: الحديث عن ظواهر التبشير والانحراف العقدي والسلوكي داخل بلدان المنطقة المغاربية أو بلاد عربية أخرى لايمكن النظر اليه من منطلق الحرص الدائم والمستمر على ادانة الأنظمة وتحميلها المسؤولية تجاه كل الاخلالات أو النقائص أو التجاوزات , بل ان للمجتمع الأهلي وقوى الخير والبناء في المجتمع دورا بارزا في احداث التوازن وتفعيل الدفاع الذاتي وتحصين النسيج الاجتماعي قبالة الظواهر الانحرافية الوافدة أو المنبثقة من صلب المجتمع . تأملت بين اليوم والأمس في ملف أعده الزملاء المحترمون في مجلة حقائق التونسية حول موضوع التنصير والتبشير بالمنطقة المغاربية ولقد لفت انتباهي ارتفاع ارقام المعتنقين للمسيحية الانجيلية في دول المغرب والجزائر وموريتانيا وتونس بدرجة أقل . لم أرد من منطلق المسؤولية الدينية والوطنية والاخلاقية غض البصر تجاه دلالات هذه الأرقام في المناطق الأمازيغية أو حواضر بعض المدن المغاربية , بل حرصت على التمعن في الظاهرة من منطلق يوازن بين الايمان بحرية المعتقد وبين الحرص على حماية الثقافة العربية الاسلامية والانسجام الديني والعقدي بين شعوب بلدان المنطقة . العودة للمساحة الثقافية من خلال تفعيل اليات الدفاع والاشعاع الحضاري العربي والاسلامي ليست مسؤولية السلطة فقط , بل انها مسؤولية تتحملها وسائل الاعلام ومراكز التكوين والتوجيه والنخب المثقفة ومؤسسات المجتمع الأهلي , بما يعني أن المعارضة ليست معفية هي الأخرى من المسؤولية تجاه مربعات الفراغ التي تستفيد منها فرق التبشير الاغرائي أو مجموعات التضليل العقدي من مثل جماعات عبادة الشيطان أو تيارات الشذوذ الفكري والجنسي المتسربة الى مجتمعنا عبر السماوات المفتوحة أو وسائل الاتصال الحديث ... ماتحمله العولمة الينا من افكار وتيارات وفرق ومذاهب ونحل قد يتجاوز في عمق مؤثراته امكانيات الدول ومؤسساتها الاعلامية والتربوية والتثقيفية الهادفة , ومن ثمة فان للمجتمع الأهلي دورا عظيما في تحصين الثقافة المحلية والرصيد الأخلاقي والديني العظيم لشعوبنا , بحيث أن عملية التحشيد والحماية الذاتية تنطلق أساسا من مخزون نفسي ووطني وحضاري جماعي لايمكن أن تقوم عليه السلطة عبر مؤسساتها التقليدية . مفهوم المجتمع المدني قد يكون ظاهرة سياسوية لدى البعض من خلال تضخيم الهم السياسي على حساب مجموعة من الهموم والمجالات , وهو مايجعل المجتمع في مواجهة تحديات الفقر والمرض وتلوث البئة وقضايا التربية والتثقيف ...بجهد مركزي لاتقدر عليه الدولة الحديثة بمفردها . تونس على سبيل المثال بلد نامي يتطلع شعبها الى حياة أفضل وسط تدافع حاد وقوي بين تيارات الأصالة والحداثة .. حداثة تحولت في نظر البعض الى اعادة لانتاج الاخر دون اعارة اهتمام الى عملية الفرز المحلي على أرضية الخصوصية الحضارية والدينية في منطقة شديدة الاعتزاز بانتمائها العربي والاسلامي . أصالة هي لدى البعض عودة سلفية غير ناضجة تقتضي الوقوف على الأشكال والمظهريات أو التفاعل مع قضايا الشرق الأوسط دون التفكير في اهمية الاصلاح الهادئ والرصين داخل التراب الوطني . الموازنة بين الحداثة والأصالة تعني في كل الأحوال ايجاد مناخ من التفاعل والتفاهم بين مقتضيات الدولة الحديثة ومتطلبات الانتماء الى موروث حضاري وديني لابد ان يتقيد بالمقاصد ويراعي روح الثوابت والتشريعات , ومن هذا المنطلق فان الاسلام يشكل واحدا من ابرز مكونات الشخصية التونسية التي تتعهد الدولة دستوريا وعمليا برعايتها وحمايتها من المخاطر والانحرافات . بعيدا عن منطق الاتهام والاتهام المضاد فاننا نرصد في تونس اليوم تحولات ايجابية جدا في سلوك الدولة قبالة موضوع الهوية والسياسة التربوية , وهو مايبرز لدينا باستمرار من خلال الدور التثقيفي العظيم لاذاعة الزيتونة للقران الكريم أو من خلال الحرص على تدعيم الحضور التثقيفي الاسلامي في الفضاء التلفزيوني الرسمي أو حتى من خلال تعهد الدولة برعاية وتكوين الأطر الاسلامية القائمة على بيوت الله تعالى , هذا بالاضافة الى تشييد بيوت الرحمن في مدن وقرى الجمهورية ... نلمس اليوم أيضا من خلال متابعتنا للأخبار تعاونا بين المؤسسة الدينية التونسية وبين نظيرتها الأكثر اشعاعا وخبرة بجمهورية مصر العربية , وهو ماسيعزز في تقديرنا من مكانة الاسلام المعتدل في ربوع تونس . كل هذه الجهود المثمنة لابد أن تستكمل بمناخ من الحريات يرفع الخوف عن جنبات المجتمع ويقينا مخاطر حالة الاحتقان والتوجس التي تشكل مناخا مناسبا لظواهر الاختراق الثقافي والديني والتطرف السياسي . نلمس اليوم بلاشك محاولات للتطوير والاصلاح عبر الحرص على تحقيق نسب أعلى للرفاه والتنمية , ولعل تونس اليوم تختلف بحسب شهادات المواطنين والزائرين العرب والأجانب عما كانت عليه قبل عشرين سنة , غير أن هذا الجهد لن يغنينا عن جهد تربوي وتعليمي وتثقيفي واعلامي وسياسي يعزز من انتماء التونسيين لبلدهم كمعين حضاري وديني ولغوي منفتح على منجزات العالم المتقدم .
الاسلام دين عظيم تكفل الله بحفظه كما حفظ كتابه بين ظهراني العالمين , غير أن هناك واجبا نتجند له جميعا من منطلق الأمانة والمسؤولية واستشعار عظمة الرسالة التي حملها لنا الفاتحون وهم يعبرون الصحراء الكبرى حاملين لواء العدل والتنوير والريادة بين الأمم والشعوب , ليصبح بذلك نور التوحيد مقرونا بلواء الحضارة في مدن القيروان والمهدية وسوسة وصفاقس وقابس وتوزر وكل قرى ومدن الجمهورية وكل بلاد افريقية وماجاورها من حواضر وعواصم المغرب الكبير ... أمانة نتجند لها في جميع أحزابنا وجمعياتنا وفضائاتنا العلمية والمعرفية والثقافية والاعلامية .., ولن ننس تلك الوقفات العظيمة للشيخ عبد العزيز الثعالبي في معركة التحرير أو لبورقيبة ايام المؤتمر الأفخارستي أو للشيخ الطاهر بن عاشور والخضر حسين يوم أن كان نور الزيتونة المعمورة العلمي والمعرفي يشع على كامل القارة الافريقية وبلاد العرب وماجاورها ... أمل يتجدد اليوم واذاعة الزيتونة للقران الكريم تسطع بأنوارها في ظل رعاية رئاسية سامية , وهو مايتعزز أكثر فاكثر باعادة النظر في ماسمي بسياسة تجفيف المنابع التي ألقى بها تونسيا في ركن مهمل من التاريخ بعد أن أعيد النظر في الكثير من المناهج التعليمية رغبة في وضع تونس الحاضر والمستقبل على سكة التوسط والاعتدال . *كاتب واعلامي تونسي : [email protected] كتبه مرسل الكسيبي بتاريخ 19جانفي 2008-السبت 11 محرم 1429 ه نشر على الميدل ايست أون لاين بتاريخ 20 جانفي 2008