منذ حلقات التعليم الأولى في الكتاتيب إلى النقاشات المعاصرة حول علاقة العلم بالإيمان، تتكرّر عبارة محورية في الوعي الإسلامي: الإنسان خُلق من طين. بين من يراها مجرّد صورة رمزية، ومن يعتبرها وصفًا دقيقًا ينسجم — بشكل لافت — مع ما تكشفه علوم الأرض والبيولوجيا الحديثة، ظلّ هذا السؤال قائمًا: هل هناك تقاطع حقيقي بين النص القرآني والمعرفة العلمية حول المادة التي يتكوّن منها الإنسان؟ هذا المقال يقدّم قراءة هادئة وموثّقة لهذا التقاطع، بالعودة إلى الآيات القرآنية وإلى ما توصّلت إليه الأبحاث العلمية حول تكوين الجسد البشري. القرآن وصورة الإنسان المخلوق من الأرض يستخدم القرآن عدّة ألفاظ تصف أصل الإنسان: * طِين: تراب مخلوط بالماء * تُرَاب: مادة جافة، غبار الأرض * صَلْصَال: طين يابس كالفخّار * حَمَإٍ مَسْنُون: طين أسود متغيّر، قابل للتشكّل هذه التعابير المتعدّدة تصبّ جميعها في فكرة مركزية: الإنسان جزء من الأرض، مكوَّن من مادتها، ومعتمد عليها في حياته وغذائه ووجوده. ويؤكّد المفسّرون أنّ هذه الأوصاف تتعلّق بخلق آدم، لكنها تشير أيضًا إلى حقيقة مستمرّة: جسم الإنسان لا يمكن أن يتشكّل إلا من عناصر تأتي — في نهاية المطاف — من الأرض. أبرز الآيات التي تتحدث عن أصل الإنسان الترابي ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ – المؤمنون 12 يصف القرآن "السلالة من طين" بأنها مستخلص أرضي هو أصل تكوين الإنسان. ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾ – السجدة 7 تأكيد مباشر على البداية المادّية لهذا الخلق. ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا﴾ – الأنعام 2 ربط بين النشأة الترابية وبين أجل الإنسان ومساره الحياتي. ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ – الرحمن 14 صورة قوية تجسّد الإنسان ككيان مكوّن من مادة جافة أصلها الطين. ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ﴾ – طه 55 يختصر هذا الآية الثلاثية الوجودية: الخلق من الأرض — العودة إليها — ثم الخروج منها من جديد. ماذا تقول العلوم الحديثة عن المادة المكوِّنة لجسد الإنسان؟ عندما ننتقل إلى العلم، نجد صورة متناسقة بشكل مدهش مع ما تطرحه الآيات: * 99% من كتلة جسم الإنسان تتكوّن من عناصر رئيسية: الأكسجين، الكربون، الهيدروجين، النيتروجين، الكالسيوم، الفوسفور. * بقيّة العناصر التي لا غنى عنها للصحة (البوتاسيوم، الصوديوم، الحديد، المغنيسيوم، الزنك...) هي أيضًا من المعادن الموجودة في القشرة الأرضية. هذه العناصر: * تتحرّك من الصخور إلى التربة، * تمتصّها النباتات، * ثم تنتقل عبر السلسلة الغذائية إلى الحيوانات... ثم إلى الإنسان. وبذلك، يصبح الجنين في رحم أمّه مكوَّنًا ممّا تناولته الأم من غذاء... وكل غذاء مصدره الأرض: من القمح والخضروات والفواكه، إلى اللحوم والألبان التي تعتمد بدورها على نباتاتٍ نبتت في التربة. من التربة... إلى الطعام... إلى الخلايا البشرية عندما نقارب هذه الحقيقة بمضمون الآيات، يتشكّل أمامنا تسلسل منطقي: 1. العناصر من الأرض: الصخور والتربة مصدر المعادن. 2. النبات يستخلص المعادن: الجذور تمتصّ ما في الأرض. 3. الغذاء يصل الإنسان: مباشرةً من النبات، أو عبر الحيوان. 4. الجنين يتشكّل من غذاء الأم: الذي مصدره آخر المطاف هو الأرض. 5. العودة إلى التراب: حيث يتحلّل الجسد ويعود إلى أصله. الاختصاصيون يلخّصون ذلك بأن الإنسان لا يصنع المعادن الأساسية بذاته... بل يحصل عليها كلّها من الأرض. نقطة الالتقاء بين العلم والقرآن بجمع الدليلين — النصّي والعلمي — يظهر بوضوح: * القرآن يربط أصل الإنسان مادّياً بالأرض * والعلم يشرح كيف تمرّ عناصر الأرض عبر السلسلة الغذائية لتكوّن خلايانا وهكذا، يأخذ وصف القرآن «منها خلقناكم» بُعدًا مزدوجًا: * مادّيًا: أصلنا واحد مع كل ما في الأرض. * روحانيًا: دعوة إلى التواضع وإدراك هشاشتنا وارتباطنا بالخلق. وبينما يبدو النقاش حول "العلم والدين" محتدمًا اليوم، يقدّم هذا الموضوع مثالًا على حوار هادئ بين المعرفة والعقيدة؛ حوار يعيد الإنسان إلى مركزه الحقيقي: كائنٌ من تراب... لكنه مكلَّف بالمعنى والمسؤولية. اشترك في النشرة الإخبارية اليومية لتونس الرقمية: أخبار، تحليلات، اقتصاد، تكنولوجيا، مجتمع، ومعلومات عملية. مجانية، واضحة، دون رسائل مزعجة. كل صباح. يرجى ترك هذا الحقل فارغا تحقّق من صندوق بريدك الإلكتروني لتأكيد اشتراكك. تعليقات