تونس (الشروق): بمناسبة إحياء ذكرى وفاة المناضل الدكتور محمود الماطري ألقت الدكتورة إسمهان اليوسفي (باحثة في تاريخ الحركة الوطنية) محاضرة قيمة بدأتها بتقديم جزيل الشكر الى السيد محمد الغرياني الأمين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي ورئيس شعبة محمود الماطري بمنطقة «ميتيال فيل» على دعوته لتقديم المداخلة وكذا الأستاذ عبد السلام بن حميدة مدير المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية والسيدة روضة بن بشير الرئيسة المديرة العامة لمؤسسة «CDMIND» على إعدادها التوثيق الرقمي المتعدد الوسائط المصاحب. وتقول الدكتورة اسمهان اليوسفي في بداية المداخلة: «ولا شك أن تشريفي بهذه الدعوة لدليل على وعي مسبق بأهمية التعريف بالدكتور محمود الماطري تعريفا مستجدا محايدا. لذلك اعتمدت في هذا التقديم على ما أنجزته من بحوث أكاديمية حول هذه الشخصية فقد كانت مسيرة هذا الرجل موضوع أطروحة الدكتوراه التي كنت قدمتها في رحاب كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس سنة 2009. كما كنت أنجزت كتيبا عن محمود الماطري وأصدره المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية ضمن سلسلة «مناضل وأثره» سنة 2009». وتضيف في السياق ذاته: «أضحى من الضروري اليوم بلورة قراءة جديدة لحياة الدكتور محمود الماطري بوصفه شخصية تونسية مؤسسة ودراسة مسيرته النضالية دراسة تاريخية مستحدثة عبر إعادة النظر في الأبعاد الذهنية والنفسية والمعرفية لشخصيته الانسانية في ترابطها بالالتزامات السياسية والنضالية الوطنية والاستعانة في ذلك بمنهج البيوغرافيا التاريخية للتعرّف على تجربة هذه الشخصية النموذجية. وإن مناسبة إحياء ذكرى وفاة الدكتور محمود الماطري هي فرصة للتعرف على جوانب غير معلومة عن حياة هذه الشخصية بوصفها شخصية محورية في تاريخ تونس المعاصر ولكن تعددت أسباب بقاء أدواره السياسية والطبية الانسانية مغمورة رغم أصالتها وقياديتها أمام تعظيم تلك الشخصية المتصارعة مع الحبيب بورقيبة. وقد استندت في إنجاز هذه الورقة على وثائق أصلية اعتمدت في جمعها بالأساس على أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية Quai d'Orsay وأرشيف بعض المقاطعات الفرنسية حيث درس الماطري وانطلق نشاطه السياسي والى الأرشيفات الرسمية المودعة بكل من المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية والأرشيف الوطني وخاصة الى الأرشيف الخاص بعائلة الماطري». المؤثرات والبدايات السياسية إن الدارس لشخصية محمود الماطري يتوقف على ميزة أساسية وهي غلبة الجانب الانساني الذي أثر حتما في خصوصيات التزاماته السياسية الفعلية، فقد تكونت شخصية محمود الماطري «الانسانية»، وفق تمشي زمني تأثر عبره بمختلف المؤثرات النفسية والفكرية التي طبعت شخصية سياسية مخصوصة تفرّدت في تأثرها المبكر بجملة من المميزات التي طبعت بنيته الذهنية والثقافية واستفادت من محيطها المباشر والقريب المبني على معطى الدين والطب والحرف والمجادلات السياسية التي تربى عليها في محيطه العائلي ليتجلى ذلك بوضوح من خلال سلوكه الاجتماعي والسياسي في ما بعد. الكتابة بالصحافة الفرنسية ومن هنا تفرد محمود الماطري بالتبكير الى الالتزام السياسي وسبق مجموعته (كل من الحبيب بورقيبة والطاهر صفر والبحري ڤيڤة..) الى الكتابة في الصحف الفرنسية، فنشر مقالاته بكل من «Le Populaire de Paris» و«Le Populaire de Bourgogne» وهو لا يزال طالبا للعلوم بأكاديمية ليون وعمره لم يتجاوز بعد ال19 سنة، وضمّن الماطري مقالاته مطالب شعبه المستعمر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فجاءت مقالاته معبرة عن درجة من الوعي السياسي وعن تميز وفرادة في الأسلوب والمنهج تدرج من خلاله من التعبير عن حق شعبه في المشاركة في مؤتمر السلم الى طرح قضايا مواطنيه الاقتصادية والاجتماعية. وكان طرحه طرحا عقلانيا عكس شخصية علمية لجأت الى الاقناع والمحاججة بالعودة الى الاحصائيات والأرقام التي وظفها ليدلل على قصور «المدنية» والحضارة الفرنسية في الرقي بشعبه، ولينتقد بطريقة الاقناع والمحاججة مقولات الاستعمار «التقدمية». ونجح بذلك محمود الماطري مبكرا في نشر مقالاته على أعمدة أشهر الصحف الفرنسية، وتوصل رغم حصار المراقبة وبفضل ما تميّز به من مواصفات الصحفي «الملتزم»، الى إبلاغ صوته وطرح مطالب مواطنيه على القائمين على مؤتمر السلم المنعقد آنذاك بباريس. و«استتب» الأمر بذلك لمحمود الماطري على المستوى الصحفي فضمن لمقالاته أن تنزل مجاورة لمقالات أناتول فرانس وماكسيم غوركي ورومان رولان.. وهو الشاب الذي لم يتخطّ بعد سن العشرين من عمره. التجربة السياسية بأحزاب اليسار الفرنسي بعد أن تأكد محمود الماطري من بلوغ صدى مطالبه التي أوردها في مقالاته الصحفية الى القائمين على الأمر طوّر من أسلوبه السياسي واتجه الى التزام سياسي معلن وصريح، فانخرط فعليا في أحزاب اليسار الفرنسي التي عرفت آنذاك بتبني المواقف الداعمة للمستعمرات والمساندة للوطنيين. وتنزلت عضوية الماطري بالحزبين الشيوعي والاشتراكي في أوج إشعاعهما السياسي، وعاصر بذلك أهم تحولات الفكر التقدمي بفرنسا وحاول من خلال عضويته النشيطة بالحزب الاشتراكي الفرنسي أن يشارك في اجتماعات الشبيبة الاشتراكية والكتابة المنتظمة بالصحف وربما الحضور في مؤتمراتها الحاسمة، ليبلغ صوته ومطالب شعبه. ونجح في مصادقة أعلام اليسار التقدمي آنذاك من أمثال ألبار اينشتاين ورومان رولان.. فكسب ودّهم وتعلّم عليهم أسلوب النضال الجماهيري والالتزام بالقضايا المصيرية لوطنه المستعمر ومواطنيه المستعمرين. تكوّن الوعي السياسي تكوّن لدى الماطري وهو لا يزال طالبا للعلوم والطب وعي سياسي مرموق وتعلم مبادئ الالتزام السياسي بالتوازي مع تعلّم منطق الرياضيات والطب، فتدعّم لديه ذاك الشعور الوطني الذي تعلمه على اخوته وعمه. حاول الدكتور محمود الماطري أن يَسم نشاطه السياسي بسمة المنطق العلمي الذي توجه لفرنسا لدراسته وأن يتسلح بمبادئ العقلانية والديمقراطية على الطريقة الفرنسية، فتقرّب من ساستها وأخذ منهم وتعلم عنهم مناهج الالتزام والعمل النضالي، فكان التزامه السياسي وهو طالب التزاما ينمّ عن وعي وعن طريقة تفكير اتّسمت منذ البداية بالاتّزان والعقلانية وبسمة إنسانية صاحبته الى آخر مشواره السياسي. ومثل بذلك محمود الماطري شخصية «نموذجية» ضمن مجموعته لكونه تفرد في في ثقافته الشخصية وتجاربه السياسية المبكرة التي تأثرت حتما بالمحيط العائلي وكذلك بنوعية التكون العلمي. محمود الماطري أحد الأطباء الأوائل بتونس كان الطب صفته الأساسية فقد تحصل محمود الماطري على شهادة الدكتوراه في الطب من كلية الطب بباريس في شهر جويلية 1926. ولم ينس أن يهدي عمله الى أخيه حفيز الماطري «رمز العطف الصادق»، وأخيه علي الماطري الذي كفله ورعاه وفي إهداء أخير يذكر الماطري. ويدل حرص الماطري على ذكر كل عناصر محيطه الدراسي والعائلي وإهداء أطروحته لكل معارفه، على رقّة مشاعره ورهافة أحاسيسه. والأهم من ذلك محور وموضوع أطروحته إذ محمود الماطري يطرح طرحا علميا موضوعا طريفا وإنسانيا، وتساءل بالأساس عن نوعية تضايق ومعاناة الجنين أثناء آلام المخاض والوضع. والأكيد أن مضامين أطروحة الماطري تدل عن جوانب في شخصيته الانسانية وتؤكد شدة تأثره بمعطيات طفولة خاصة وتنبأ مسبقا بنوعية شخصيته السياسية الانسانية بالأساس. وعاد الدكتور محمود الماطري الى تونس في شهر نوفمبر 1926 ليسجل الطبيب عدد عشرة بهيئة الأطباء التونسيين. ولاحظنا أنه انطلق في سرد مذكراته بتاريخ عودته الى تونس، إذ بدأ بالحديث عن محمود الماطري الطبيب ولا يذكر ما سبق ذلك من ممارسة للسياسة أو كتابات بالصحف. وربما يدل ذلك على أن الماطري كان يعتبر نفسه طبيبا بالأساس. وبالفعل فإن عودة الماطري في كل مرة الى الاضطلاع بمهامه الطبية وإعراضه بين الحين والآخر عن السياسة دلالة قاطعة على مكانة الطب في مسيرته النضالية والوطنية ودعم صفته العلمية بصداقات وطيدة جمعته مع أعلام الطب بتونس على غرار شارل نيكول و«أرناست كونساي». وكان الدكتور محمود الماطري طبيبا ملتزما وأكد دوما على تخصّصه العلمي، إذ كان «وضعيا» بالأساس ارتكز في منهجه الايبستيمولوجي على التجربة البراغماتية للإدراك والتواصل. واعتبر أن المقولات الايديولوجية والدعاية السياسية ليست المنهج الملائم للوصول الى الحقائق البشرية. ولا غرابة في ذلك، فهو الطبيب أصلا والعلوم التجريبية كانت مصدرا أساسيا لرؤاه العامة بما فيها الاجتماعية والانسانية. ومثل بذلك الدكتور محمود الماطري شخصية وطنية «نموذجية» جمعت بين الأبعاد العلمية والسياسية، ومن هنا كانت مواصلة الدكتور محمود الماطري للالتزام السياسي بعد عودته الى تونس التزاما ينمّ عن وعي وعن طريقة تفكير اتسمت منذ البداية بالاتزان والعقلانية وبسمة إنسانية صاحبته الى آخر مشواره السياسي. الحلقة القادمة: دور الماطري في الحزب ونضاله من أجل الاستقلال. مذكرات المناضل الحبيب بن كريم كيف عامل الألمان التونسيين خلال الحرب العالمية الثانية ؟ العديد مازال يتذكر فترة تواجد ألمانيا ببلادنا أثناء الحرب العالمية الثانية التي شهدت صراعا بين بلدان المحور والحلفاء لكن قد يكون غاب عنهم الطريقة التي عامل بها الألمان أهالي بلادنا آنذاك. ما أتذكره أن الألمان كان لهم شعور خاص إزاء التونسيين وهو ما تولدت عنه علاقة ودّ بين الطرفين وهاكم الدليل: عند مرور الجيوش الألمانية ببلادنا مغادرة التراب التونسي بعد الهزيمة التي منيت بها ألمانيا، لم يترددوا في تسليم المواطنين التونسيين بعض الحلويات والأشياء الثمينة وكانوا في نفس الوقت يعمدون الى قطع أعمدة الأسلاك الهاتفية بسرعة كبيرة من أجل فكّ التواصل بين جنود جيوش المحور في ما بينهم ولعل ما شدّ انتباهي وقتها أن أحد الأطباء المرموقين برتبة عقيد لم يتردد في تقديم العلاج لوالدي رحمه اللّه وهو مغمى عليه ولما أفاق من غفوته منحه سيارته للتنقل بها لقضاء مآربه حتى لا يلفت انتباه السلط الفرنسية ولا بد من القول أن هذه الحركة التي قام بها والدي رحمه اللّه جلبت له المتاعب حيث حوكم سنة 1945 من طرف السلط الفرنسية بتهمة التواطؤ مع جيوش المحور والحال أن ذلك غير صحيح بالمرة وقد أثبتت المحاكمة التي دامت زهاء 11 ساعة براءته وقد رافع عنه المغفور لهم الهادي نويرة وعمار الدخلاوي وحسن القلاتي. وقد أردت من خلال هذا المقال المقارنة بين معاملة الألمان لأبنائنا وما تعمد إليه جيوش بلدان أخرى حاليا كلما غادرت بلدا محتلا.