اليسار، اليسار «الحقيقي»، ذاك الذي يرعب الماكروونية، و اليمين – الجمهوريون – و الأوساط الاقتصادية، والمستثمرون، وغيرهم. حين كنا نقول لكم إنّ زعيم الحزب الاشتراكي (PS)، أوليفييه فور، هو من يقود البلاد فعليًا، بفضل إعادة تشكيل موازين القوى داخل الجمعية الوطنية. في الواقع، لا شيء سحري في ذلك؛ فالرئيس إيمانويل ماكرون هو من قذف بالمشهد السياسي إلى هذا الغليان بيديه، بعد قرار حلّ البرلمان والانتخابات التشريعية الكارثية لأغلبيته. منذ ذلك الحين، باتت الأرض تهتز تحت قدمي رئيس الدولة، وانتقل زمام السلطة التنفيذية إلى يد أخرى... في هذه الحالة، كان الصولجان بين يدي فريق جان-لوك ميلنشون، «فرنسا الأبية» (LFI)، مساء أمس الخميس 27 نوفمبر، في ساعة متأخرة. فقد صوّت البرلمان، بعد نقاش طويل وحاد، في قراءة أولى على مقترح قانون تقدّمت به LFI لتأميم شركة «أرسيلور ميتال فرنسا». و بالنسبة لليسار المتطرف، فإنّ هذا هو الردّ على الصعوبات الهائلة التي تواجهها صناعة الصلب الفرنسية. و هكذا تبدأ المنحدرات الزلقة نحو التأميم، الكابوس المطلق للمستثمرين، وخاصة الأجانب. التأميم تمامًا كما يُفعل في روسيا، وكوبا، وفنزويلا... باختصار، كما في كلّ الجمهوريات الشيوعية والاشتراكية التي «تحترم نفسها». لا نتخيل إلا تعابير وجه الرئيس ماكرون حين سمع بذلك، وهو الذي يسعى بكل وسعه لجذب كبار المستثمرين إلى فرنسا، وعلى رأسهم أغناهم جميعًا: إيلون ماسك... لكننا نودّ خصوصًا رؤية تعابير وجه المساهم الأكبر في «أرسيلور ميتال»، الملياردير الهندي لاكشمي ميتال. رجل الأعمال شدّ الحزام منتظرًا ضمانات من فرنسا، وخاصة من الاتحاد الأوروبي. وكانت تلك شرطه ليضخ استثمارات إضافية – تصل إلى 1.8 مليار يورو – في هذا العمود الفقري لصناعة الصلب. و إلى أن تأتي الضمانات، اتجه إلى الولاياتالمتحدة للإنتاج هناك، خوفًا من الرسوم الجمركية التي يشهرها الرئيس دونالد ترامب. ميتال كان ينتظر ضمانات أوروبية، فإذا به يتلقى الصدمات. أقلّ ما يمكن قوله إنّ هذه القضية دعاية سيئة جدًا لشعار «اختر فرنسا» الذي يروّج له ماكرون. لكن مهندسي هذا التحوّل البرلماني، نواب LFI، بعيدون تمامًا عن هذه الهواجس، وهم يحتفلون على منصة «إكس»... نواب «فرنسا الأبية»، على لسان زعيمتهم ماتيلد بانو، وصفوا ما حدث بأنه «انتصار تاريخي». أمّا ميلنشون فيرى في هذا التصويت «صفحة من التاريخ تُكتب في الجمعية الوطنية». و قالت كليمونس غيتي إنّ «النجاح كبير»، رغم «عرقلة اليمين المتطرف ومعارضة الماكروونية». و على الورق، هو بالفعل انتصار. فرغم اعتراضات التجمع الوطني (RN)، الذي اتّهم LFI ب«بيع أوهام» للعمال، إلّا أنّ كتلة مارين لوبان امتنعت عن التصويت في النهاية. أما الاشتراكيون فقد تردّدوا قليلًا، مفضّلين «وضع الشركة تحت الوصاية» بدل التأميم، لكنهم صوّتوا في النهاية. والأمر نفسه بالنسبة للخضر والشيوعيين. و في المحصلة، تمّ تمرير النص ب127 صوتًا مقابل 41، مستفيدًا من تراجع المعسكر الرئاسي. ويبقى الآن عبور جبل مجلس الشيوخ، وهي قصة أخرى تمامًا، نظرًا لهيمنة اليمين والوسط على الغرفة العليا. وقال النائب عن «أفق» (Horizons)، سيلفان بيريّوس، إنّ القانون «لن يُطبّق». وأضاف النائب عن RN، جان-فيليب تانغي، إنّ الشيوخ «لن يصوّتوا أبدًا على قانونكم، ولن يكون هناك تأميم قبل الرئاسيات». مع ذلك، لا تفقد مقرّرة LFI، أورورلي تروفي، ثقتها: «لا أرى ما الذي سيمنعنا من النجاح (...) كلما تقدّمنا، اتّضح أكثر أنّ تأميم أرسيلور ميتال ضرورة سياسية». وينصّ مشروعها على أنّ «شركة أرسيلور ميتال فرنسا مؤمّمة»، مع آلية لتقدير قيمتها (ويُقدّر كلفة التأميم ب3 مليارات يورو). بالنسبة للمتمردين، هو «الحل الوحيد» لإنقاذ قطاع الصلب و15 ألف وظيفة مباشرة، تقول تروفي، مؤكدة أن الهدف أيضًا هو إسقاط مخطط التسريح المعلن في أفريل الماضي، وإعادة تشغيل مشروع إزالة الكربون في الأفران العالية. الحكومة، كما كان متوقعًا، غاضبة. وزير الصناعة، سيباستيان مارتان، يؤكّد أن القانون «سيُضعف الوظائف بدل حمايتها». ويرى أن الحل «في بروكسيل»، مذكّرًا بأن باريس حصلت على ضمانات بخطة أوروبية عاجلة... و يتعلق الأمر أساسًا بتأمين القطاع في مواجهة الصين، عبر فرض رسوم جمركية بنسبة 50% عند تجاوز سقف معيّن في الواردات. سياسة الرئيس ترامب الخشنة أثمرت حتى في أوروبا، رغم أنّ القارة هي أولى ضحايا العقيدة الأمريكية الجديدة. وعلى فرنسا أن تشقّ طريقها داخل هذا المتاهة، بدءًا من قصة التأميم التي ستُكتب في مجلس الشيوخ... أو لن تُكتب. اشترك في النشرة الإخبارية اليومية لتونس الرقمية: أخبار، تحليلات، اقتصاد، تكنولوجيا، مجتمع، ومعلومات عملية. مجانية، واضحة، دون رسائل مزعجة. كل صباح. يرجى ترك هذا الحقل فارغا تحقّق من صندوق بريدك الإلكتروني لتأكيد اشتراكك. تعليقات