في تونس، ظلّت اللغة الفرنسية لعقود طويلة مهيمنة على الحياة العامة والمؤسسات والتعليم العالي. غير أنّ تحولًا عميقًا بات يفرض نفسه اليوم: فالشباب التونسي يُبدي اهتمامًا متزايدًا باللغة الإنجليزية، التي أصبحت لغة العلوم والتكنولوجيا والتجارة العالمية. تشير أحدث المعطيات إلى أنّ نحو 63% من التونسيين ما زالوا يتقنون الفرنسية، لكن الأجيال الجديدة، وخاصة المرتبطة بمواقع التواصل الاجتماعي ومنصات البث التدفقي، تستعمل الإنجليزية أكثر في حياتها اليومية. فالمسلسلات والتطبيقات والألعاب الإلكترونية والمحتويات التعليمية عبر الإنترنت عززت هذا الانفتاح الطبيعي على لغة شكسبير. الإنجليزية، لغة الفرص تؤكد الدراسات هذا التحول: إذ أظهرت دراسة أُنجزت سنة 2024 وجود ارتباط قوي (r = 0,773) بين دافعية الشباب وموقفهم الإيجابي من تعلّم الإنجليزية، التي يُنظر إليها على نطاق واسع كأداة للنجاح الأكاديمي والمهني. وفي التعليم العالي، تبدو الصورة جلية. فقد كانت تونس بزنس سكول، التي تأسست سنة 2010، السباقة إلى اعتماد برامج كاملة بالإنجليزية. ولحقتها مؤسسات أخرى: كلية الطب بسوسة (2019-2020) وكلية طب الأسنان بالمنستير (2022) تقدمان اليوم تكوينات بالإنجليزية. ويربط الطلبة هذه اللغة بالانفتاح الدولي والمسارات العلمية والابتكار التكنولوجي، في حين تبقى الفرنسية مرتبطة بمجالات تقليدية مثل الطب والقانون والثقافة. تحول ملموس في المجتمع في الشارع ووسائل الإعلام وحتى في اللهجة التونسية، تتزايد المفردات المستعارة من الإنجليزية. كما أنّ العديد من الشركات باتت تفضّل التواصل الثنائي بالعربية والإنجليزية، على حساب الفرنسية. ويُنظر إلى الإنجليزية، بالنسبة لكثير من الشباب، على أنها لغة المستقبل، لغة تفتح أبواب العالم المترابط. أما الفرنسية، فتبقى مرتبطة في المخيال العام بالماضي الاستعماري أو بفئة نخبوية تقليدية، مما يجعلها أقل جاذبية لجيل يبحث عن الحداثة والانفتاح. ما انعكاسات ذلك على فرنسا؟ يتجاوز هذا التحول البعد الأكاديمي ليعكس إعادة تشكيل جيوسياسية وثقافية. ففرنسا، التي طالما اعتُبرت قوة نفوذ لغوي في تونس، تواجه اليوم تداعيات متشعبة: – فقدان النفوذ الثقافي: إذ تراجع الفرنسية، التي كانت أداة قوة ناعمة، لصالح الإنجليزية يقلل من تأثير الإعلام والمعاهد الثقافية والجامعات الفرانكوفونية. – إضعاف الحضور الاقتصادي: فالشركات الفرنسية الناشطة في تونس ستكون مضطرة للتكيّف مع بيئة تعتمد الإنجليزية لغة أساسية في مجالات الأعمال والتكنولوجيا الحديثة. – إعادة تعريف العلاقات الثنائية: فمع ميل تونس أكثر نحو الإنجليزية، تتعزز شراكاتها مع الفضاء الأنغلوساكسوني، مما يقلل من مركزية باريس في دبلوماسيتها وتعاونها الدولي. خيار براغماتي يعيد رسم المشهد هكذا يؤكد الشباب التونسي توجّهًا واضحًا: الإنجليزية تحل تدريجيًا محل الفرنسية باعتبارها لغة المستقبل. إنه خيار براغماتي تغذيه الفرص الأكاديمية والمهنية والتكنولوجية، يعيد رسم المشهد التعليمي التونسي ويغيّر في الوقت نفسه موازين التأثير الثقافي. وبالنسبة لفرنسا، فإن تراجع الفرنسية في تونس يمثل تحديًا استراتيجيًا كبيرًا، في منطقة كان إرثها اللغوي والثقافي يُعتبر، حتى وقت قريب، أمرًا مسلّمًا به. تعليقات