يعود المبدع التونسي الفاضل الجزيري إلي الحقل السينمائي، بعد غياب طال 17 عاما، لإنجاز حلم ظل يراوده منذ ذلك الحين، حول شريط سينمائي عنوانه ثلاثون ، الذي يؤرخ لفصل هام ومحوري من تاريخ تونس المعاصر. وعلي الرغم من تنوع تجاربه الإبداعية، خلال السنوات الأخيرة، التي شملت أساسا أعمالا غنائية فرجوية مثل النوبة ، و الحضرة ، و نجوم ، فإن لمسات الفاضل الجزيري السينمائية تبدو أكثر اتقاناً وبروزاً وهو ما تجلي في أفلامه التي أنتجها سابقا ك العرس و عرب (مع الفاضل الجعايبي). ظهور الفاضل الجزيري هذه المرة أسال حبراً كثيراً، علي غرار الصخب الإعلامي الذي صاحب جل عروضه الفرجوية. ففور إعلانه الإعداد لتصوير فيلم طويل يتناول قصة حياة المصلح والمجدّد التونسي الطاهر الحداد الذي عاش أوائل القرن الماضي، انقسمت الآراء ما بين مبتهج بهذه العودة التي تقترن بإنجاز عمل ضخم ونادر، وآخر مشكك في قدرة الجزيري علي افتكاك جزء من مساحة استحوذ عليها منذ فترة رفاق دربه القدامي؛ كل من المخرجين النوري بوزيد وسلمي بكار وفريد بوغدير وعلي العبيدي. الفاضل الجزيري تحدث عن شريطه فقال انه سيعالج مسيرة المفكر الطاهر الحداد وبعض من عاشروه، من الذين تركوا بصمتهم المتجذرة خلال حقبة الثلاثينات من القرن العشرين. وهي فترة عرفت فيها تونس تقلبات سياسية واجتماعية مريرة وحرجة، لا سيما من جراء تبعات المد الاستعماري الفرنسي. وتعرج قصة الفيلم تحديدا إلي الأحداث التي تبدأ في تشرين الثاني/نوفمبر 1924 مع اجتماع ما يسمي ب فندق الحرايرية الذي أفرز أول تحرك عمالي كبير في تونس، وينتهي في كانون الأول/ديسمبر 1936 إثر معركة الجلاز الشهيرة المطالبة بإنشاء برلمان تونسي. وهي من هذه الزاوية التاريخية، تعبّر بشكل عام عن حنين خاص إلي جزء من الذاكرة المحلية، التي استطاع الجانب النير والثري منها التأسيس لمرحلة اندماج المجتمع التونسي في الحداثة بأقل الصعوبات والعراقيل. ومن المؤكد بأن هذه التجربة الجديدة للجزيري، ستكون متميزة لا محال، نظراً لرصيد وخبرة الجزيري في توظيف طاقاته المتعددة والمتجددة، خصوصاً وأنه أعلن بأن شريط ثلاثون سيكون أول فيلم في تونس ينجز وفق مقاس 35مم/سكوب Scope الحديثة، ونظراً أيضاً، لضخامة المشروع الذي استغرق التحضير له 3 سنوات كاملة، راوح خلالها الجزيري ما بين الغوص في التاريخ السياسي والاجتماعي لتونس في تلك الفترة، والنبش في شخصية الطاهر الحداد، الذي عُرف بكونه من أوائل المصلحين العرب الذين نادوا بتحرير المرأة ومساواتها مع الرجل من منظور قراءته التحديثية للشرع الإسلامي. هذا من دون أن ينسي قيامه بالتركيز علي دور كل من الشاعر أبو القاسم الشابي والقاصّ علي الدوعاجي والنقابي محمد علي الحامي في نحت جانب من البناء الفكري الذي حمل لواء الدفاع عنه الطاهر الحداد، والذي ترجمها في كتابه المشهور (امرأتنا في الشريعة والمجتمع). فرادة المشروع أيضا تكمن في مشاركة الأديبة التونسية عروسية النالوتي في كتابة السيناريو في أول تجربة لها في الكتابة الدرامية، مشتغلة بصورة أساسية في نسج مختلف جوانب الحياة الخصوصية والشخصية للطاهر الحداد. كما أن مشاركة طاقم من الممثلين الأكفاء والمقتدرين نذكر منهم الأردني علي ماهر والفلسطيني رامي حفانة ومن تونس محمد إدريس ومحمد كوكة وعيسي حراث وصابر الحامي وغيرهم، لها من القدرة أن تحدث إضافة نوعية لعكس واقع تاريخي مختلف عن الحالي، وما يفرضه ذلك من صعوبات كثيرة في تقمص الشخصيات ومعايشة التطورات حينها. بيْد أن مثل هذه التجربة الفريدة لم تمنع من بروز عدة معوقات بدأت تطل برأسها، أسابيع قليلة علي انطلاق تصوير الفيلم. ففي تصريح خاص ل القدس العربي قال الممثل صالح حمودة، المشارك بدور هام في الشريط، أن ظروف عمل الممثلين مزرية للغاية ، ولا تتلاءم مع الميزانية المخصصة له التي تناهز عن 2,3 مليون دولار، زيادة للامتيازات الأخري. وقد استغرب، أيضا، من احتكار الفاضل الجزيري لمعظم وظائف الفيلم: فهو المخرج والمنتج وكاتب السيناريو وواضع الموسيقي التصويرية. بل الأكثر من كل ذلك، فقد قام بإسناد دور البطولة لابنه علي الجزيري! وأعلن، بلوعة وأسي، أن ثلاثون يعتبر بالنسبة له: فيلم تروي أحداثه قمعا سلط علي شخصية الحداد، وتروي كواليسه قهراً وإقصاءً يسلط علي المبدع ! وطبعا، فان مثل السلوكيات، بمنطق الأعراف أو الأخلاق أو القوانين، لا تجد لها أساساً أو تضمن لها تبريراً من قبل مخرج حاك نصيباً من المدونة السينمائية التونسية، وسطّر قسماً من تاريخ الفنون في تونس. وتبقي فرضيات الإصلاح قائمة وممكنة، وخاصة أن شريطاً بمثل هذا الحجم، والذي يأمل صاحبه بالمشاركة به في مهرجان "كان" للسنة المقبلة، سيحدث لا محالة، تغييراً في المشهد السينمائي الوطني.