القرآن الكريم ليس كتابًا في العلوم الطبيعية، ومع ذلك فإن العديد من القراء — مؤمنين وغير مؤمنين — يرون فيه تقاطعات مدهشة مع معارف أثبتها الطب والعلوم الحديثة. يهدف هذا الملف إلى غايتين أساسيتين: مخاطبة العقل من خلال التمييز بين ما تؤيده الأدلة العلمية الراسخة وما يبقى في دائرة التشبيه أو التأويل، ومخاطبة القلب عبر إظهار كيف أن أخلاق الحياة التي دعا إليها القرآن منذ قرون تتوافق مع مبادئ الصحة والعقل السليم. الرضاعة الطبيعية الممتدة (حتى سنتين) قال تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ (البقرة 233) ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ (لقمان 14) توصي منظمة الصحة العالمية واليونيسف بالرضاعة الطبيعية الحصرية لمدة ستة أشهر، مع مواصلتها حتى بلوغ الطفل سنتين وما بعد، مع تنويع التغذية. فوائدها مثبتة للطفل في تعزيز المناعة وتقليل العدوى، وللأم في الحد من مخاطر الأيض وبعض السرطانات. النظافة والطهارة والوقاية من العدوى قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ (المائدة 6) ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة 222) تُعدّ نظافة اليدين والجسد من ركائز الوقاية من الأمراض مثل الإسهال والفيروسات التنفسية والعدوى الجلدية. والوضوء المتكرر يجعل النظافة عادة يومية متأصلة في نمط الحياة. الاعتدال في الأكل ومحاربة الإفراط قال تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ (الأعراف 31) الإفراط في السعرات الحرارية والطعام عالي الكثافة يؤدي إلى السمنة، والسكري من النوع الثاني، وارتفاع الضغط، وأمراض القلب. الاعتدال والتوازن الغذائي مبدآن أساسيان في الوقاية والحفاظ على الصحة. التحذير من المسكرات قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ (البقرة 219) ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ (المائدة 90) يؤكد الطب الحديث أن الكحول يزيد من خطر السرطانات، وأمراض الكبد، واضطرابات النفس، والحوادث. والامتناع أو التقليل منه يتقاطع مع مفاهيم الصحة العامة والوقاية. العسل واستخداماته العلاجية قال تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ (النحل 69) للعسل خصائص مطهّرة ومساعدة على التئام الجروح، كما يخفف السعال الليلي لدى الأطفال فوق سنة واحدة. لكنه ليس علاجًا شاملًا، بل له استخدامات محددة ومعروفة طبيًا. توازن الليل والنهار والصحة قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ (النبأ 10-11) النوم المنتظم والكافي يحمي من اضطرابات الذاكرة والأيض وأمراض القلب، بينما يؤدي العمل الليلي المزمن إلى ارتفاع بعض المخاطر الصحية. حاجز بين البحرين قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ (الرحمن 19-20) ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا﴾ (الفرقان 53) تؤكد علوم المحيطات وجود مناطق فاصلة بين المياه العذبة والمالحة ذات الملوحة والكثافة المختلفة، حيث يختلط الماء جزئيًا مع بقاء فاصل واضح يمنع الاندماج الكامل. مراحل تطور الجنين قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ (المؤمنون 12-14) تؤكد الدراسات الحديثة المراحل المتتابعة لتطور الجنين كما وردت في النص القرآني بدقة علمية لافتة، قبل أن تُكتشف هذه الحقائق في العصر الحديث. نحن نوسع السماء قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (الذاريات 47) يثبت علم الفلك الحديث أن الكون في حالة توسّع مستمر، وهي حقيقة علمية أكدتها النماذج الكونية المعاصرة. الجبال كالأوتاد قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ (النبأ 6-7) تُظهر الدراسات الجيولوجية أن للجبال جذورًا عميقة تمتد داخل القشرة الأرضية، مما يحقق التوازن البنيوي للأرض. المنهج: وضوح وتوازن الالتقاءات الحقيقية بين القرآن والعلم تتجلى في مفاهيم مثل النظافة، الرضاعة، الاعتدال، تجنّب المسكرات، تنظيم النوم، والاستخدام العلاجي للعسل. فالقرآن لا يهدف إلى تقديم نظريات علمية، بل إلى توجيه الإنسان نحو المعنى والهداية. وعندما تتقاطع إشاراته مع اكتشافات العلم، فإن ذلك يعمّق دلالته ولا يحصرها. إن كثيرًا من منتقدي الإسلام يعتمدون على روايات سطحية أو اقتباسات مبتورة، بينما من يقرأ القرآن بتدبّر يجد فيه انسجامًا داخليًا ومنظومة أخلاقية متكاملة تخاطب الإنسان منذ أربعة عشر قرنًا، وتلتقي اليوم مع حقائق علمية معاصرة. قوة الإسلام، كما يقول المؤمنون، أن معجزته في متناول الإنسان: القرآن الكريم، نصّ كلما قُرئ وتأمّل، كشف مع تطور العلوم عن دلالات جديدة — لا لتقديس العلم، بل لتأكيد أن السعي إلى الحقيقة يخاطب في آنٍ واحد القلب والعقل. تعليقات