عاجل/ التشكيلة المحتملة للترجي أمام صانداونز    حجز مخدرات وضبط مروّجيها بمحيط مؤسسات تربوية في هذه المناطق    جلسة بين وزارة الصناعة وشركة صينية لتعزيز استخراج الفسفاط    رسميا: زياد التلمساني يودع ترشحه لإنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم    رئيس جمعية القضاة يتّهم وزارة العدل بالتنكيل به    تايوان ترصد 21 طائرة عسكرية صينية حول الجزيرة    أداة ذكاء اصطناعي تحول صورة ومقطعا صوتيا ل"وجه ناطق" بتوقيع مايكروسوفت    الامارات: بن زايد يكرّم تونسية ساهمت في إنقاذ 8 اشخاص من حريق    تونس: "لم نتفاجئ من فشل مجلس الامن في إقرار عضوية فلسطين بالامم المتحدة"    اليوم غلق باب الترشحات لإنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم    خطير/ العالم الهولندي يحذّر من مشروع لحجب الشمس.. يدعمه بيل غيتس!!    القصرين: وفاة 4 أشخاص وإصابة 4 آخرين في إصطدام سيارة نقل ريفي بشاحنة    رئيس الإمارات يكرّم فتاة تونسية قامت بعمل بُطولي    بطولة إفريقيا للتنس: التونسيتان لميس حواص ونادين الحمروني تتوجان بلقب الزوجي    دراسة تكشف أصول "القهوة الصباحية".. كم عمرها؟    جندوبة: انطلاق بناء مدرسة اعدادية بجاء بالله طبرقة    يساهم ب 16% في الناتج المحلي: الاقتصاد الأزرق رافد حيوي للتنمية    قفصة : الاعدادية النموذجية تتحصل على أفضل عمل متكامل    عاجل/ إضراب مرتقب في قطاع المحروقات.. وهذا موعده    شملت شخصيات من تونس..انتهاء المرافعات في قضية "أوراق بنما"    جبنيانة: حجز 72 طنا من الأمونيتر    هيئة الدّفاع عن المعتقلين السّياسيّين: خيّام التركي محتجز قسريا وهذه خطواتنا القادمة    طقس السبت: رياح قوية والحرارة بين 18 و28 درجة    عاجل/ إتحاد الفلاحة: "تدهور منظومات الإنتاج في كامل البلاد"    غارة جوية تستهدف موقعا عسكريا لقوات الحشد الشعبي في العراق    يستقطب قرابة نصف اليد العاملة.. مساع مكثفة لإدماج القطاع الموازي    منظمة الصحة العالمية تعتمد لقاحا جديدا عن طريق الفم ضد الكوليرا    المنستير للجاز" في دورته الثانية"    جندوبة: حجز أطنان من القمح والشعير العلفي ومواد أخرى غذائية في مخزن عشوائي    منوبة: حجز طُنّيْن من الفواكه الجافة غير صالحة للاستهلاك    بنزرت: القبض على تكفيري مفتش عنه ومحكوم ب8 سنوات سجنا    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض تونس الدولي للكتاب    هزيمة تؤكّد المشاكل الفنيّة والنفسيّة التي يعيشها النادي الصفاقسي    تعاون تونسي أمريكي في قطاع النسيج والملابس    معرض تونس الدولي للكتاب يعلن عن المتوجين    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    سيدي بوزيد: وفاة شخص وإصابة 5 آخرين في اصطدام بين سيارتين    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    القصرين: تلميذ يطعن زميليْه في حافلة للنقل المدرسي    أبرز مباريات اليوم الجمعة.    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    رابطة ابطال افريقيا (ذهاب نصف النهائي) : الترجي الرياضي يواجه صان داونز بحثا عن تعبيد الطريق الى النهائي    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    برج السدرية: انزلاق حافلة تقل سياحا من جنسيات مختلفة    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الترجمة قضية لغة وتقدّم أمة
السنة الدولية للغات 2008
نشر في الصباح يوم 08 - 06 - 2008

الحاجة الى الترجمة ضرورةٌ قديمة قِدم الإنسان واللسان. ولم تزل الأمم تُثني على أهمية الترجمة فيما بينها لحسن التعارف والتلاقح وللعلم بما في الحضارات المتقدمة من شرائع وحكمة وعلوم وصنائع وحرف ومن نظم حكم وقوانين للعدل والعمران، مما يعزّز أسباب التقدم والغلبة للدول والجماعات.
وكل ذلك مسطور في الكتب ومكنون في صدور الرجال؛ والترجمة وحدها كفيلةٌ بنقله من لسان إلى لسان ومن إنسان إلى إنسان ومن أمة إلى أمة.
وكانت الكتب أوّل ما كانت في خزائن الملوك وهياكل الكهنة، بمثابة سرّ الأسرار المتعيّن حجبه عن الأعداء والخصوم ومنع تداوله بين أيدي العامة والمتطفلين. ولأمر ما كانت الحرائق تأتي أوّل ما تأتي في الحروب على المكتبات والكتب. وربما أتى ذلك في بعض الأحوال من أصحابها أنفسهم، منعاً لوقوعها بيد أعدائهم، فتكون لهم بها قوة أو يزدادون بها قوّة. وربّما أتت أيضاً من قبل الغزاة والفاتحين حرماناً لأصحابها من العودة إليها، كما يحرم المغلوب من سلاحه وحصنه أو قلعته أو أسواره التي كانت تحميه، فتهدم وتخرّب.
وربّما أصاب الغزاة غِرّة من بعض الأقوام فغنِموا كتبهم في غنائمهم قبل أن تتلَف، كأثمن ما يغنَمه المحارب من عدوّه، وفاضلوها بالسلاح والجواهر والأحجار الكريمة ونحو ذلك.
وكم من نفائس الكتب وقعت للملوك بأخفى المسالك والحيل إذا لم يتيسر لهم اقتناؤها بأغلى الأثمان أو بالمهاداة والمبادلة، أو إذا أعجزهم الحصول عليها بالغزو والغلبة.
ولم يكن كل المؤرخين يصدِّق تلك الأخبار المروية عن بعض الغزاة والفاتحين في استهانتهم بكتب الأعداء والأمر بحرقها أو إلقائها في الأنهار؛ لأن الإقرار بأخذها في الغنيمة يترجم فضل أعدائهم عليهم، وعَزْو كل تقدّم بعدهم إليهم. وغالباً ما يحصل ذلك في الحروب ولا تطيب النفوس بين الخصوم بدونه.
وكل حضارة ناشئة لا تنشأ إلا وفي بلاط ملوكها ديوان للترجمة ومترجمون مهَرة، للسفاراة عنهم ولنقل ما تحصّل لديهم من نفائس الكتب بلغات الأمم. إذ هو باب من أبواب جلب المصالح لدولتهم وتعضيد ملكهم. ولذلك كنت ترى في قائمة الكتب التي نقلها التراجمة للسان العربي منذ أوّل عهد الدولة الاسلامية وإلى عصر ابن النديم، كتباً أثبتها في "فِهرسْته" معظمُها في وصف بدن الانسان وفي الأدواء والأدوية وفي وصف السلاح على اختلافه وصنعه وفي الحرف والصنائع والفلْح وفي كيمياء المعادن ونحو ذلك. وكلها معارف وأدوات ضرورية للحضارة ومقومات للملك والتغلب.
والتكتّم على أسرار العلوم هو ديدن الأمم في مختلف مراحل التاريخ وليس في عهد الفراعنة فقط. ولم تكن الترجمة أمراً متاحاً في كل الأحوال أو مشهوداً لأهلها به دون ضوابط؛ فقد يقوم الاطلاع على التأليف المحظور مقام التكشف على السرّ العسكري. وكل أمّة ووسائلها في نقل كنوز الآخرين من كتب ونقائش وما في سِيَر قادتها من عِبر وخطوب، لما لا يخفى من الغايات في السلم والحرب. وربما ذهبت مذاهب القوة لاستعادة ما فرط من تراثها وذخائرها ظلماً وعدواناً، والأخذ بناصية العلوم المستفادة منه ومن تراث الآخرين لدى غيرها دون حظر أو حرمان.
ولمّا قامت حضارتنا الإسلامية تميّزت في باب الترجمة كما في كل باب آخر، بوضع آداب لها، دفعاً للضرر من حيث يخفى أو لا يخفى على الفرد والأمة في دينه وخُلقه. فمن ذلك ما تكلم به الفقهاء عن قبول ترجمة المترجم الواحد العدل. واختلفوا كشأنهم في الاختلاف - تقديراً لأثر الحكم المترتب بحسب الحالات والمقاصد - فذهب بعضهم إلى قبول ترجمة المترجم الواحد العدل. وقال بقية الأئمة: الترجمةُ الشهادة لا يُقبل فيها المترجم الواحد. ومن الفقهاء من ذهب إلى قبول شهادة الرجل الواحد الصادق.
وإذا لاحظنا في الكلام المتقدم شرط العدالة والصدق في المترجم - كشرطهم ذلك في الشهادة - عرفنا ما يرمي إليه فقهاؤنا من وجوب التحذّر من شهادة الزور وقياساً عليه الترجمة المزوّرة.
ومن هنا كان في دواوين الترجمة، من يشرف عليها من أهل الثقة، ومراجعون كثُر لأعمال المترجمين. حتى كان أكثر من مترجم واحد وراء المترجم الأول للكتاب. وتركزت الأنظار في الأوّل على الأمهات والأصول والشروح المفيدة. وفي مقدمتها كتب الطب والكيمياء وعلوم الحكمة، وهي الفلسفة والمنطق وعلوم التعاليم وهي علوم المقادير، كالفلك والموسيقى والرياضيات والهندسة. ثم أعقبت موجة الترجمات الأولى موجة المصنفات التي وضعها المسلمون أنفسهم، شروحاً ومختصرات على علوم اليونان والروم والفرس والهند وربما القبط وغيرهم.
وظلّ الكتاب المترجم محدود التداول، مقصوراً في الغالب على أئمة اللغة والأدب والفقه والحديث والتفسير والكلام. ولذلك كانت آثار تلك المترجمات على الفكر الاسلامي لا تشيع بين عامة القراء والمتأدبين إلاّ منخولة مصححة بأقوالهم وآرائهم.
وكانت هذه الترجمة، التي عرفها عهد المأمون بالخصوص، وهو أزهى عصورها، تتجه في اتجاه واحد، هو النقل إلى العربية. فهي ترجمة للاغتذاء من مدوّنات الأمم السابقة فيما دون العقيدة، إلاّ على سبيل النقض والحجاج عندما توسعت دائرة الفكر والمناظرة. ولم يخطر ببال أحد في ذلك العصر ولا حتى في وقت متأخر، أن يتولّى العرب ترجمة شيء مما أصبح لديهم أنفسهم من مؤلفات بلغتهم الى ألسنة الأمم الأخرى.
فليس من شأن إنسان أن يقدّم سلاحه الى إنسان غيره - إذا صح أن نصف العلم بالسلاح بمنطق بعض الحضارات - أو أن يوفّر على غيره مؤنة التعرّف عليه بنفسه.
ولم يسجّل في الاسلام ترجمة للقرآن وشيء من علوم الدين والعربية للروم أو للفرس أو للترك أو للبربر الذين اعتنقوا الإسلام، إلاّ لواجب قيام هذه الأقوام غير العربية بفروض دينها والمساعدة على تعريب ألسنتها، حبّاً في كتاب الله العظيم وإدراكاً لسرّ إعجازه وتبركاً بسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وهو ما يفسّر كثرة علماء المسلمين في حضارتنا من غير العرب، ممن نبغوا في علوم الدين وعلوم العربية بالأخص؛ وذلك نتيجة لسياسة التعريب التي غلبت لا "لسياسة" الترجمة التي عرضت لهم في بداية الأمر. ومضى الأمر على ذلك لعدة عصور شرق الاسلام وغربه، إلى أن انقلبت الأمور بسبب تغلب غير المسلمين عليهم.
وقد تميّز العصر الحديث، ومنذ قيام الامبراطوريات الاستعمارية باستباق الدول الاستعمارية رغبة الدول المولّى عليها في التحرّر والنهضة بتقديم الوصفات الجاهزة لها لشدّها الى نفوذها باستمرار. فزيّنت لها الترجمة فيما زيّنت للعَبّ من نظمها وآدابها. وبتأثير التربية والتعليم ترسّخ في أذهان ناشئتها بأن الترجمة والأخذ والاقتباس من الأمم المتقدّمة، هو أقصر طريق تسلكه البلدان المتخلفة للخروج من تخلفها واللحاق بركب التقدّم.
وفي خضم ذلك نشطت الترجمة الأجنبية بأسماء مفضوحة وأخرى مستعارة. وما لبثت أن غمرت المشرق العربي والمغرب العربي معاً بتأثيرها السيء على اللغة والفكر والمعتقد. ولم يكد يسلم من تأثيرها الاّ القليل من نخب الأمة. وكانت الترجمة في الاتجاه المعاكس لروح التحرّر والنهضة مقدمةً لمسخ ذاتية الأمة وتذويب كيانها.
ثم شاعت الفكرة بأنّ المسلمين لم يتقدّموا إلاّ بفضل ما أخذوه من الأمم السابقة عن طريق الترجمة؛ وأنّ الأخذ من الآخر بات مقبولاً من قِبلهم في العصر الحديث على غرار أسلافهم. دون بحث قبل ذلك في العلاقة بين الآخذ والمأخوذ منه ونوعية المأخوذ وغير ذلك من الاعتبارات.
والحال أن الترجمة عند العرب كانت أصلاً للنقل وحسب، ولم تكن ترجمة في الاتجاهين، كما ابتغتها المدرسة الاستعمارية لخدمة التجسّس، وابتزاز خير ما في تراث المسلمين، عربهم وفرسهم وتركهم وبربرهم قديماً وحديثاً. وكان ذلك أهم ما وظفتنا لمساعدتها عليه طوال تاريخنا الاستعماري وربما الى ما بعده. دون عرفان وامتنان في الغالب، وفي أحيان كثيرة بابتزاز مخطوطاتهم وحجبها عنهم، وفي أحيان أخرى بانتحال ما فيها من علوم ومعارف واكتشافات. فالفرق واضح بين النقل في عهد المأمون ببغداد وأمثاله في مرو وقرطبة ودمشق والقيروان وبين الترجمة في عهد نابليون بمصر أو ألفنسو بطليطلة أو روجر بصقلية.
وجاءت مقولة لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم الغرب؟ ويقال في الجواب عليها دائماً: لأن الغرب أخذ لنهضته بعلوم المسلمين وعلوم مَن قبلهم، بينما تخلّف المسلمون عن الأخذ عن الغرب، أو تحرّجوا من ذلك لأسباب دينية.
ويتصّل بهذه الأسباب الدينية بطبيعة الحال اللغة العربية، التي ينزّلها المتكلمون بها منزلة اللغة المقدّسة، وهي مصدر أحكامهم في دينهم ودنياهم. ولأمر آخر مهم وهو مرجعية الأمم إليهم بسبب هذا اللسان لحسن التفقه في الدين.
ولم تكن تلك الترجمات الحديثة المدسوسة على ثقافتهم لتحفَظ لسانهم من الضيم الذي لحقه بسببها في ألفاظه وتراكيبه، فضلاً عما تحمله من تشويه متعمّد لفكره وعقيدته.
وما أكثر ما أحدثت الترجمات الأولى من تحريف على الفصحى وامتهان لها إلى حدّ العبث بأصولها وقواعدها، ولم تتردد الاقلام في حمل كل محمل التجديد والإبداع والحرية. وصنّفت في ذلك الأطروحات المؤيدة ومنحت الجوائز المشجعة؛ وكلها تصب في طاحونة الثقافات الغربية والموالاة للخارج.
وانتهى الأمر في بعض الأقطار العربية والاسلامية الى ظهور نداءات من نخبها المثقفة - المتنفذة خاصة - للاستبدال باللغة العربية إحدى اللغات الحية، الأكثر استيعاباً لعلوم العصر ومعارفه، حثّاً لخطى أقطارهم نحو التقدّم؛ وفي أدنى الأحوال تغيير كتابة ما يطلقون عليه "العربية العصرية" بالحروف اللاتينية تسهيلاً للطباعة والقراءة السليمة بزعمهم، وفتح الباب بقوة للاقتراض والدخيل. وحتى الاشتقاق، وهو أعظم خواص اللغة العربية تم تجاوزه في بعض المحاولات لترتيب المعجم تشبهاً بالفرنسية ونحوها.
وتحت تأثير كوكبة من المتطرفين من علماء الاجتماع اللغوي، جرت محاولات لحمل الدولة للتصدي لتيار التعريبيين الرجعيين برأيهم، وانتهاج منهج بعض الدول في إفريقيا وآسيا حلاّ للقضية اللغوية فيها، بتبني الازدواجية اللغوية رسمياً، أو دعم اللغة الأجنبية الموروثة عن العهد الاستعماري في التربية والتعليم والإدارة دون عقدة.
ومعلوم أن الاستعمار الذي انتهى عهده هو الاستعمار العسكري بمختلف أشكاله، ليخلفه استعمار من نوع جديد؛ واتّخذ كالعادة من الأسماء أحبّها الى الشعوب المغلوبة من حيث مدلول الألفاظ، لا من حيث مقاصد أربابه ومسوّقيه، كمكافحة الفقر والقضاء على الأوبئة والدفاع عن الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الانسان، إلى أن تكلل أخيراً بالعولمة وحتمياتها على اقتصاديات الدول الضعيفة وسياساتها الاجتماعية والثقافية، بل وحتى على سيادتها واستقلالها. وتظلّل كل ذلك بمظلّة الدول الكبرى الداعمة لمنظمات القرض والمساعدات الدولية والصحة والتعليم والتربية والاتصالات ونحو ذلك، وكلّها منظمات دولية عتيدة تتصدّر بقراراتها مصائر الشعوب وتتحّدى حرمة دساتيرها.
وأصبح موضوع الترجمة ليس مجرّد مشروع فردي أو مؤسسة خيرية أو جهة أجنبية، أو عنواناً فرعياً في مهام بعض الوزارات التعليمية أو الاتصالية، بل ارتقى في سلم العناية به إلى إنشاء مؤسسة رسمية وطنية مستقلة له صلب الدولة.
وإنما دعت الحاجة الى إنشاء مثل هذه المؤسسات الرسمية أكثر من أي وقت مضى لتلافي ما أفرزته المبادرات الفردية والتجارب السابقة في ميدان الترجمة من ممارسات سلبية هنا وهناك، راجعة في أهمها إلى الفوضى وفقدان الضوابط وسوء التقدير وربما ضعف الإنتاج. وكله راجع في التحليل الأخير إلى انعدام سياسة واضحة واستراتيجية وطنية مجمع عليها، قادرة على مواجهة العدد المتنامي للمؤسسات الإقليمية والقومية والدولية المزاحمة للإنتاج الوطني في هذا القطاع؛ وهو قطاع أصبح بحجم تأثيره الأدبي والمادي في غاية الخطورة من حيث انعكاساته على الهوية.
وأصبحت الترجمة اليوم تشبه الوضع في الهجرة في استراتيجيات الدول، فهذه الدول الأوروبية، وحتى مع حاجتها الماسة إلى الهجرة، تأبى الإّ أن تتحكم فيها بمفردها وفوق كل منطق. ففي فرنسا مثلاً يتم الانتقاء الصارم بين أسراب المهاجرين في تحدّ صارخ أحياناً لكل القيم الانسانية. بل لقد تقرر أخيراً في هذا البلد منع قبول كل من لا يحسن اللغة الفرنسية حتى يحسنها. تحسباً لأدنى تغيير في خارطة البلاد السياسية والدينية. وهذا الأمر لم يكن مُراعىً في الزحوف الاستعمارية في عهود مضت، ولا حتى بالنسبة إلى مقاييس التدفق الاعلامي والسياحي والثقافي الأجنبي حالياً في الدول النامية.
ولا يخفى من ناحية أخرى أن الترجمة في عصرنا الحاضر غدت في مقدمة قضايا حماية حقوق التأليف. وقد يتجاوز الترخيص بالترجمة أو الاقتباس أو غيرهما من أنواع الاستغلال بالنسبة للمؤلفات ذات الأهمية العلمية والطبية والعسكرية أو الاستراتيجية حدود المبالغ الخيالية. ومع تنامي دور الإنترنات في تبادل المعلومات وتقديم الخدمات الترجمية وتحميل الكتب وغيرها، أصبحت هذه الحقوق محلّ مراقبة ونزاعات كبرى. ولم يعد متاحاً في المواقع المجانية على الشبكة العنكبوتية إلاّ سقْط المؤلفات في الغالب، وإلا أكثرها إهداراً للطاقات وشغلاً للوقت وتضييعاً لفرص الانتاج بوجه الكفاءات الوطنية.
ويذكّرنا هذا السيل من الكتب المترجمة إلى لغتنا بتلك المؤلفات التي كانت تنشرها مؤسسة فرنكلين "للثقافة الحرة"، بترجمات رديئة غالباً بين جماهير القراء العرب؛ وتوزعها أحياناً كما توزع أكياس الطحين الامريكية ضمن المساعدات الغذائية للدول النامية. وتنفرد أهم المراكز الثقافية الأجنبية بالإغداق دورياً من رصيدها، من هذه المؤلفات المعلّبة دون مواصفات واضحة، على المكتبات العمومية بالدول النامية، وتمنحها لمسؤوليها لملء رفوف مكاتبهم على حساب الكتاب القيم والمنتج الوطني.
وفي الوقت الذي تسهر فيه دول كبرى على تأمين هيمنة لغاتها على المشهد الاعلامي العالمي والثقافي العلمي والأدبي والفني، تقوم منظماتها غير الحكومية المتخصصة في حقوق الأقليات وحقوق اللغات بآسيا وإفريقيا بممارسة الضغط على حكومات تلك الأقطار لكسر المشهد السياسي والديني واللغوي الوحدوي فيها.
وهناك إغراق ممنهج لسوق الكتاب العربي بالترجمات من اللغات الأجنبية الزهيدة الثمن الجميلة الاخراج، فضلاً عن المؤلفات الأجنبية ذات القيمة المتوسطة والدنيا، لغياب الكتب القيمة بالمعارض والمكتبات، نظراً لأسعارها المشطة حتى بمعدل الطاقة الشرائية للأستاذ الجامعي أو الكادر القضائي أو الإداري وأمثالهم.
ومن هنا جاءت ضرورة مراجعة كثير من المفاهيم السائدة في موقفنا من الترجمة من جميع جوانبها، انطلاقاً من ثوابت واضحة وأهداف حضارية واضحة المعالم كذلك. وأن نؤسّس لعهد من الترجمة يدفع بالانتاج الوطني إلى آفاق أفضل في عالم الفكر والثقافة والفن والأدب، على أن يمثّل فيه الدعم المادي والمعنوي المخصص للترجمة والتأليف بلغتنا العربية نصيب الأسد.
فلم يعد خافياً على أحد أنّنا أصبحنا في عهد صراع المعلومات وصراع اللغات، ولم تعد دولة من الدول الأجنبية لا تملك مترجمين في مصالحها الخارجية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وغيرها؛ لتقييد كل صغيرة وكبيرة عن غيرها بقدر ما يساعدها على الأخذ بزمام المبادرة تجاهه وفي كل الأمور. ولذلك فمن التضييع التفكير في ترجمة أفكارنا أو فلسفاتنا أو إبداعاتنا لتعريفهم بها بأموالنا، أو حتى بتمويلهم ودعمهم، لأن ذلك سوف يكون أعود عليهم بالفائدة لا علينا.
ويكفي في هذا المجال القصير، أن أمثل لذلك بدعوة مستشرقة ألمانية، بمناسبة المعرض الدولي للكتاب بفرانكفورت، الذي استضاف قبل سنتين العالم العربي. فلقد اقترحت هذه المستشرقة بعد أن نعَتْ ضُعف تجاوب الدول العربية للقيام بدورها التعريفي في هذا المعرض وتقصيرها في الانفاق اللازم على متطلبات حضورها فيه، اقترحت على العرب أن يموّلوا ترجمة كتاب ألماني صدر أخيراً في ملايين النسخ يكشف فيه صاحبه عن التحريف الحاصل في القرآن الكريم، ليطلعوا عليه فيوجد لديهم من يتولى الردّ عليه.
هذا الاقتراح نشرته جريدة الشرق الأوسط في حينه. وليس أمامنا سوى تصوّر الحال الذي تريدنا إليه هذه المستشرقة بما يصوّره الشاعر في قوله:
كناطحٍ صخرةً يوماً ليُوهِنها
فلم يضُرْها وأعيَى قَرْنَه الوَعِلُ
فإذا كان التعريب سينصرف إلى مثل هذا الكتاب الألماني المقترح، والترجمة ستنصرف إلى مثله في اتجاه الردّ عليه. فسيكون الدعم في الاتجاهين للثقافة الأجنبية؛ مع احترامنا لهذه الباحثة المستشرقة التي قدّمت نفسها في الحوار بأنها مُحبّة جدًّا للعالم العربي وقدّمتها الجريدة بكونها «انجليكا بونفرت، مستشرقة ألمانية وأستاذة في جامعة برلين الحرة تعمل بالتنسيق مع وزارة الخارجية في بلادها والمسؤولين عن معرض فرانكفورت على بعض المشاريع التي يحضّرها الألمان تكريماً ل "ضيف الشرف" العربي الذي سيحلّ عليهم هذه السنة».
ومثال آخر فقط حتى لا نسترسل في الأمثلة، وهو مشروع بيت الحكمة - لدينا - وهي مؤسسة، في ثالوث مهامّها الترجمة. ففي المائوية الثامنة لابن رشد اعتزمت هذه المؤسسة استعادة شرح له على أرسطو إلى العربية، عن طريق ترجمة ذلك الشرح من صيغته الباقية باللغة اللاتينية. هذه الترجمة عُهد بها لجامعي من بيننا متمرّس على الترجمة من اللاتينية وتولت المؤسسة عرض عمله على لجنة مختصة من الجامعيين - من بيننا كذلك - سمّت أسماءهم في تقديم مديرها العام لهذا الكتاب.
فماذا كانت النتيجة في عين الناقد المتفحص: سلخ مسلوخ! لا عربية سليمة ولا ترجمة أمينة ولا فهرسة دقيقة ولا حواش علمية حتى بالأهمية التي بحاشية النص اللاتيني، مع مقدمة ضحلة متفككة، وإخراج للنص يفقد أهم مواصفات النشر التراثي المحترم. والأدهى والأمر من ذلك أن أقوال أرسطو نفسه غفل عنها المترجم فبقيت في النص اللاتيني دون أن ينقلها المترجم في موضعها من شرح ابن رشد. فماذا كانت النتيجة إذن من هذه الأموال المهدورة في نشرة غير سليمة. النتيجة أن النص اللاتيني نفسه حقق ظهوراً جديداً أي طبعة جديدة بمناسبة هذا النص الفاشل لمشروع الترجمة العربية.
وكأنْ لا سائل ولا مسؤول في قضية هذا الكتاب كما كشفها النقد العلمي الذي نشرنا مقالاً عنه في الصحافة، ثم نشرنا نصه الكامل في كتاب مستقل بعنوان «الشرح المنشور لابن رشد على مقالة أرسطو في النفس». فلم يحرّك مسؤول في هذا البيت المسمى ببيت الحكمة الذي نشر هذا الكتاب في رزمتين إحداهما العربية كما قلنا والأخرى اللاتينية القديمة - لم يحرّك شفة، ولا حتى صاحب الترجمة فضلاً عن مدير البيت، أو واحد على الأقل من أعضاء لجنة المراجعة للكتاب.
فإذا كان هذا هو الأنموذج لاحتفائنا بالترجمة واحترام النقد البناء، لتصحيح الأوضاع العلمية وإحكام التسيير في مؤسساتنا الثقافية لإنجاز مثل هذه المشاريع التاريخية، فسوف تكون عيوننا مشدودة أكثر للمجلس الأعلى للثقافة الذي بعث أخيراً للأمل فيه بتسديد الخطى وتقييم النتائج.
ومن هنا فإن البحث في قضايا الترجمة لا يجب أن يكون بمعزل عن أهمية اللغة العربية في بلادها وأولويّة دعم الثقافة الوطنية في بلادها. وبالعكس يجب أن يكون بمعزل عن المقارنات السطحية والإحصاءات الملتقطة من هنا وهناك دون منهجية، ودون ربط بواقعها الخاص. لأن المقارنة بالماضي مع وجود الفارق تُلغي تماثل النتائج في الحالتين. ومثله المقارنة بين دول متخلفة اقتصادياً أو مالياً أو علمياً وبين دول ذات حضارات متنازعة أو متنافسة فيما بينها منذ عصور.
وبمناسبة هذه السنة الدولية للغات 2008، يجب التقدير بأن حظوظنا في هذا العالم اللغوي المتعدّد جيّدةٌ جدّاً، لأن لغتنا العربية هي إحدى اللغات الستّ المعتمدة رسمياً في المنظمة الدولية الكبرى، هيئة الأمم المتحدة، وسائر المنظمات التابعة لها، إلى جانب الإسبانية والانقليزية والروسية والصينية والفرنسية. ولذلك فلم يعد مجال لترديد مثل تلك المقولات المنبثقة عن جهل أو تحطيم، كافتقار العربية إلى المصطلحات الحديثة في العلوم والمعارف والفنون والآداب، أو ضعف انتشار الكتب المؤلفة بها. فما في رصيد مكاتب الترجمة الأربعة الرئيسية للأمم المتحدة، الموزعة في جينيف ونيويورك ونيروبي وفيينا مع ما في مجامعنا للغة العربية الخمس أو الست في العالم العربي، كاف لخلق حركة تعريب نشطة جدّاً، لاستيعاب علوم العصر وتكنولوجياته ومختلف معارفه، بهدف إثراء ملكاتنا الابداعية بلغتنا في جميع الميادين ومنافسة العالم بإنتاجنا.
وطبعاً يستوجب ذلك أوّلاً التنسيق بين مختلف المؤسسات الوطنية للترجمة وبين غيرها من الجهات الرسمية وغير الرسمية، في بلداننا العربية وربما في الخارج كذلك، وثانياً توفير الدعم الكافي لتنفيذ مشاريعنا وبرامجنا وفق أولويات محددة بوعي ودقة، وبصورة إدارية شفافة ومسؤولة.
والاحتفاء في بلدنا هذا العام بأهمية الترجمة، يجب أن يكرس اهتمامنا في الوقت نفسه بلغتنا، وتعزيز هذه المؤسسة الوطنية المحدثة للترجمة بمؤسسة للتعريب موازية لها؛ فهذا ميدان بقي متروكاً للمبادرات الفردية والاجتهادات الظرفية، وكان ينبغي أن يظهر بالتساوق مع تلك القرارات الهامة والاجراءات الصائبة التي اتخذتها الدولة في العهد الجديد، لدعم حضور لغتنا في الحياة العامة؛ وهو حضور أصبح مزاحَماً جدّا وأحياناً بطريقة مخلّة بسيادة بلادنا، وهي سيادة تستمدها دستورياً من جملة ما تستمده من سيادة لغتها على أرضها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.