- لرمضان قداسة روحية ودينية كبيرة في المجتمع التونسي , حيث يعرف التونسيون والتونسيات احتراما كبيرا للشهر المعظم من خلال تمسكهم بصيامه واحياء لياليه والتنافس في تلاوة المصحف الشريف واتمام ختمه في العشر الأواخر منه كما الاقبال على أداء صلاة العشاء والتراويح بالمساجد في أجواء احيائية تعرف ذروتها في الثلث الأخير من الشهر . مايميز رمضان هذه السنة عن غيره في السنوات المنقضية هو ماوصفه شهود عيان في كثير من المدن التونسية بالازدحام غير المسبوق للمساجد , حيث عرفت بيوت الرحمن اقبالا لم تتسع له المساحات المغطاة لقاعات الصلاة ولا الساحات التي تتوسط معمارها التونسي أو تقع في خلفيات أبنيتها . صلوات المغرب والعشاء تشهد نفيرا جماعيا واسعا باتجاه المساجد وهو ماجعل شهودا يتحدثون عن افتراش الشوارع المجاورة لبناءات دور العبادة . ولئن خيمت أجواء الطمأنينة والسكينة على معظم المساجد التونسية , وتعايشت الشوارع مع هذه الظاهرة التي عرفتها تونس في بعض مساجدها أواخر سنوات الثمانينات ضمن مايعرف بالصحوة الاسلامية الأولى , الا أن انقطاعها طيلة سنوات التسعينات فسر من قبل المراقبين بما عرفته البلاد بحالة الاستنفار الأمني على خلفية الاشتباك السياسي الحاصل بين حركة النهضة المحظورة والسلطات التونسية. العودة المتدفقة للمساجد غدت اليوم ظاهرة اجتماعية معزولة عن ظواهر التعبئة السياسية أو مااصطلح عليه تونسيا بظاهرة الاسلام الاحتجاجي , وهي على حد تفسير الباحثين والمختصين في دراسة الظواهر الاجتماعية عودة لصيقة بما أحدثته ثورة الاتصالت ولاسيما بعض القنوات الفضائية العربية من حالة اهتمام دعوي واسع بالعودة الروحية والحضارية الى قيم التدين والتمسك بشعائر وأركان الاسلام التعبدية . واذا كانت هذه السكينة الرمضانية تمثل شعورا اسلاميا عارما يجتاح سائر شعوب المنطقة العربية وسائر المعتنقين للدين الاسلامي عبر ربوع العالم , فانها في تونس تبقى محل نظر ومراقبة بعض الجهات الرسمية التي تعودت على قراءة الظواهر الروحية والدينية بخلفية تحملها على الشك والارتياب . ماتحدث به شهود عن تضايق بعض الجهات الأمنية في بعض المحافظات من توسع ظاهرة الافتراش في الشوارع قصد أداء الصلاة , بعد امتلاء فضاءاتها الداخلية , جعل البعض يشعر بالتخوف والقلق ولاسيما بعد أن تطور الأمر في محيط بعض المساجد الى مطالبة بعض العناصر الأمنية للمصلين بالاستظهار ببطاقات الهوية. واذا كان مايعرف بأحداث الضاحية الجنوبية بداية السنة الجارية قد ساهم في تعزيز مخاوف السلطات من اختراق ظاهرة التدين الشعبي الواسع من قبل عناصر ذات قناعات سلفية متشددة , الا أن السؤال المطروح لدى رجل الشارع هو عن مدى جدوى وصحية امتداد حالة الشك والريبة الى عموم المواطنين والمتدينين الذين يشكلون الغالبية العظمى من شرائح المجتمع التونسي . اذاعة الزيتونة تعيد الأمل الى كثير من التونسيين : الحدث الذي فاجأ وأفرح معظم التونسيين هذه السنة هو انطلاق بث اذاعة الزيتونة للقران الكريم من منطقة قرطاج ذات البعد السيادي ,اذ لم يكن لهذه الاذاعة أن ترى النور لولا موافقة شخصية من الرئيس بن علي , حيث عهد بتسييرها الى صهره السيد محمد صخر الماطري الذي عرف بتوجهه العربي وبالتزامه الاسلامي منذ فترة ولعل تصريحاته الاعلامية حين الاعلان عن تأسيس هذه الاذاعة حفلت بكثير من الدلالات ,اذ أن السماح لاذاعته بالبث"يؤكد الحرص على رعاية الدين الإسلامى والقائمين على شؤونه حتى تبقى تونس منارة إشعاع فى العالم العربى والإسلامى ورمزا للحوار والتفاعل المثمر بين الثقافات والحضارات". واذ أنه لايخفى على المراقبين انقسام النخبة التونسية وجزء من طبقتها الحاكمة الى تيارين , أولاهما حداثي لائكي منبت عن الهوية العربية الاسلامية للبلاد واخر معتز بلغته الوطنية واسلامه كدين رسمي وموروث حضاري وجذور تشريعية , فان خبر انشاء اذاعة الزيتونة للقران الكريم لم يلق لدى التيار الأول الترحيب والقبول بقدر ماأنه قوبل بصمت وريبة ومعارضة غير معلنة . اذ ترجح اوساط سياسية مطلعة أن اذاعة الزيتونة كانت نتاج جهد بذله جناح الأصالة والاعتدال داخل هياكل الحزب الحاكم وهو مايعد في تقدير البعض مكسبا لهذا الجناح في الوقت الذي ساد الاعتقاد على نطاق واسع بتراجع دوره أمام عملية اكتساح لائكي قوية لهياكل الحزب ومؤسسات الدولة . وفي أجواء من الترحيب الشعبي بالاذاعة الناشئة التي تبث موادها الاعلامية انطلاقا من مساجد تونسية عبر نقل صلوات التراويح والجمعة أو تلاوات مسجلة لمقرئين تونسيين , وفي الوقت الذي رحبت فيه ثلاث احزاب معارضة بالمبادرة فان الكثير من المثقفين لايزالون يتساءلون تجاه قدرة هذه الاذاعة اليتيمة على مواجهة حالة الفراغ والهشاشة المقدمة في كثير من وسائل الاعلام التونسية , اذ ان مايشهده المجتمع التونسي على حد تقدير بعضهم من ارتفاع في معدلات الانحراف والجريمة وظواهر السلوك الشاذ يحتاج الى حركة توعوية وتصحيحية واسعة تخوض معركتها اكثر من اذاعة وقناة فضائية تونسية. الا أن الأكيد بين هذا الموقف وذاك هو أن المجتمع التونسي يشهد اليوم تحولات عميقة وجذرية ستدفع النخب السياسية الى اعادة النظر جذريا فيما يقدمه الفضاء الاعلامي البصري والى التأمل مجددا في مدى كفاية جرعة الحريات . حرره مرسل الكسيبي*-6 رمضان 1428 ه-18 سبتمبر 2007 *كاتب واعلامي تونسي- رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية :