قطر هذا البلد الصغير في حجمه الجغرافي الكبير في موقعه الاستراتيجي والدولي لا يزال يفاجئ الخبراء والمراقبين بمواقفه وتحركاته في اكثر من مناسبة فقد كانت العاصمة القطرية الدوحة رمزا لكل المتناقضات السياسية واصول اللعبة الديبلوماسية ولغة المصالح التي لا تقف عند خطوط حمراء فهي تشرع اراضيها لاقامة القواعد العسكرية الامريكية التي كانت منطلقا لشن الحرب على العراق وتفتح ابوابها لاستقبال المسؤولين الاسرائيليين في نفس الوقت الذي تتعرض فيه غزة للحصار والتجويع والتقتيل ولكنها تفتح احضانها لاستقبال اجتماعات الدول المانحة من اجل البناء والمصالحة في العراق كما لاحتضان الفرقاء الفلسطينيين وتسعى الى مد الجسور المقطوعة بينهم واذا كانت قناة الجزيرةالقطرية قد تسببت في غضب السلطات الحاكمة في اكثرمن بلد عربي ولم تتردد في فتح منابرها امام المسؤولين الاسرائيليين فانها قد ساهمت في احيان كثيرة في تبليغ اصوات كثيرة مكتومة الى الراي العام العربي والدولي... والتناقضات لا تتوقف عند حد والاسبوع الماضي كانت قطر مرة اخرى على موعد مع الحدث عندما راهنت على جمع الفرقاء اللبنانيين بعد ان ضاقت بيروت ذرعا باختلافاتهم الطاحنة وانشقاقاتهم التي كادت تعيد رياح الحرب الاهلية على البلاد. ليس مهما ان تكون الدوحة حصلت على ضمانات او التزامات مسبقة من الفرقاء بالتوصل الى حل للازمة اللبنانية قبل الاجتماعات الماراتونية التي استمرت خمسة ايام بلياليها بل الاهم ان يكون لبنان قد استفاق وقد ازيح عنه شبح الحرب الاهلية الداهمة وان يستعيد اللبنانيون حياتهم الطبيعية بعد ان لازمتهم الكوابيس والاحلام المرعبة على مدى الاشهر الماضية من المجهول ...لقد حرصت قطر على جمع الفرقاء تحت سقف واحد وحول طاولة واحدة وهو ما لم يسبقها اليه غيرها خوف الفشل فاستحقت بذلك كل التنويه بعد ان تمكنت من كسر القيود ومهدت لتوافد المسؤولين من مختلف انحاء العالم لحضور احتفالات تنصيب الرئيس الجديد الذي تنتظره تحديات لا يستهان بها في المرحلة القادمة... لقد صاحبت اجتماعات الدوحة شكوك وتساؤلات كثيرة وهي مشروعة في كل الاحوال وستبقى تلك الشكوك قائمة قبل ان يتضح ما اذا كانت اتفاقات الدوحة مجرد مهدئ او مسكن مرحلي قبل ان يتبدد مفعوله وتعود اسباب الوجع الى البروز على السطح ذلك ان الغموض الذي رافق تلك الاجتماعات لم يختفى نهائيا وقد لا ينتهي ايضا قبل انقضاء بعض الوقت بما يمكن ان يساعد على استكشاف نوايا الفرقاء ونجاح الاختبار الذي تعرضوا له في مواجهة احد اعقد القضايا التي تتداخل فيها بشكل لا يخلو من الاثارة والغرابة الخيوط الداخلية بالارتباطات الخارجية... قد يكون من السابق لاوانه الحديث عن انتهاء جذورالازمة اللبنانية او كذلك الحديث عن انتصارنهائي لجهود الوساطة القطرية تحت مظلة الجامعة العربية وقد يكون من المبالغة ايضا اعتبار ان الازمة اللبنانية باتت من اخبار الماضي ولكن الاكيد ان الوساطة كان لها دورها على الاقل في تفادي المزيد من التعقيدات والمخاطر ولعل الوساطة التركية بين السوريين والاسرائيليين بدورها تاتي بالجديد في اتجاه وضع حد لاحتلال هضبة الجولان المستمر منذ اكثر من اربعة عقود وستكون الايام القادمة وحدها كفيلة بحمل الاجابات المطلوبة عن نتائج جهود الوساطات في الحالتين. صحيح ان جهود الوساطة القطرية ساعدت على ابعاد الاصبع عن الزناد ولكنه ليس في موقع بعيد او غير قادر عن موقع الخطر او عودة الانشقاق ولكن الواقع ايضا ان بعض المؤشرات التي شهدتها الساحة اللبنانية بمجرد انتفاض اجتماعات الدوحة قد تعكس صفحة جديدة يشتاق لها لبنان فقبل حتى عودة الفرقاء الى لبنان كانت بيروت تعود الى التنفس بشكل طبيعي وفيما كان حصار بيروت يرفع كانت الاسواق المالية اللبنانية تستعيد الحياة فيما كانت التوقعات تنبئ بانتعاش النشاط السياحي في بيروت الصيف المقبل وامال بعودة السياح الخليجيين الى البلد الذي كان يوصف بهونغ كونغ الشرق الاوسط وذلك بعد انتكاسة طويلة بسبب الحرب الاسرائيلية على لبنان ثم بسبب تطورات الازمة السياسية ولاشك ان انتخاب العميد سليمان لملء الفراغ السياسي في لبنان وعودة الحياة الى المؤسسات السياسية في لبنان يعد خطوة اولى باتجاه تفعيل اتفاق الدوحة فيما تبقى المرحلة القادمة حاسمة باتجاه تفعيل القرار الاهم بعدم العودة الى وضع الجمود السياسي واذا كانت الاختلافات في الاراء والمواقف ظاهرة صحية مطلوبة تفتقر لها الكثير من المجتمعات العربية التي يجمع بينها التوافق الظاهري في مختلف التوجهات السياسية فان الاختلاف في الراي لا يمكن ان يكون مرادفا للفتن والصراعات الطائفية ولا ايضا سبب لسيطرة طرف على الاخر اونفيه للاخر وقد لا نكشف سرا اذا اعتبرنا ان احد الاسباب الكامنة وراء اتفاقات الدوحة كان بالدرجة الاولى مرتبطا باستنزاف الفرقاء كل الاوراق التي بين ايديهم وبلوغهم مرحلة الاقتناع بانه لا بديل عن التفاوض وان الجلوس حول طاولة واحدة للحوار ليس ترفا ولا خيار او هو ما اعتبر نقطة لصالح الوساطة القطرية التي لو كانت سجلت في وقت سابق لانتهت الى ما انتهت اليه جولات الامين العام للجامعة العربية في لبنان. ولعل في تزامن انتخاب الرئيس اللبناني مع الذكرى الثامنة لانتصار المقاومة في الجنوب وما افرزته من واقع جديد لا يستهان به لدى الراي العام الاسرائيلي الذي شهد الانسحاب المذل والمهين لقوات الجيش الاسرائيلي الذي طالما وصف بالجيش الذي لا يقهر ما يمكن ان يشكل حافزا اضافيا لمختلف الفئات الشعبية والرسمية اللبنانية لتغليب المصلحة الوطنية العليا وضمان استمرارلغة الحوار والمصالحة التي تبقى الطريق الوحيد لسحب البساط امام كل المتربصين بامن ومصير لبنان وشعبه... الحديث عن لبنان لا يمكن ان يخلو من العواطف والمشاعر فلبنان يبقى اغنية عربية خالدة حفظت مقاطعها الاجيال المتعاقبة وتناقلت كنوزها الماثورة التي تغنت بها فيروز في اجماع عربي قلما يحدث فغنت جميعا اغنيتها الخالدة "بحبك يالبنان " الذي يحزن العالم لحزنه ويفرح لفرحه فهل تتوفر الارادة المطلوبة لانجاح اتفاقات الدوحة؟