة متميزة من القرآن الكريم وبناء جامع ضخم وجميل على إحدى هِضاب ضاحية قرطاج، في مقابل الكاتدرائية التي تحوّلت إلى متحف ومركز ثقافي. كما قام الرئيس بن علي بأداء الحجّ مصحوبا بأفراد أسرته وهنّ متحجّبات، ثم جاءت الخطوة التي أحدثت رجّة غير مسبوقة بإطلاق إذاعة القرآن الكريم التي تحمل اسم "الزيتونة"، والتي يملكها صِهر الرئيس بن علي رجل الأعمال المتديِّن (صخر الماطري) والقريب منه كثيرا، هذه الإذاعة، التي وإن بدَت بعض برامجها سطحية وفقيرة معرفيا، إلا أنها نجحت في أن تُحقق اختراقا واسعا لمُختلف الفئات الاجتماعية، وقد كشف هذا الإقبال الجماهيري غير المتوقّع عن وجود حاجة عميقة لدى قِطاعات واسعة من التونسيين، بعد أن تهاوى الخطاب الدِّيني الرسمي إلى أدنى مستوياته. ولم يقف تأييد إنشاء هذه الإذاعة عند حدود عدد من الأحزاب السياسية المعترف بها التي باركت ذلك، وإنما شمل أيضا رئيس حركة النهضة المحظورة السيد راشد الغنوشي، الذي خصّص للحدث بيانا سياسيا، اضطر بسببه أن يدخل في سِجال مع مَن رأى فيه من داخل الحركة وخارجها، مغازلة مشفّرة للنظام. تحصل عملية الترميم هذه في سياق اجتماعي وثقافي متغيِّر، يتّسم بتعدّد مؤشرات العودة إلى التدَيُّن الشعبي وتصاعد شعور الهوية أو ما يسمِّيه البعض بالخطاب الهوياتي. ويُعتبر إقبال النساء على ارتداء الحجاب بأنماطه المختلفة، من أكثر المؤشرات التي حيّرت النخبة العِلمانية إلى جانب أجهزة الأمن والتيار المتشدد داخل الحزب الحاكم. وقد جاء الحُكم الذي أصدرته قاضية بالمحكمة الإدارية لصالح أستاذة تمّ إيقافها عن العمل من قِبل وزير التربية بسبب ارتدائها، لما يُسمى في تونس بالزي الطائفي، وتنصيص الحُكم على أن منشور 102 مُخالف للدستور، لينقض مرة أخرى الأساس القانوني والدستوري الذي استندت عليه السلطة في محاربتها لهذا النمط من اللباس. ولا شك أيضا في أن وسائل الإعلام الفرنسية لم تتعوّد أن يؤكّد لها مسؤول تونسي في مستوى رئيس الدولة بأنه متديِّن وأنه ملتزم بأداء طقوسه وأن له في مقر إقامته مصلّى للقيام بذلك (راجع الحديث الذي أدلى به الرئيس بن علي إلى مجلة لوفيغارو ماغازين يوم 9 نوفمبر 2007). بالون اختبار في هذا السياق، يتنزّل الجدل الدائر حاليا في تونس حول احتمال الاعتراف بحزب ديني. وبالرغم من أن الأمر لم تؤكِّده أية جهة رسمية وقامت كل الأسماء التي رشحها البعض لمثل هذا الدور، بنفي علاقتها بالموضوع بما في ذلك السيدان كمال عمران (أستاذ جامعي) وصلاح الدين المستاوي (نائب سابق وعضو في اللجنة المركزية للحزب الحاكم)، إلا أن الخبر أحدث ولا يزال رجّة إعلامية. وإذ تبدو المسألة حتى الآن أقرب إلى بالون اختبار، إلا أن الصحفي برهان بسيس اعتبر في تصريح لسويس أنفو أن الأخبار التي راجت "ليس لها أي مستندات حقيقية"، وذهب إلى حد القول بأن "بعض الأطراف أرادت من هذه التسريبات أن تدفع نحو إعادة الخوض في مسألة الحزب الدِّيني، خاصة وأن هذه الأطراف وجدت نفسها أقرب إلى اليتم السياسي في ظِل غياب حزب من هذا القبيل"، وأكد بسيس على أن "الباحثين عن مظلّة هم مَن يقفون وراء العودة إلى مثل هذا النقاش". لكن رغم هذا النفي والاتهام، يُقر برهان بسيس بأن النقاش الدائر حول مسألة الحزب الدِّيني يشكِّل في حدِّ ذاته "حالة ضرورية لتقديم رُؤية واضحة لتوزيع المواقع والمواقف والأدوار داخل الساحة السياسية التونسية، هذا الوضوح الذي افتقد منذ خفوت نِقاش شبيه عرفته البلاد طيلة سنتين بعد تغيير 7 نوفمبر، رغم اختلاف الظروف والسياقات"، حسب قوله. "لا دُخان بدون نار" رغم هذا التّكذيب، هناك من يعتقد بأنه "لا دُخان بدون نار" وأنه إذا كان البعض من داخل أركان الحُكم قد وردت في خاطره هذه الفكرة، فإن ذلك سيعكِس بالفعل بداية مهمّة في تغيير أسلوب التعاطي الرسمي مع الحالة الإسلامية في تونس. وقد تم الرّبط بين طرح هذا الاحتمال وبين التّمهيد الجاري للاعتراف بإحدى مجموعات أقصى اليسار، التي يقودها السيد محمد الكيلاني، أحد مؤسسي حزب العمال الشيوعي التونسي (محظور)، قبل أن ينشق في منتصف التسعينات ويؤسّس تيارا يساريا جديدا. وبقطع النظر عن خلفيات ودوافع الاعتراف بهذه المجموعة دون سواها، فقد اعتبر البعض ذلك من شأنه أن يحرج السلطة، التي ستبدو في مظهر الانحياز السياسي والأيديولوجي إلى القوى المناهضة للإسلاميين، مع تجاهُل الحاجة السياسية التي يفرِضها اتِّساع قاعدة الأوساط الدينية المحافظة في تونس، والتي لا تتماهى بالضرورة مع حركة النهضة، وهي أوساط لا يوجد حاليا أي حزب أو هيكل مدني مستعِد لاحتضانها أو التعبير عن تطلّعاتها. يُميِّز بسيس بين موقف السلطة الرافض لوجود حزب ديني وبين الموقف العقائدي الاستئصالي. فالموقف الأول، "اختبر التجربة وأعطاها فرصتها، لكن أصحاب المشروع (يقصد حركة النهضة)، خيّبوا الظن ولم يستغلوا اليَد الممدودة للاختبار واعتقدوا خطأ في ضُعف النظام وارتباكِه، وها هم الآن يكرّرون خطأ نفس الحساب"، وهو يرى أيضا أن تلبية الحاجة المُشار إليها أعلاه، من مسؤولية الأحزاب والجمعيات المدنية، وليس بفتح الفضاءات لتسريب أطروحة الحزب الدِّيني "الذي سيتحوّل إلى مشكل في حدّ ذاته"، مشيرا إلى تجارب يراها خاطئة وتقليدية "من مصر السادات إلى تونس البورقيبية". لكن بسؤاله عن الحالتين، الجزائرية والمغربية، خاصة وأن النظام التونسي تربطه علاقة جيدة بحركة مجتمع السلم (حمس) الجزائرية، التي يشارك رئيسها باستمرار في فعاليات السابع من نوفمبر، ذكّر بسيس أن "ما يُسمى بحركة النهضة لم تُبدِ مُرونة مع الحُكم، كما فعل حزب العدالة والتنمية المغربي مع الملكية أو حركة حمس مع مؤسسة الرئاسة في الجزائر"، وأضاف "مشكلة هذه الحركة تكمُن في أن قرارها قد بقي محتكرا ضِمن الدائرة التنظيمية المتوتِّرة والمحكومة بميراث عميق في عدائه لمرجعيات الحُكم في تونس". لم يُشر برهان بسيس إلى أي حزب أو هيكل مدني مستعد حاليا لاحتضان الكثير من الإسلاميين الذين لهم رغبة في الانتماء السياسي، سواء أكانوا ممّن مروا بحركة النهضة أم لا، وفي ذلك تكمُن المشكلة، إذ بقطع النظر عن المواجهة التي دارت بين السلطة وحركة النهضة في مطلع التسعينات، فإن المشهد التونسي أصبح مختلفا كثيرا عمّا كان عليه في تلك المرحلة. فهناك الكثيرون ممّن وُلِدوا بعد تلك الأزمة ولا يعلمون عنها شيئا، وهناك من انفصلوا عن حركة النهضة بعد تقييمات أعلنوها، وهناك من يرغبون في خوض تجربة مختلفة بثقافة سياسية مغايرة، كما أن مِن هؤلاء مَن هم على استعداد لكي يؤسسوا علاقة أكثر انفتاحا وتفاعلا مع الحكم القائم. وفي واقع الأمر، فهؤلاء هم الذين يبحثون عن صيغة سياسية، وليست حركة النهضة التي تعتبر نفسها مقصودة بما تعتبره "مناورة جديدة"، ولعل هذا المعطى هو الذي سيجعل النِّقاشات حول صيغة الحزب الدِّيني المُحتمل، مرشحة للاستمرار رغم كل التكذيبات التي صدرت إلى حد الآن.