بعد عشريّتين من التوجهات السياسية المبدئية ، وبحرص رئاسي لا مثيل له على صعيد الثوابت التي تأسس عليها فعل التغيير ممثلة في التعددية الفكرية والسياسية وسياسة الوفاق الاجتماعي والتحديث الاجتماعي والسياسي... بعد كلّ هذا ، استمعنا هذه الأيام إلى بعض الاصوات النّاعقة، فيما يشبه حشرجة المقبلين على الموت تنادي بوجوب تأسيس حزب ديني في البلاد (هكذا!) وكأنّ المسألة مزاجية أو مرتبطة بالظروف والملابسات... غاب عن هؤلاء نصّ الدّستور وعلويته وغاب عنهم قانون الأحزاب الذي يمنع قيام أحزاب على أساس ديني أو لغوي أو طائفي وبصرف النظر عن الجوانب القانونية التي تظلّ الفيصل في المسائل الخلافية فإنّ مثل هذه الدّعوات تستوجب ابداء الملاحظات التالية: - جوهر مشروع التغيير في تونس هو التّحديث والفكر الاصلاحي التقدّمي الذي نحتت معالمه أجيال متعاقبة من التنويريين التونسيّين وكلّ ابتعاد عن هذا الجوهر على صعيد الممارسة السياسية هُوَ تنكّر لمبادئ التغيير ذاتها التي حرص السيد الرئيس طيلة السنوات الماضية على جعلها منارة يستضيء بها الجميع.. الملاحظة الثانية متّصلة بقواعد التنافس السياسي الديمقراطي القائم على البرامج السياسية المتباينة وهذه البرامج أرضية المنشأ، لا غيبيّة النوازع فكيف يستقيم المسعى مع مجموعات قروسطية تدّعي أنها ناطقة باسم السّماء والحال أنّ الأرض ومن عليها تعجّ بالتناقضات والتحدّيات الدّائمة. نريد برامج مدنية، لا يدّعي أصحابها العصمة، أفكارهم نسبية وقابلة للتّطبيق ولا علاقة لها بالغيب أو نواقض الوضوء! وقد كانت مناقشة بيان الحكومة في رحاب مجلس المستشارين فرصة للتذكير بأنّ دعاة الدولة الدينية يسعون ومن خلال أمثلة متعدّدة في العالم إلى تقويض المجتمع من الدّاخل وتحرّكهم غريزة التسلط والحنين إلى الماضي في وجهه البائس ومالم يؤمن هؤلاء بأنّ تحديث المجتمع يفترض ايلاء الصّراعات الاجتماعية والفكرية المكانة التي تستحق فانه لا يمكن لهذه القوى البائسة أن تبدع سوى التخلف وتنمّيه على حساب الابداع والتقدّم. ونعتبر أنّ مواجهة هذا الظلام الزاحف المتحالف مع مجموعات يسراوية بائسة هي الاخرى ضرورة حيوية وواجب وطني على كلّ من يؤمن بالعقل والحرية أن يضطلع به... هؤلاء يمثلون أعتى تجسيدات التخلف والقيم التي يؤمنون بها هي قيم اقطاعية تجرّ الفرد إلى التساؤل عن حاجات خارج عالمه. لقد كان الرئيس بن علي ولا يزال باحثا عن الشرط الانساني في كل القرارات التي اتخذها للنهوض بالبلاد، وهذا الشرط وجده خارج أسوار القمع والجوع والجهل تأكيدا للحقيقة الثابتة: الانسان الحرّ هو غاية كل دين قبل أن يعبث به تزمت المتطرفين والمتقوّلين في الدين. أليست السياسة فنّا للممكن والممكن الوحيد للانسان التونسي هو حريته التي يلغيها دعاة الدولة الدينية مهما تلوّنوا، وإذا كان بعضهم يختمر بفعل المناخ فإن اعادته إلى مناخه الطبيعي تجعلك تكتشف حقيقة ازدواجيته الأزلية.