من الواضح أن المسألة وراثية : السياسة و القلم الملتزم و قبل كل شيء، تلك القدرة الفطرية على لعب دور المحفّز و الميسّر في خدمة قضية نبيلة. كان الحبيب الشطي، الذي كان شاباً ناشطاً و ملتزماً، يتمتع بقلم لاذع، هو قلم الحزب. و قد كان قريباً في الآن ذاته من بورقيبة و بن يوسف، الرئيس و الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد. لعب دور الميسّر، صلة الوصل بين السياسي صالح بن يوسف ورجل الأعمال الحبيب الشيخروحو، لإطلاق صحيفة "الصباح" سنة 1950، والتي أصبح، وبشكل طبيعي، أول رئيس تحرير لها. كان يمضي فيها 20 ساعة يومياً و يشارك في كل المهام إلى غاية الطبع و التوزيع ! كانت صحيفة وطنية حتى النخاع، بلغ توزيعها آنذاك 20 ألف نسخة و هو رقم ضخم بمقاييس تلك الفترة. و كان الناس يتهافتون عليها حتى في الجزائر و المغرب، وهما لا يزالان تحت نير الاحتلال الفرنسي. لقد أنهيت للتو قراءة مذكّرات الحبيب الشطي، الذي كان وزيراً سابقاً للشؤون الخارجية في عهد بورقيبة و أميناً عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي خلال أقسى فترات الحرب الأولى بين العراق و إيران… كتاب مثير للإعجاب. و أنا أتصفّح بعض صفحات مذكّرات عمي، لم أستطع منع نفسي من أن أرى فيها نوعاً من الإرث، تسلسلاً جينياً، حساً داخلياً… ذلك الحسّ التحريري، وذلك الالتزام السياسي الراقي و الإيجابي في خدمة تونس. أنا أيضاً ، لي في رصيدي ، ليس 20 ساعة في اليوم، بل ليالٍ بيضاء قضيتها في رئاسة تحرير أول صحيفة يومية كبرى في تونس، في ذروة ومرارة زمن الثورة، حين خفتت كثير من الأصوات و فرّت أخرى بجبن و تلونت أخرى من فئة المرتزقة بسرعة مذهلة… على غرار قريبي الراحل، كنت واعياً بثقل اللحظة التاريخية التي مثّلتها مرحلة الانتقال الديمقراطي في البلاد بعد الثورة. لم أكن سياسياً بحتاً، لكنني كنت مؤمناً بضرورة توحيد الصفوف حول مشروع وطني كبير (الديمقراطية التشاركية، والاقتصاد الاجتماعي والتضامني)، مستنداً إلى مجموعة من الشخصيات البارزة آنذاك، ممن لم أشكّ لحظة في حبهم للوطن وإخلاصهم له دون مصالح. كانت البلاد تتداعى، ممزّقة بين أطياف واسعة من التقدميين، و"التقدميين"، واليساريين المتطرفين، والإسلاميين الثأريين، الرجعيين، الظلاميين… ونخبة صامتة، مشلولة. تؤكد لي قراءة مذكّرات الحبيب الشاتي قناعة لطالما آمنت بها، وهي أنه لا وجود للصدفة في الحياة، وأن الصدق يبقى أسمى فضيلة يمكن أن يفخر بها رجل أو امرأة ملتزمون. «لا مصلحة، لا فعل»… تلك غالباً هي القاعدة التي تحرّك النفوس المتوسطة، والتي تجهض كل مشروع واعد و طموح كبير. جوهر الشطي تعليقات