مازالت «الحسابات» و«التجاذبات» تسيطر على استحقاقات بناء مؤسسات الجمهورية الثانية ويبدو مصير وجدوى الهيئات الدستورية على المحك ويثير مخاوف الحريصين على تركيز هيئات محايدة ومستقلة تكون ضمانة للديمقراطية التي مازال كثيرون يصرون على أنها الخيار الأفضل رغم المصاعب والعراقيل وسعي البعض لدفع التونسيين للكفر بها. ولعل المخاض العسير لانتخاب رئيس هيئة الانتخابات الذي نتابع أطواره هذه الأيام داخل مجلس النواب حيث تعذر إلى الآن اختيار خليفة شفيق صرصار وذلك لصعوبة التوافق حول مرشح بعينه، ما يؤكد عمق التجاذبات وحسابات الأحزاب لا سيما الكبرى منها لضمان مرور مرشحيهم، الأمر الذي يغذي الشكوك والانتقادات من الآن حول حياد هيئة الانتخابات واستقلاليتها عن ضغوط الأحزاب وأجنداتها الخاصة. ولا تبدو بقية الهيئات الدستورية بأفضل حال عن الهيئة المستقلة للانتخابات بالنظر للمستجدات الأخيرة المتعلقة بالصعوبات التي تعصف اليوم بالمجلس الأعلى للقضاء على أهمية هذا الهيكل في خضم جملة من الاستحقاقات الأخرى تنتظر البلاد منها الانتخابات وإصلاح القضاء. . وقد يتوقف المجلس نهائيا عن العمل لغياب الإمكانيات المادية ومماطلة الحكومة في إصدار بعض الأوامر التي انعكست سلبيا على عمل المجلس (استنادا لما صرح به الناطق الرسمي باسم المجلس الأعلى للقضاء ل»الصباح» في عددها الصادر أمس). تواجه كذلك بقية الهيئات الدستورية الأخرى الواردة في الباب السادس من الدستور التحديات والصعوبات ذاتها سواء فيما يتعلق باستقلاليتها والسعي المحموم من الأحزاب لإيجاد موقع ضمنها والتأثير على قراراتها أو في غياب الإرادة السياسية المتمثلة في عدم رصد الميزانيات الضرورية لعملها والمماطلة في التشريعات اللازمة لقيامها بالمهام المنوطة بعهدتها. وقد تجسدت بوضوح إرادة الأطراف السياسية في بسط نفوذها على الهيئات الدستورية والتحكم في قراراتها ومصيرها من خلال مشروع قانون الأحكام المشتركة المتعلقة بهذه الهيئات المطعون في دستوريته لأنه يكرس في تقدير الكثير من المراقبين تبعية وتحكم مجلس النواب بحساباته وتجاذباته في مصير أعضاء الهيئات الدستورية عبر آلية رفع الحصانة أو سحب الثقة أو المصادقة على التقارير المالية. هذا الواقع يغذي المخاوف بشأن جدوى الهيئات الدستورية واستقلاليتها كما يؤكد أن المسار مازال طويلا في ظل المخاطر التي تهدد المكاسب القليلة التي تحققت على درب البناء الديمقراطي ما يستدعي المزيد من الضغط من القوى الديمقراطية ومن المجتمع المدني في مواجهة التوافقات السياسية والتجاذبات والحسابات الحزبية التي تعصف أو تكاد بحياد الهيئات الدستورية وتتجه رويدا لفرض هيئات تابعة وصورية مجملة ومكملة للمشهد الديمقراطي لا فاعلة ومؤثرة فيه.