- : كثيرا ماكتب قادة المشروع الاسلامي الوسطي والانساني المعتدل عن عظمة الحرية كقيمة عقدية ودينية رفع الله سبحانه بها شأن الاستخلاف البشري وأعلي بها الانسان مقاما عبر ما استودعه فيه من مواهب وقدرات أنيطت انطلاقا واضافة وابداعا مكانيا أو زمانيا بما يحاط بها من حقول حريات. وبالنظر الي مايعتري ساحة المشروع الاسلامي المعاصر والقديم فان قضايا الحرية علي اعتبار أنها مناط التكليف والابداع, تبقي قضايا نظرية جميلة ورائعة كثيرا ما استثارت الأقلام والكتاب والشعراء والفلاسفة والمفكرين وعظماء الفقهاء والمجتهدين من أجل تحبير الصحائف وتشنيف الآذان وشد البصائر الي عظمة مشروع ديني وحضاري وانساني لانشك لحظة في أنه أخرج المنطقة العربية من دائرة التصحر الجغرافي الي دائرة الفعل الحضاري وتصدر الخارطة العالمية. بين جمالية لفظ الحرية ومايحمله من دلالات اسلامية عميقة انطلقت اشعاعات عبر تحرير الانسان من عبادة الأوثان وتقديس الخلق , وعبر اعلاء سلطة العقل في مواجهة سلطة التشبث بالتقليد والاتباع العقدي والاجتماعي ... بين هذه الجمالية النظرية والقيمية يبقي واقع المسلمين اليوم مرهونا من حيث شروط النهوض بتحرير العقل من سلطان الرقابة الذاتية والبشرية، السياسية والأمنية، ومن ثمة اعادة الاعتبار له كأداة للفرز والنقد والبناء والتطور. المشروع الاسلامي المعاصر وهو مايهمنا في جوهر هذا المبحث لازال يعاني معاناة حقيقية من ظاهرة توكيل الاخرين بالنيابة عنا في قضايا النقد والمراجعة والتجديد الفكري والسياسي، حيث يعتبر جمهور الحركة الاسلامية الوسطية المعاصرة جمهورا تابعا في قضايا رسم مصائر الأمة ومساحاتها الجغرافية المتوزعة علي أكثر من قطر ومصر... واذا كان ثقل هذه القضايا وتشعبها يحتمل بشكل أو باخر وجود نخبة متفوقة تبحث في أسباب التعثر والتراجع والتخلف ومن ثمة الاجتهاد في ابداع حلول فكرية وسياسية من شأنها فتح بوابة عادلة ومتوازنة لبلداننا علي مايشهده العالم من تطورات وتحديثات وثورات معرفية وتقنية وتنظيمية وادارية...، فان قضايا الأ قطار الداخلية وماتعلق بها من توابع الشأن العام تبقي في نظرنا مسائل لايمكن تسليم مفاتيحها الي أقليات محدودة تتحكم بمصائرنا فشلا وتعثرا وتجارب مخبرية... ولانتحدث في هذا الموضع عن التقاليد الرسمية في الادارة وتنظيم الشأن السياسي الحكومي، بل اننا نهدف الي اماطة اللثام عن ظواهر الاستقالة الفكرية والعقلية داخل الجسم المعارض وعلي رأسه الحركات ذات المرجعية الاسلامية. فالحركة الاسلامية المعاصرة والتي شربت من معين المزاوجة بين علوم الشرع ومقاصد الدين ومتطلبات الحداثة، تقف اليوم أمام حالة ضيق نخبوي نتاج حالة تنظيمية خاطئة ورثتها عن حركات أخرى سابقة،أو اقتبستها عن تنظيمات شيوعية شمولية لم تعرف علي عصر الاتحاد السوفييتي معني الديمقراطية الفكرية أو السياسية أو اعمال العقل، اذ أنها كانت تكل مسائل التفكير والتقييم والتقدير والتنظير الي زعيم الحزب الشيوعي أو أعضاء اللجنة المركزية للحزب. هذه الظاهرة نجدها اليوم داخل الحركة الاسلامية العربية المعاصرة، حيث يتحول مكتب الارشاد أو الزعيم الروحي أو الرئيس أو الشيخ الي مصدر تفكير وتسيير وتوجيه، في حين تسود حالة العطالة الفكرية والسياسية بقية الجسم وهو مايجعل مصيره في كثير من الأحيان مرهونا الي المنهج التجريبي كبديل عن المنهج النسبي والعلمي المسنود بحالة استشارة فكرية وسياسية واسعة تستند الي العقل الواعي في تقييم الظواهر الانسانية بعيدا عن مغامرات وأمزجة قلة من الزعماء أو الموجهين. تيارات وسطية : وجود حركة اسلامية معاصرة ووسطية وحداثية وذات منزع انساني منفتح، مرهون اليوم بتواضع قادة التيار واعترافهم بأن زمن احتكار المعلومة والقيادة والأدوار المركزية قد ولي وانتهي ، وأن زمن الاشتراك في المعارف وتقاسم الأدوار وامتلاك زمام العلوم والخبرات علي نطاق خارطة بشرية واسعة قد أصبح حقيقة لا مناص منها أو هروب، وهو مايعني أن المفهوم القيادي التقليدي الكاريزمائي قد بات مكلفا وثقيلا في زمن النهضة العالمية القائمة علي تشعب وتعدد المؤسسات. ان التأمل في أنماط الادارة السياسية والتنظيمية الحديثة للشعوب والدول والأحزاب والهيئات في الدول المتقدمة يجعلنا أمام مراجعات علمية وبشرية ضخمة تنسف النظريات المركزية والمحورية في التسيير والقيادة، وهو مايدعو قطعا قادة هذه الحركات الي تعميق خلق التواضع كخصلة اسلامية وانسانية تقربهم الي الله تعالي والي الناس، كما يدعو أعضاء ومناضلي هذه الأحزاب والتيارات الي الخروج من دائرة الخجل والحياء أمام صنمية دينية وتنظيمية وسياسية ماأنزل الله بها من سلطان. الفشل والتراجع الذي أصاب بعض الحركات المحسوبة علي التيار الوسطي في بعض بلاد المنطقة العربية، قد يكون ظاهريا وجزئيا نتاج حالة التراجع العام في الفضاء السياسي كما نتاج حالة تراجع فكري وعلمي عاشتها الأمة عموما منذ قرون لاعشريات، غير أن هذا التراجع يبقي في حقيقته مركب الأبعاد، ولعل من أبرزها افتقاد أبناء المشروع الي الجرأة الكافية علي المحاسبة والتقويم والتجديد في الأفكار والأساليب والمعارف والتوجهات علي ضوء مايحدث للمشروع والناس من أقضية وتطورات وحاجات. الحرية التي انطلقنا في مبحثنا هذا من الحديث عنها، لاينبغي أن تكون قيمة جمالية نظرية يستحضرها المفكرون والقادة والزعماء والمشائخ علي مستوى الشفاه أوماتحبره الأ قلام، بل انها اعتراف ضمني بحق الاخرين في قول كلمة لا، ثم المحاسبة والمراجعة وسحب التفويض التنظيمي والسياسي عند ايصال التجربة الي حالة من حالات الفشل الذريع نتاج القصور والغرور واخضاع المجموعات البشرية الكبرى والأوطان والمقدسات الي منطق التجريب والطموح المتعالي عن سنن الله تعالى في التغيير. انها دعوة صادقة من خلال التأمل في تجربة الغرب من داخله وفوق ترابه الي الكف عن تفسير الظواهر السياسية بنظرية البعد الواحد أو البحث عن مرتكزات نظرية المؤامرة من منطلق يتنافي حقيقة مع المفهوم الايماني والقراني، وهو مايمكن مراجعته بالوقوف علي ماقاله المفسرون في بيانهم لأسباب الهزيمة التي عرفها المسلمون تاريخيا في غزوة أحد. ولعل التأمل بعمق في أواخر سورة ال عمران يجعلنا ننسجم مع معارف العصر ومحصلات التجربة البشرية التحديثية كما يجعلنا نتوافق منهجا وجذورا مع أساسيات ومنطلقات التفكير الاسلامي كبديل عن تفسيرات بعض المشائخ والزعامات التي تحدثنا عن الايمان والقران في مواضع وتتناساهما قصدا أو سهوا في مواضع أخرى لاتخدم مواطن وأهداف أدوارها وطموحاتها السياسية. المصدر : جريدة (الزمان) الدولية - العدد 2860 - التاريخ 1/12/2007