عندما تترسخ فكرة في ذهن الرئيس دونالد ترامب، فإنها لا تغادره أبداً، سواء كانت تحاملاً أو خبراً زائفاً أو تضليلاً متعمداً. فالفكرة الثابتة في ذهن الجمهوري حول ما يسميه «اضطهاد ونهب وقتل البيض في جنوب إفريقيا» – وهي رواية خاطئة تماماً – ستكون لها تداعيات جسيمة على سياسات اللجوء في الولاياتالمتحدة. إذ قررت إدارة ترامب خفض عدد اللاجئين المقبولين بشكل حاد، على أن يحلّ محلهم مواطنون بيض من جنوب إفريقيا. أُعلن عن القرار الخميس 30 أكتوبر، في خطوة تمثل تحولاً جذرياً في سياسة قائمة منذ عقود. فقد حدّدت إدارة ترامب عدد اللاجئين الجدد ب 7500 فقط هذا العام، مقابل نحو 100 ألف سنوياً في عهد جو بايدن. و بذلك، لن تستقبل أمريكا سوى عدد محدود من اللاجئين، معظمهم من الأفريكانر، أي سلالة المستوطنين الأوروبيين الأوائل في جنوب إفريقيا. البيت الأبيض يضفي الطابع الرسمي على سياسة «اللجوء الانتقائي» وجاء في وثيقة رسمية صادرة عن البيت الأبيض أن «عدد القبولات سيُوزَّع أساساً بين الأفريكانر من جنوب إفريقيا (...) وغيرهم من ضحايا التمييز غير المشروع أو غير العادل في بلدانهم الأصلية». و سيُعلَن النص رسمياً الجمعة 31 أكتوبر في السجل الفيدرالي. هذه الخطوة هي نتيجة مباشرة للأفكار المسبقة التي بثها الملياردير إيلون ماسك – وهو بالمناسبة من أصل جنوب إفريقي – في ذهن «صديقه» ترامب. و بعد فترة من العداء العلني بين الرجلين، حصلت مصالحة محدودة، إذ يبدو أن ماسك هو من اضطر للتراجع أمام نفوذ الرئيس الجمهوري. غير أن أفكار «الاضطهاد الأبيض» بقيت راسخة في عقل ترامب. ففي 7 فيفري 2025، وقّع ترامب مرسوماً يزعم أن البيض في جنوب إفريقيا يتعرضون للنهب والتمييز، ومنحهم على هذا الأساس صفة اللاجئين السياسيين. و في ماي الماضي، استقبلت الولاياتالمتحدة نحو خمسين من هؤلاء «اللاجئين»، ما أثار غضب حكومة بريتوريا التي ندّدت بحجج واشنطن «الواهية». «إبادة البيض»... فبركة تخدم أجندة ترامب وصل الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا إلى واشنطن في ماي 2025 لمحاولة تصحيح الصورة أمام ترامب، الذي عرض عليه صوراً وفيديوهات مفبركة وخارجة عن السياق لإقناعه بما يسميه «إبادة البيض». لكن دون جدوى. فالرئيس الأمريكي بقي على موقفه، بل وجد في ذلك ذريعة تخدم أجندته السياسية. يمكنه الآن أن يفاخر بأنه يستقبل عدداً أقل من الأفارقة والعرب وأبناء أمريكا اللاتينية، مقابل «إيواء» ما يسميهم البيض المضطهدين من جنوب إفريقيا. منذ عودته إلى البيت الأبيض في جانفي 2025، أغلق ترامب صنابير المساعدات الخارجية، وشدّد سياسات الهجرة، ووسّع عمليات ترحيل المهاجرين غير النظاميين. أما اليوم، فقد انتقل إلى تغيير وجهة اللجوء نحو معايير عنصرية صريحة. ذاكرة الفصل العنصري تطارد جنوب إفريقيا يشكل الأفريكانر الغالبية بين البيض في جنوب إفريقيا، وهم من أصل الأقلية التي حكمت البلاد خلال نظام الفصل العنصري. فمنذ 1948 وحتى أوائل التسعينات، مارسوا تمييزاً عنصرياً ممنهجاً ضد الأغلبية السوداء، وحرموا ملايين المواطنين من أبسط حقوقهم. و رغم أن البيض لا يتجاوزون 7% من السكان، إلا أنهم كانوا يملكون 72% من الأراضي الزراعية عام 2017، وفق إحصاءات حكومية. هذا التفاوت ناتج عن سياسات نزع الأراضي التي مورست ضد السكان الأصليين خلال الاستعمار واستمرت خلال الأبارتيد. و منذ 1994، أقرّت الحكومات المتعاقبة قوانين تهدف إلى تصحيح هذا الظلم التاريخي، انسجاماً مع مسار المصالحة الوطنية الذي قاده نيلسون مانديلا بعد خروجه من السجن عام 1991، دون أن يدعو يوماً إلى الانتقام أو الثأر، شأنه شأن جميع خلفائه. موجة انتقادات واسعة من المنظمات الحقوقية قرار ترامب أثار عاصفة من الانتقادات من جانب المنظمات الحقوقية والجمعيات المدافعة عن اللاجئين. فمنذ 1980، استقبلت الولاياتالمتحدة أكثر من مليوني لاجئ هاربين من الاضطهاد، وفق ما أوضح آرون رايخلين-ميلنيك من المجلس الأمريكي للهجرة، الذي كتب على منصة X: «من الآن فصاعداً، ستتحوّل سياسة اللجوء إلى بوابة للهجرة المخصصة للبيض». بدورها، أعربت كريش أومارا فيغناراجا، مديرة منظمة Global Refuge، عن غضبها من تقليص برنامج استقبال اللاجئين، معتبرة أنه «طوق النجاة الوحيد للعائلات الفارّة من الحروب والاضطهاد والقمع». وأضافت في بيان: «في وقتٍ تمر فيه دول مثل أفغانستان، فنزويلا، السودان وغيرها بأزمات عميقة، فإن تركيز القبول على مجموعة واحدة ينسف هدف البرنامج ومصداقيته». «هذه هي أمريكا»، كما قال ترامب – أو بالأحرى، هذه هي أمريكا على صورته، ويريد لها أن تبقى كذلك حتى بعد انتهاء ولايته الثانية والأخيرة، نظرياً على الأقل. تعليقات