على الرغم من انطلاقته في يوليو (تموز) 2002 من مدينة (ديربان) في جنوب إفريقيا، فإن الاتحاد الإفريقي ظل عاجزا عن مواجهة المعضلات المزمنة التي تعاني منها القارة الإفريقية، إذ انتقلت إليه أمراض منظمة الوحدة الإفريقية الراحلة إليه، التي خلقت قروحاً أو تشوهات في بنيته الهشة. ففي الحادي والثلاثين من يناير (كانون الثاني) 2008 انعقدت قمة الاتحاد الإفريقي العاشرة في العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا)، وعلى جدول أعمالها بنود متكررة ومتشابهة لما ظل يُناقشه منذ قيامه رغم أن الشعار الذي اتخذه هذه المرة هو التنمية الصناعية في القارة الإفريقية، ولكن القمة أخفقت ككل مرة في إيجاد مخرج سلمي للأزمة الكينية. و يتساءل المحللون عن خلفيات هذه الأزمة الكينية، التي يبدو أنها باتت أقرب إلى التربة في ساحل العاج في نهاية التسعينات منه إلى المعين الرواندي في العام 1994؟ لقد اشتعلت كينيا بعد ثلاثة أيامٍ من “الانتخابات التاريخيّة” في 27 كانون الأول (ديسمبر) 2007، والتي جرت في “جوٍّ هادئ”. وكان المتسبب الرئيسي في إطلاق هذه الدوامة الجهنمية للعنف الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية، التي أعطت فوزا طفيفا بنحو (230000 صوت) للرئيس المرشح مواي كيباكي على منافسه زعيم المعارضة الكينية(الحركة الديمقراطيةالبرتقالية) رايلا أودينغا الذي يطعن بإعادة انتخاب الرئيس مواي كيباكي. و تمّ إحصاء أكثر من سبعمائة قتيل، وأكثر من 100 ألف مشرد عقب “أعمال العنف التي نفّذتها عصابات من الشباب المسيَّرين الذين يرهبون السكان”. وتعود مسؤوليّة المجزرة أيضاً إلى قوات الشرطة التي سمح لها ب “إطلاق النار بهدف القتل”. لقد تم الإعلان عن هزيمة الزعيم المعارض ريلا أودينغا الذي تصدر استطلاعات الرأي في خريف العام 2007، التي كانت ترشحه للفوز في الانتخابات الرئاسية، و بالتالي إنزال الهزيمة بالائتلاف الحاكم في السلطة منذ الاستقلال عام 1963. وكانت حالات التزوير الفاضحة التي شابت هذه الانتخابات، والتي أيدتها لجنة مراقبة الانتخابات التابعة للاتحاد الأوروبي التي كانت حاضرة في كينيا، وحملت تقريرا قاسيا حول هذا الاستحقاق الانتخابي والنتائح المضخمة لمصلحة الرئيس مواي كيباكي، قد أسهمت في تسميم الجو المشحون بطبيعته. وخرجت كينيا لتوّها من صيفٍ دمويّ في سنة 2007، بعد أن توالت عمليات الإعدام خارج إطار القضاء في وسط المناطق الممنوعة داخل العاصمة، التي كانت لا تزال مضطّربة بفعل المواجهات الدمويّة التي شهدتها في العام 2006، بين ميليشيات إثنيّة “ليو” (التي تلقّب بالطالبان) وإثنيّة “كيكويو” (المعروفة باسم مونغيكي -الكثرة-)، من أجل السيطرة على التجارة غير الشرعية للشانغا (وهي كحول تقليدية مغشوشة). وقد نفّذت هذه الإعدامات فرقة “كوي كوي” من القوّات الخاصّة الحكومية.. وهكذا أدّت ممارسات “سرّية الموت” الحقيقية هذه، التي كانت تطلق النار عشوائيّاً على شباب الأحياء الفقيرة المتّهمين بانتمائهم إلى المونغيكي، إلى مقتل حوالي خمسمئة شخص. وقد ساهمت المساوئ التي ارتكبتها ميليشيات المونغيكي، التي ندّدت بها اللّجنة الكينيّة لحقوق الإنسان والتي حمّلتها الصحافة الوطنية مسؤوليّة جميع الحوادث المتعلّقة بانعدام الأمن في نيروبي، أيضاً في تعزيز الكراهيّة ضدّ إثنيّة كيكويو - التي ينتمي إليها الرئيس- ضمن ال 60 في المئة من سكان نيروبي المتكدّسين داخل هذه الأحياء العشوائية. استعمر البريطانيون كينيا عام 1887، ونالت البلاد استقلالها عام 1963. ومنذ العام 1964 لم تعرف البلاد سوى ثلاثة رؤساء: الأول جومو كينياتا واستمر في الحكم (16 سنة)، والثاني دانيال آراب موي(24 سنة)، والثالث الرئيس مواي كيباكي منذ العام 2002، الذي ينتمي إلى قبيلة كيكويو التي تشكل 20 في المئة من عدد سكان كينيا (35 مليون نسمة)، وهي قبيلة تتمتع بنفوذ قوي في البلاد منذ عهد الاستعمار البريطاني، وأفرزت طبقة من رجال الأعمال الأثرياء جدا. وبالمقابل هناك المعارضة التي يتزعمها رايلا أودينغا الذي ينتمي إلى قبيلة “لو” المتمركزة في غرب البلاد. ومنذ عهد الاستقلال كانت قبيلة “لو” تنظر بفارغ الصبر اليوم الذي يصل فيها أحد قادتها إلى رئاسة الدولة، من أجل التمتع بمزايا السلطة.وتحوم حول هاتين القبيلتين الكبيرتين، مجموعات إثنية أخرى، حيث دخل قادتها، منذ أربعة عقود، في لعبة معقدة من التحالفات والخيانات، لتحقيق الثراء الشخصي، على حساب مصالح المجموعات الإثنية التي ينتمون إليها. فالسيّد كيباكي مرفوضٌ من قبل الشريحة الأكثر فقراً من قاعدته الإثنيّة (كيكويو) التي لا تتردّ في التصويت ضدّه، وتلبية دعوة السيّد أودينغا (من إثنيّة لو)، كما جرى خلال الاستفتاء الدستوريّ في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005. وفي غضون سنتيْن، من العام 2003 إلى العام 2005، خذل رئيس الدولة في الواقع جميع من كانوا يأملون بالتغيير. وصدمت الاضطرابات السياسية والعنف القبلي زعماء العالم وأضرت بسمعة كينيا كأكبر اقتصاد في شرق أفريقيا. فقد طورت كينيا قطاعا سياحيا يدر عليها عائدات كبيرة من العملة الصعبة، فضلا عن تصديرها للشاي والورود، وتنامي قطاع العقارات الذي لا مثيل له الأمر الذي جلب الشكوك حوله لجهة ضخ أموال قذرة بهدف تبييضها في هذا القطاع. لكن الأكواخ السياحية في المحميّات الحيوانية وفنادق شاطئ المحيط الهنديّ، وهي بنى تحتيّة تجتذب أكثر من مليون زائر سنوياً، ليست في الواقع سوى “عالم خارج البلد offshore، بعيد عن الواقع... مع نسبة نموّ بلغت 6 في المئة في العام 2007 وارتفاع مؤشّر البورصة إلى أكثر من 800 في المئة في غضون ستّة أعوام. لكن النموذج الاقتصادي الكيني بدأ يلهث، ولاسيما ضمن إطار عولمة متسارعة تفرض تكيّفات سريعة. وقد ساهمت أيضاً خمسة أعوام من الحكم الكيباكيّ في توسيع الشرخ الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء في مجتمعٍ كينيّ يعيش فيه 50 في المئة من السكان بأقلّ من دولاريْن يومياً. وفي الوقت الذي تضاعف فيه عدد السكان أربع مرات، منتقلا من 9 ملايين إلى 36 مليون نسمة، فإن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد الذي ازداد بشكل ملحوظ ظل يوزع بطريقة غير عادلة، فهو يقارب 21 مليار دولار سنويا، أي ما يعادل 600 دولار لكل ساكن. أما التضخم الذي تجاوز 20 في المئة منذ العام 2006، فقدأرهق الفقراء الذين لم تعد مداخيلهم تواكب تقدم الاقتصاد. إن للأزمة الكينية تداعيات على الاستراتيجية الأميركية في منطقة القرن الإفريقي، ذلك أنّ كينيا، شريكة واشنطن في هذه الاستراتيجية المهمّة،إذ حصلت منها على أكثر من 500 مليون دولار من المساعدات في العام 2007 بوصفها الموقع المتقدّم للحرب التي شنّتها الولاياتالمتحدة ضدّ الإرهاب الذي يصيب القرن الأفريقي. حتّى أنّها جزء من البلدان المتوقع إيواؤها لمقرّ “أفريكوم”، القيادة العسكريّة التي توشك الولاياتالمتحدة على تحضير تموضعها في القارة. وتساهم الاضطرابات الناتجة عن عدم استقرار المعبر البحريّ الأساسيّ لأوغندا ورواندا وبوروندي وجنوب السودان وشرق الكونغو، والتي سبق أن تأثرت باشتعال أسعار الوقود والمنتوجات الأساسية، نوعاً ما في إضعاف اقتصاد دول الداخل في شرق إفريقيا. *كاتب من تونس