: العارفون بالشأن السياسي في تونس يؤكدون على القيمة الكبرى للتجمع الدستوري الديمقراطي في ادارة الشأن العام وارفاد تجربة التحديث والبناء في تونس المعاصرة , وهو ماجعل من هذا الحزب على حد قول أحد المراقبين للشأن الوطني "ماكينة سياسية" يصعب على أي رجل دولة التخلص منها أو تجاوزها في ظل التوازنات التونسية القائمة . غير أن مايركز عليه الأداء المعارض تونسيا منذ عقود هو استحداث فضائات سياسية موازية للحزب الحاكم طمعا في زحزحة مكانة هذا الأخير أو تراجعها الى المقعد الخلفي , وهو ماساهم على عكس المأمول في تكريس هيمنة تجمعية على هياكل الدولة ومؤسساتها وتوسع نفوذ الالة الحزبية الحاكمة الى أبسط مربعات الحياة اليومية للمواطن . اصطدم الرئيس زين العابدين بن علي حين وصوله الى أعلى هرم السلطة بقدرة هذا الحزب على اعادة التشكل والتلاؤم مع الواقع الجديد وهو مادفع المؤسسة الرئاسية الى تعديل البوصلة على أهمية التفاعل مع الهياكل التجمعية بدل الدخول معها في علاقة متشنجة تذهب بتطلعات مشروع التغيير . وفي موازاة هذا التأقلم الرئاسي الذكي لم تنجح حركة النهضة كحزب معارض كبير في اختبار المشاركة الجماعية في قوائم الحزب الحاكم الانتخابية سنة 1989 , حيث عمد البعض من قادتها الى نقض اتفاق شفهي بين قادة التجمع الدستوري والأستاذ عبد الفتاح مورو الرجل الثاني في حزب النهضة , لتنقلب الأمور بعدها الى مزاحمة دراماتيكية من النوع الثقيل ساهم في تصعيدها وجود الأستاذ الغنوشي خارج البلاد التونسية بعد انزعاجه للنتائج التشريعية المعلنة ومجاراته الطامحة لنسق الأحداث السياسية المتسارعة بالقطر الجزائري . أسدل الستار على فصل من الفصول السياسية في تونس حين انحازت المؤسسة الرئاسية لحزبها واختارت التحجيم من نفوذ النهضة المتصاعد , وكان لتدخل المؤسسة الأمنية في الصراع دورا بارزا في وضع أكبر أحزاب المعارضة أمام خياري السجن أوالمنفى . ظلت أنظار الرئيس التونسي بعد اسدال الستار على هذه المواجهة متجهة الى مشاريع تنموية كبرى هدفت الى تغيير المشهد الاقتصادي والاجتماعي في تونس , وهو ماوفقت اليه البلاد حين رفعت نسبها التنموية الى سقف قارب الستة بالمائة على مدار العقد المنقضي ... وخلال هذا الفضاء الزمني الذي تركزت فيه جهود الدولة على الاعمار والانشاء والبناء , وجد الحزب الحاكم في تونس نفسه في مواجهة حالة الفراغ النسبي الذي لم تملأه الحركة الحقوقية والمجتمع المدني الا برفع أصوات الاحتجاج والصراخ في مواجهة تبعات المواجهة السابقة على صعيد التنمية السياسية والفضاء الحقوقي العام . نتائج الانتخابات التشريعية والبلدية منذ أواسط التسعينات عرفت اكتساحا ساحقا لقوائم الحزب الحاكم في تونس , وهو ماجعل الارادة الرئاسية تتجه الى طمأنة كثير من أحزاب المعارضة القانونية عبر تنقيح التشريعات واقحام سقف معين الى هذه المجالس رغم معارضة الهياكل التجمعية . وعلى عكس توقعات البعض من المراقبين في صفوف المعارضة الاحتجاجية أو المغضوب عليها بحسب مايصطلح عليه البعض , فان أداء الديمقراطيين الاشتراكيين أو الاتحاد الديمقراطي الوحدوي أو حزب التجديد داخل قبة البرلمان لم يكن أداء ديكوريا مريحا بالنسبة للحكومة أو الأغلبية المكتسحة لسدة مجلس النواب , وهو ماجعل الحزب الحاكم أمام حالة قلق حقيقي كلما اتجهت الارادة الرئاسية الى تعزيز هذا الحضور المعارض أو كلما اتجهت الارادة الشعبية الى افراز برلمان اكثر ثراء وديناميكية . المشهد التجمعي وان كان اليوم قويا ومهيمنا داخل الفضائات الدستورية والمؤسساتية للدولة الا أنه يحتاج الى مرونة تضاهي مرونة جبهة التحرير الوطني في القطر الجزائري , اذ يؤكد العارفون على تخلص الحزب الجزائري الحاكم من عقدة الخوف على أرضية المنافسة والمزاحمة وهو ماجعله يعود الى الفضاء التشريعي والبلدي بأغلبية مريحة في مواجهة قوى سياسية مؤثرة مثل جبهة القوى الاشتراكية أو حركة مجتمع السلم أو حزب العمال أو حركة النهضة أو حركة الاصلاح الوطني أو حتى التجمع الوطني الذي أسسه الرئيس السابق لمين زروال . التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس لابد ان يواجه وبشجاعة وثقة في النفس وسائل الاعلام العربية والدولية ويتحمل مسؤولياته التاريخية والوطنية بعيدا عن هواجس الخوف من المعارضة ورصيدها النضالي والحقوقي المعتبر , وهو مايعيد لكثير من الأجيال الصاعدة الثقة فيه وفي هياكله التي تحتاج حتما الى التشبيب والى ثقافة سياسية جديدة لاتركن الى الحلول الأمنية في مواجهة منافسي الفكر أو السياسة . التشبيب والشجاعة في هياكل هذا الحزب العريق ذي الجذور الوطنية لايغنيان أيضا عن التحلي بالسلوك الديمقراطي في الافراز القيادي , مع ضرورة الانتباه الى أهمية تصالح هذا الحزب مع اسلام تونس المعتدل والسمح واستبعاد القراءات المسقطة على الحزب من خارج فضائه العربي والاسلامي , هذا الفضاء الذي كان سرا في نجاحه في معركة المؤتمر الأفخارستي أو التصدي لمعركة التجنيس أو غيرها من معارك التحرر الوطني أيام كان الشيخ الثعالبي يكتب عن السيرة النبوية ويزاوج ذلك بالكتابة عن البرلمان والدستور وأيام كان الحبيب بورقيبة يوسع المشورة بالرجوع الى أكابر علماء الزيتونة بالتوازي مع نضاله الوطني ضد طمس معالم الهوية العربية الاسلامية لتونس . ان المصالحة التي عقدها الرئيس بن علي بين تونس واسلامها حين تولى مقاليد السلطة سنة 1987 لقيت عرقلة مقصودة من داخل جناح في التجمع الدستوري الديمقراطي قادته انذاك عناصر مقربة من الوزير المقال محمد الشرفي , ولعل تنبه الرئيس بن علي الى أهمية الاعتدال في نهج الدولة هو الذي عجل بتأسيس اذاعة الزيتونة للقران الكريم واعادة الاعتبار الى حصص التوجيه الاسلامي السمح في وسائل الاعلام الرسمية كما رفع الحرج عن المحجبات عبر تعيين السيدة لمياء الشافعي الصغير ككاتبة دولة مكلفة بالاتصال والاعلام . خطوات رئاسية جريئة وشجاعة ومثمنة لابد أن يوازيها جهد تجمعي خالص عبر مصالحة هادئة وصادقة مع الاسلام الوسطي المعتدل كموجه حضاري لتونس وشعبها , وهو مايجعل تونس في بعد تام عن مخاطر العنف والتطرف الذان أطلا برأسهما قبل أكثر من سنة وضربا جزءا عزيزا من ترابنا الوطني . التجمع الدستوري الديمقراطي يبقى في نظرنا حامل لواء الاستقلال وحصنه المنيع عبر اشاعة أجواء الطمأنينة والمصالحة الوطنية بين مختلف ألوان الطيف التونسي بعيدا عن الخوف من أجسام معارضة لابد أن يكون وجودها عنصر ثراء وتوازن في مجتمعنا وتشريكها اغناء لتونس الغد والمستقبل . لاخوف حينئذ على حزب تونس الأول من مشاريع الانفتاح والاصلاح والدمقرطة واحترام حقوق الانسان , ولاضير على هذا الحزب الوطني العريق من الحزب الديمقراطي التقدمي أو المؤتمر من أجل الجمهورية أو حزب العمال الشيوعي أو حركة النهضة أو غيرهم من الأحزاب .., فهؤلاء كلهم يبقون أبناء تونس حتى وان احتد الصراع وتفرقت بنا السبل وعلا صوت الخصومة على صوت الوحدة الوطنية الجامعة ... لقد حان أوان التصحيح والتطوير داخل هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي , وأنا على يقين بأن الرئيس بن علي سيكون سعيدا حين يرى هؤلاء الفرقاء على طاولة واحدة من أجل تدارس مشكلات الحاضر والمستقبل على أرضية طي صفحة الماضي والنظر بعين وطنية صادقة الى مستقبل بلد وشعب سئما منطق الخصام ولي الذراع ...فهلا يشهد مؤتمر الحزب الحاكم القادم استجابة لهذا الطموح ؟ كتبه مرسل الكسيبي بتاريخ 30 جانفي 2008 للتفاعل مع الكاتب : [email protected] الهاتف : 00491785466311