إلى غاية سنة 1987، كانت خطّة المدير العام للدّيوانة تُسند إلى أحد الإطارات الدّيوانية التي تمرّست على القوانين والتّراتيب الدّيوانية وتقلّبت في عدّة خطط بالإدارة بما أكسبها القدرة على القيادة والتّنظيم والمعرفة بأبناء الإدارة ومؤهلاتهم، الشيء الدي يجعلهم يتولّون مهامّ المدير العام حال تعيينهم بكل سلاسة ودون فترة تأقلم، وفي حالات استثنائية تم إسناد الخطة إلى إطارات من خارج الدّيوانة ولكن من داخل وزارة المالية، درسوا في المدرسة الوطنية للمالية صحبة إطارات الدّيوانة، وعلى اطّلاع عميق بمسألة الجباية عموما وبالتّالي الجباية الدّيوانية، وبذلك يتم ضمان تأقلمهم بسرعة مع الخطّة. كما دأبت الدّولة على تنظيم أعوان إدارة الديوانة داخل سلكين: 1- سلك مدني يعمل بالمكاتب تابع للإطار الإداري لوزارة المالية بنفس الرتب المدنية (مراقب المصالح المالية، ملحق تفقد، متفقد المصالح المالية…) ونفس الواجبات والحقوق حسب قانون الوظيفة العمومية بما فيها الحق النّقابي وحق الإضراب، يتم انتدابه وتكوينه بالمدرسة الوطنية للإدارة، مهمّته تطبيق التّراتيب الجبائية على المعاملات مع الخارج حسب التّعريفة الدّيوانية، استخلاص الآداءات والمعاليم لفائدة الخزينة، تطبيق إجراءات التّجارة الخارجية والمراقبة الفنية والصحية للمنتجات المورّدة، مقاومة أعمال الغش، مراقبة الأنظمة الدّيوانية، وغير ذلك من المهام المدنية. 2- وسلك نشيط شبه عسكري حامل للسّلاح يعمل على الميدان، خاضع لنظام أساسي خاص يحدّ من حقوقه المدنية والسياسية، برتب وأزياء عسكرية وتنظيم عسكري، يتم تكوينه بالأكاديمية العسكرية بالنسبة للضّباط وبمدارس الجيش أو الحرس بالنّسبة لضبّاط الصّف، مهمّته حراسة الحدود والتّراب الوطني، مقاومة التّهريب، مراقبة الأنشطة الإقتصادية الخاضعة للرّقابة الدّيوانية، وغير ذلك من المهام التي تقتضي حمل الزّي والسلاح. وعند تولّي زين العابدين بن علي الحكم في نوفمبر 1987، وبعد فترة إصلاح وجيزة، وضع نصب عينيه السّيطرة على إدارة الدّيوانة عبر مشروع نظام أساسي يهدف إلى دمج جميع أعوان الدّيوانة في سلك وحيد شبه عسكري، ظاهريا لغاية نزع الحق النقابي وحق الإضراب في قطاع حيوي بالنسبة للتّوريد والتّصدير. وقد بدأ بتنحية المدير العام المباشر آنذاك وهو إطار سامي من أبناء الدّيوانة المُخلَصين، وتعويضه بإطار برتبة مهندس مع تكليفه بتلك المهمة، غير أنّه وبعد كثير من الجهد والمفاوضات، لم تكن النتيجة مرضية، حيث تم إخراج سلك أعوان المكاتب من وزارة المالية دون عسكرته، ما جلب له استياء بن علي وإقالته له والتّنكيل به. وفي صائفة 1992 تم تعيين أحد جنرالات الجيش الوطني مديرا عاما لإنجاز المهمّة حسب المطلوب، ولم تمض ثلاث سنوات حتّى صدر القانون عدد 46 لسنة 1995 المؤرخ في 15 ماي 1995 والمتعلّق بضبط النظام الأساسي العام لأعوان الديوانة الّذي نصّ في فصله الأول أنّه "ينطبق على مختلف أسلاك أعوان الديوانة"، على أن تضبط "الأنظمة الأساسية العامة بكل سلك من أسلاك الديوانة كيفية تطبيق هذا النظام الأساسي العام بالنسبة لكل صنف من الأعوان، وتتخذ هذه الأنظمة الأساسية الخاصة في صيغة أمر"، وبذلك تمّ إقصاء المشرّع من مهمّة ضبط هذه الأنظمة. وللغرض، تمّ إصدار الأمر عدد 2311 لسنة 1996 المؤرخ في 3 ديسمبر 1996 والمتعلق بضبط النظام الأساسي الخاص بسلك أعوان المصالح الديوانية، الّذي نصّ في فصله الأول أنّ سلك أعوان المصالح الديوانية يشتمل على الهيئات التالية: هيئة ضباط الديوانة، هيئة ضباط صف الديوانة وهيئة مساعدي الدّيوانة، وبذلك تمّ إلغاء جميع الرّتب المدنية وتنزيل أصحابها مباشرة في الرّتب العسكرية طبقا لجدول تكافؤ بين الرّتب أقلّ ما يقال عنه أنّه كان ظالما للكثير من المنتمين للسّلكين القديمين، وتمّ بلوغ الهدف الحقيقي، ألا وهو تدجين السلك وإخضاع أبنائه للإبتزاز وتوجيههم حسب التعليمات والأوامر الشفاهية "دون تململ ولا ترمرم" كما يقال، بدل القانون والتّراتيب الجاري بها العمل. في نفس الوقت تمّ إحداث المدرسة الوطنية للدّيوانة التي تكفّلت بتكوين ضبّاط المستقبل من خرّيجي الجامعات بعد إخضاعهم للتّدريب العسكري، وقد تخرج منها سنويّا دفعات من عشرات الضبّاط الذين تمّ إدماجهم بالسلك. غير أنّ ما غاب عن خلد الجماعة آنذاك في هذا النّسق الجنوني للإنتدابات الغفيرة التي تفوق بكثير حاجيات الإدارة والتي خيّمت على أغلبها شبهات فساد تَجنّبَ الجميع التّحقيق فيها إلى اليوم، هو أنّه إذا تمّ احترام سلّم التّدرج الآلي في الرّتب حسب ما أقرّه النّظام الأساسي المذكور، فإنّنا سنصل في يوم من الأيّام إلى ازدحام غير مسبوق في رتب القيادة. وفعلا، بعد مرور 25 سنة، وبعد أن فارق بعض مهندسي هذا النّظام الأساسي الحياة، وبعضهم الإدارة، وبعد أن بذلوا أقصى جهودهم من أجل تجنب ذلك الإزدحام قدر الإمكان عن طريق تأخير الترقيات بطريقة تعسّفية وغبن الأعوان حققوهم ما عدا الأقلّية المقرّبة من زبانية عائلة الرئيس وأصهاره ومن غيرهم من أرباب النفوذ وأباطرة التّهريب، وبعد أن أحيل البعض للمحاكمة من أجل تنفيذهم لتعليمات المدير العام، أصبحت الإدارة تعجّ بآلاف الرّواد والمقدّمين والعقداء والعمداء (حوالي 600 عميدا عن قريب مقابل حوالي 10 عمداء بداية 2011)…بفضل ما سمّي بتصحيح المسار المهني الّذي جعل من أغلبية ضبّاط الصّف ضباطا لا يحق للرّؤساء تكليفهم بالمهام التّنفيذية، دون أن تكون لأغلبهم الشهائد العلمية والمؤهلات المهنية التي تقتضيها رتبهم الجديدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الوضعية طالت أيضا جميع الأسلاك شبه العسكرية الأخرى، من حرس وطني وأمن عمومي وحماية مدنية وسجون، بنسب مختلفة. وما زاد الطّين بِلّة التزام الدّولة التّونسية بالإمتناع عن إجراء انتدابات في الوظيفة العمومية استجابة لرغبة صندوق النّقد الدّولي، حيث أصبحت الإدارة شبه خالية من أعوان التّنفيذ، وأصبح من الصّعب إيجاد ضباط صف لتكليفهم بأعمال حراسة الحدود والتّراب الوطني والمنشآت الإدارية ومراقبة نقل البضائع والمؤسسات المصدّرة والمواني والمطارات… مقابل تراكم الضبّاط في الإدارات التي لم تعد تتّسع لهم، بحيث لم يعد الرّؤساء يرغبون حتّى في حضورهم في غياب مكاتب تأويهم ومهامَّ تُسنَد لهم. لذلك وجب على جميع السلط اليوم، ابتداء من رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلّحة، ومجلس نواب الشّعب مصدر التّشريعات، ورئيس الحكومة ووزير المالية والمدير العام للدّيوانة بوصفهم الرّؤساء المباشرين لأعوان الدّيوانة، أن يتداركوا هذه الوضعية الكفكائيّة في أسرع الأوقات، ضمن سياسة جديدة للتّصرف في الموارد البشرية تراعي حاجيات الإدارة وتحفظ كرامة جميع الأعوان في نفس الوقت، وذلك عن طريق التّسريع في نسق الإحالة على التّقاعد الإختياري بإيجاد حوافز مالية إضافية للّذين يرغبون في ذلك، واستئناف انتداب أعوان التّنفيذ في أقرب وقت ممكن، والتّخلي عن هذا التنظيم شبه العسكري بالنسبة لأعوان المكاتب والإداريين طبقا لما كان معمول به في السّابق، ولما هو معمول به في أغلب بلدان العالم. كما وجب أن يصاحب ذلك مشروع جدّي لإعادة هيكلة الإدارة وتعصيرها، وتكريس لامادّية الإجراءات والشفافية، وتنقية مناخ عملها من شوائب التعقيد والرشوة، وتحفيز أعوانها بطرق عصرية، ومراجعة مجلة الديوانة ونصوصها الترتيبية. أمّا حول الموارد المالية الّلازمة لهذه العملية، فإنّه يمكن التعويل أوّلا على ما سيدرّه الإصلاح المرتقب من موارد مالية معتبرة للخزينة، ثم العودة إلى بعض الجهات الّتي اقترحت في السّابق إفادتنا بخبرتها وتمويل عملية الإصلاح، والتي تمّ تجاهلها بطريقة لا تنمّ عن الّلياقة، وقبر مشاريع الإصلاح التي كانت بصدد الإعداد.