جاء في صحيفة الطريق الجديد العدد 58 مارس 2007 بقلم الدكتور أبو خولة- متحدثا عن المدون المصري الأزهري الثقافة، عبد الكريم نبيل سليمان، والذي قضت عليه المحكمة المصرية بأربع سنوات سجنا بتهمة الكتابة على الإنترنيت "ولا أظن الكتابة على الإنترنيت تؤدي بصاحبها إلى هذا الحكم القاسي من طرف القضاء ربما هناك أسباب أخرى لم يذكرها هذا الكاتب كانت هي السبب في صدور هذا الحكم عليه". قال: "تبدأ مأساة المدون عبد الكريم منذ البداية كطفل صغير يرفض والداه منحه حرية الاختيار إذ كتب في مدونته: التحقت بالأزهر بناء على رغبة والدي بالرغم من رفضي التام للأزهر وهذه مأساة حقيقية لأن شخصية الطفل لا يمكن لها أن تتطور في ظل نظام تربوي يرفضه بالفطرة لذلك نجد المدارس المتطورة في العالم تساعد ولا تفرض- على تنمية مواهب التلميذ بإعطائه مساحة واسعة من الحرية والمهم هنا التأكيد على مأساة عبد الكريم ما كانت لتحدث من الأساس لو لا فشل الدولة المصرية الحديثة في إصلاح مناهج التعليم الديني، فلو كان عبد الكريم تونسيا على سبيل المثال لما حصل له ما حصل، لأن مثل هذا النظام الذي يرفضه قد تم إلغاؤه منذ عام 1956 عندما أقدم الرئيس الحبيب بورقيبة على دمج طلبة الزيتونة في مؤسسات التعليم العام العصري الذي يعتمد على المناهج الفرنسية". فالفرنسة على ما يبدو عند الدكتور هي الأساس فلا مناهج وطنية بديلة رائدة تبعدنا عن المناهج الفرنسية دما ولحما اللهم إلا إذا كان العشق بلغ منا درجة الهيام بالمستعمر وأسلوبه في الاستيلاء علينا. ونستشف من كل هذا أن دكتورنا لم يدرس الحقبة التاريخية للزيتونة منذ تأسيسها من طرف عبد الله بن الحبحاب إلى تاريخ 1956 حتى يطلع على المنارة العلمية التي أضاءت الدروب المظلمة وأشعت مغربا ومشرقا، وتخرج منها العديد من العلماء في جميع الاختصاصات العلمية في تلكم العصور، والذين ذاع صيتهم في الوطن العربي بل في العالم كله فحملوا رايات الإصلاح الذي تنشده اليوم. ولم يزل علماء الزيتونة منكبين على تقرير الأصول وتفريع الأحكام حتى تولد على مر القرون ذلك الكنز النفيس من الحكمة الدينية المتجلية في عقد دري منتظم الفرائد من آثار على بن زياد وأسد بن الفرات وسحنون، وليث بن بشر الأزدي وشجرة بن عيسى، ومحمد بن شبيب إلى محرز بن خلف، وابن بزيزة إلى بن الغماز وابن هارون، وابن عبد السلام وابن راشد، وابن عبد الرفيع وابن عرفة، والبرزلي، وابن ناجي إلى من أتى بعدهم من السلاسل المتتابعة المتواصلة... ولم تكن أنظار الأسلاف حدا تقصر عنه أنظار الأخلاف، فأصبح البحث والابتكار والتجديد في العلم والاجتهاد في الدين عادة متسلسلة بهذه الكلية الزيتونية متوارثة بين طبقات رجالها فما كان الزيتونيون بالذاهلين عن هذا الواجب ولا متقاعسين عن الأخذ بأسباب الوفاء به وهم الذين فكروا منذ فجر القرن العشرين للسير في طريق الإصلاح الديني ووضعوا أيديهم في أيدي دعاة التجديد. فالزيتونة مرت بمراحل البرمجة التعليمية من أواخر العشرينات سعيا وراء الإصلاح والتطور ومواكبة العصر بإدخال العلوم الصحيحة في برامجها ودون غبن لتراثنا التاريخي والديني الذي هو من مقومات هويتنا لكي لا نسقط في أحضان الغرب بإيجابياته وسلبياته، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الزيتونة بتونس لعبت دورا محوريا ووطنيا حاسما في المحافظة على الشخصية الوطنية من الذوبان. ففي عهد المشرف على تسيير إدارتها العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب "التحرير والتنوير" أصبحت هذه المؤسسة تشتمل على ثمانية عشر فرعا زيتونيا موزعة في كامل أنحاء الإيالة التونسية آنذاك كما تأسس فرع زيتوني في الجزائر ساهم في نشر العلم وقربه إلى الفقراء من الناس والمتعطشين إليه فكان القضاء على الجهل في أعظم شريحة من الشباب في ذلك العصر الذي يسعى فيه المستعمر إلى سد المنافذ الموصلة إلى التنوير. وأشعلت حمية الانتصار للإصلاح الديني والتعليمي في الشباب الزيتوني وأصبح اسم الطاهر بن عاشور مهتف دعوة المجددين. وكان ما كان من هذا الإصلاح العاشوري ، إذ تطور وهاجر العديد من الطلبة الزيتونيين إلى الشرق العربي كمصر والعراق وسوريا ولبنان وحتى البلدان الغربية كإنقلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا طموحا إلى الدراسات العلمية المتخصصة، المعمقة والمفقودة في بلادنا ثم عادت هذه النخب تباعا وبعد سنوات وهي تحمل الشهائد العليا في العلوم الصحيحة وغيرها فساهموا بدورهم في نهضة التعليم الزيتوني حيث تطورت المناهج وأصبحت لا تقل أهمية عن برامج المدرسة الصادقية التي تتبع المناهج الفرنسية كما يدعي الدكتور ! لقد كانت الزيتونة تتطور وتقصي السلبيات وتأخذ بأسباب التقدم المنشود دون مركبات، إنما تسليط الأحكام هكذا جملة وبدون ترو من منطلق كونها مدرسة دينية بحتة فهذا غير صحيح إذ المواد التي تدرس فيها متنوعة دينية ولغوية وعلمية وفلسفة ودائما برامجها تسير إلى الأحسن كما أسلفنا الحديث. كما لا يفوتك يا دكتور أن الزيتونة هي التي حافظت على الفكر الإسلامي السني المعتدل على مدى وجودها، فلا مجال فيها للفكر المتطرف الذي نسبته لجامعة الأزهر الشريف هذه المؤسسة التي لها عديد الكليات المتخصصة في عديد المجالات العلمية وغيرها والتطرف كما لا يخفى لا يعشش إلا في الأدمغة القاصرة، أما الأدمغة المشحونة فلا مجال فيها للتطرف البغيض بل تجعل بينها وبين الآخر مساحات واسعة لقبول الرأي المخالف الذي هو عنوان التحضر والسمو عن سفاسف الأشياء ورجال الزيتونة كانوا جلهم على هذا الدرب. والشاذ منهم إن وجد يحفظ ولا يقاس عليه فهم الذين ساهموا في العديد من الإصلاحات التي لم تصل إليها بقية الدول العربية آنذاك مثل الدعوة لتحرير المرأة من طرف الزيتوني الطاهر الحداد. (وكان الشيخ الفاضل بن عاشور العمدة في وضع مجلة الأحوال الشخصية الصادرة بأمر 6 محرم 1376 – 13 أوت 1956 تلك التي استردت بها المرأة كرامتها وعمق حيويتها في مجتمعنا). قال الرئيس بن علي: (... ويشهد التاريخ أن الإسلام لم يكن عنصر فرقة أو فتنة في بلادنا التي كانت في جل العصور والدول المتعاقبة عليها على مذهب السنة والجماعة واختارت من المذاهب أقربها إلى نبع الهدى منهجا وموطنا... ) وكانت الزيتونة المنارة الهادية التي شع نورها شرقا وغربا فقصدها العلماء والطلاب وتزودوا منها بما ينفع في الدنيا والآخرة. من كل هذا نتعلم ويعلم كل منصف أن الزيتونة قد قامت في الماضي على حفظ هويتنا العربية الإسلامية من الذوبان وسط مستنقع الفرنسة ومن والاها من العشاق ولا تزال وقد أينعت عطاءات الزيتونة على مر التاريخ فكرا نقيا صائبا أثمر المعارف والأصالة والفكر الوسط نابذا لكل غلو وتطرف مقيتين لقد تخرج منها من تزعموا حركة الإصلاح والتجديد في بلادنا مثل الشيخ سالم بوحاجب وأحمد ابن أبي الضياف وبيرم الخامس ومحمد النخلي وعبد العزيز الثعالبي ومحمد الخضر بن حسين ومحمد الطاهر بن عاشور وغيرهم كثير. لذا ما كان ل "أبو خولة" أن يقلل من شأن الزيتونة في ربوعنا التونسية بما قامت به عبر التاريخ من تخريج عديد العباقرة والمصلحين الذين أشعوا في كل مكان من الوطن العربي والإسلامي بفكرهم الديني والعلمي من ناحية والإصلاحي من ناحية أخرى. وما كان من حقك أن تصدر حكما قاطعا على كل خريجي الأزهر فتقول "الأزهر يخرج العاطلين والإرهابيين" ثم تستطرد قائلا ودون احترام لمشاعر المسلمين في كل مكان : "إن الإسلام يعيش اليوم في القرن الواحد والعشرين عصر محاكم التفتيش التي تجاوزتها أوروبا منذ خمسة قرون" لذا لا نستغرب من الغرب وأتباعه العلمانيين أن يسعوا إلى غلق هذه المنابع الدينية والفكرية التي هي في رأيهم منبعا للتخلف الحضاري وإقصاء الآخر لأن الدكتور يرى: " أن مؤسسات التعليم الجادة هي التي تعتمد المناهج الفرنسية" ولكن لماذا المناهج الفرنسية بالذات يا دكتور؟ ! لماذا لا تقول مناهج وطنية رائدة وكأن البرامج التعليمية لا تكون إلا فرنسية، اللهم إلا إذا كنت تريد الفرنسة التي تهوى تسويقها في مجتمع لا تستطيع أنت ولا غيرك أن يسوقها مهما أوتي من جهد وطاقة لأنها تتنافى مع شخصيتنا التونسية العربية الإسلامية.