ظاهرة التبني في تونس واحتضان طفل من الضياع مسالة اجتماعية انفردت بها تونس في المنطقة العربية وشرّعت وأجازت هذه المسالة رغم تعارضها مع أحكام الشريعة الإسلامية وذلك حفاظا على مصلحة الطفل الفضلى... لكن بقدر ما تحمل هذه المؤسسة في ظاهرها حماية للطفل لضمان استقراره نفسيا واجتماعيا ومحاولة احتضانه من قبل عائلات حرمت من الإنجاب إلا أنها قد تشكل صدمة حادة له بمجرد اكتشافه انه ابن بالتبني وليس الابن الحقيقي للعائلة .. هذه الصدمة قد تنعكس سلبا عليه وتتسبب في انكساره فيفقد الثقة في كل من حوله بسبب عدم مصارحته من قبل العائلة التي احتضنته وقد تتحول هذه المؤسسة من نعمة إلى نقمة بسبب الكتمان.. فما رأي أهل الاختصاص في هذه المسالة وهل ان الكتمان في مصلحة الطفل أم العكس وهل أن الإجراءات التي تتخذها وزارة الشؤون الاجتماعية يمكنها فعلا حماية المتبنى؟ التبني من الشروط إلى البعد الإنساني وجدت عائلات تونسية محرومة من الإنجاب ضالتها منذ صدور قانون التبنى وإيجاد الحلول الكفيلة لضمان استقرارها العائلي وتخطي معضلة العقم وباتت العديد من هذه العائلات تتجه إلى التكفل بطفل أو تبنيه وتلتزم في المقابل برعاية الطفل وتربيته وحمايته حسب القانون المنظم لمسالة الإيداع العائلي وهو القانون عدد 27 لسنة 1958 المؤرخ في 4 مارس 1958 والمتعلق بالولاية العمومية والكفالة والتبني والمنقح بالقانون عدد 69 المؤرخ في 19 جوان 1959 .. خص المشرع التونسي مسالة التبني بشروط خاصة حفاظا على مصلحة الطفل المهدد أو فاقد السند من خلال القانون عدد 47 لسنة 1967 المؤرّخ في 21 نوفمبر1967 مما جاء فيه «تلتزم العائلة التي قبلت تبني الأطفال برعايتهم وتربيتهم طيلة المدة المتفق عليها مع وزارة الشؤون الاجتماعية» كما يجب أن يكون المتبنى حسب الفصل 9 من القانون أعلاه «شخصا رشيدا ذكرا أو أنثى متزوّجا متمتّعا بحقوقه المدنية ذا أخلاق حميدة سليم العقل والجسم وقادرا على القيام بشؤون المتبنى. ويمكن للحاكم إعفاء طالب التبني الذي فقد زوجه بالموت أو بالطلاق من شرط التزوج إذا اقتضت مصلحة الطفل ذلك.» وأضاف الفصل 10 من نفس القانون «أنه ينبغي أن يكون الفرق بين عمر المتبنى وعمر المتبني 15 سنة على الأقل إلا في صورة ما إذا كان فيها المتبني ابن زوجة المتبني. يعني أن يكون عمر الزوجة 45 سنة والزوج 50 سنة... 5000 ملف معروضة على لجنة التبني والكفالة حول هذه المسالة اتصلت «الصباح الأسبوعي» بوزارة الشؤون الاجتماعية لمعرفة عدد الأطفال الذين يتم تبنيهم سنويا والإجراءات القانونية لهذه المؤسسة وأسباب صعوبة إجراءات التبني مقارنة مع ارتفاع عدد الأطفال فاقدي السند.. أفادنا الدكتور احمد بن حمدة مدير المعهد الوطني لرعاية الطفولة بمنوبة التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية ان عدد الأطفال المودعين لدى العائلات الحاضنة سنة 2017 بداية من شهر جانفي إلى غاية شهر أكتوبر بلغ 141 طفلا، وبالنسبة لسنة 2016 بلغ عدد الأطفال الذين تم إيداعهم لدى عائلات قرابة 209 .. بينما سجل سنة 2015 عدد الأطفال المودعين 177 طفلا. وتشير الإحصائيات إلى أن عدد ملفات التبني التي عرضت على المعهد الوطني لرعاية الطفولة التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية منذ 2012 إلى اليوم، قرابة 5000 ملف.. بينما أودعت لجنة التبني والكفالة والإيداع العائلي في إطار التبني منذ 2014 إلى اليوم ما يقارب 827 طفلا فقط لعائلات حاضنة، عدد ضئيل جدا مقارنة بالملفات المعروضة على اللجنة في إطار التبني وهو ما دفع وزيرة المرأة في تصريح لها خلال ندوة صحفية إلى المطالبة بتسهيل إجراءات التبني التي اعتبرتها وراء تعقيد هذه المسالة الاجتماعية التي أجازها المشرع رغم صبغتها الدينية... وفي هذا الإطار أوضح الدكتور بن حمدة أن نظام التبني للأطفال فاقدي السند هو خيار من بين عدة خيارات أجازها المشرع لحماية الطفل المهدد إلى جانب الكفالة، لاحتضان هؤلاء الأطفال ورعايتهم والإنفاق عليهم حسب عقود تتم بين المؤسسة والعائلة المتبنية واعتبر ان هذه الإجراءات ليست صعبة بقدر ما تبحث عن حماية الطفل ورعايته فالمسالة حسب رأيه أعمق من كونها مجرد إجراءات باعتبار ان الأمر ليس التخلص من الأطفال بقدر ما هو البحث عن مصلحة الطفل والاطمئنان عليه وسط عائلة متماسكة نفسيا واجتماعيا وماديا .. واعتبر محدثنا أن التبني رغم انه مسالة اجتماعية انفردت بها تونس عربيا فهي حل لظاهرة اجتماعية سلبية وهي حالات الأطفال المهملين أو مجهولي النسب المولودين خارج إطار الزواج والتي تؤدي في معظم الأحيان إلى حرمان هذه الفئة من الأطفال من حقهم في الهوية مما يخلق تهميشا وإقصاء لهم ويولد لديهم شعورا بأنهم غير مرغوب فيهم داخل المجتمع.. لكن في المقابل إذا ما تفطن الطفل إلى حقيقة الأمر وعرف انه ابن بالتبني أو تعرف على المعلومة من الخارج رغم حرص الآباء على التكتم أو بسبب أغراض شخصية أو للانتقام بسبب وجود صراعات بين العائلات من اجل الميراث أو غيره فان ذلك يسبب له انهيارا وتنعكس هذه المسالة سلبا فكيف يمكن تخطي المسالة وهل من الضروري مصارحة الطفل أم لا؟ ضرورة مصارحة الطفل في نفس الإطار أشار صلاح الدين بن فرج مختص في علم الاجتماع انه عمليا وفي كل العلاقات السوية والمتوازية من المفروض أن تكون العلاقات الأسرية قائمة على العلاقات الإنسانية وعلاقة الثقة والتفاعل بين الأبناء والآباء... كما ان الإشباع العاطفي لا يتحقق الا في إطار الأسرة وبناء على الأسرة الحديثة التي تقوم على علاقات الديمقراطية والاحترام المتبادل يصبح من الأفضل والأحسن أن تقع مصارحة الطفل المتبني وذلك حسب الوضعيات والحالات وبتهيئة وإعداد الطفل نفسيا قبل المصارحة... ويقول محدثنا في هذا الصدد «لا بديل عن المصارحة والمكاشفة فالمصارحة أفضل بكثير من كشف الحقيقة المرة وحصول الصدمة لدى الطفل من الخارج.. والمصارحة يجب أن تكون من خلال تهيئة المناخ والخصوصيات النفسية للطفل وإعداده على مدى السنوات لتكون في الأخير مكاشفة الطفل بالحقيقة..» كما يعتبر المختص الاجتماعي أن إخفاء الحقيقة عن الطفل يكون أمرا خطيرا ومدمرا للعلاقات العائلية والإنسانية.. فرغم قساوة الأمر من الأفضل مصارحة الطفل ومكاشفته بالحقيقة لان الكتمان تكون عواقبه وخيمة جدا.. إعداد لمياء الشريف رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل: المصارحة ليست ضرورية.. إلا في هذه الحالات ينظر المجتمع التونسي للطفل المتبني نظرة سلبية على انه طفل «لقيط» و»ابن حرام» ولهذا فان اغلب العائلات التونسية التي تقوم بإجراءات التبني تتوخى الكتمان والسرية التامة وعادة ما تفضل أن تقوم بتبني طفل لا يتجاوز عمره بعض الأشهر، على أن تتبنى طفلا عمره بعض السنوات لتفادي نظرة المجتمع للطفل «غير الشرعي».. لذلك لا يمكننا أن نحمل الطفل مسؤولية الوضعية التي وجد عليها لأنه في الأصل هو الضحية.. واعتبر الدكتور معز الشريف رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل انه من الأفضل أن لا تصارح العائلة الحاضنة الطفل بحقيقة أمره وان تتركه يعيش في العالم الجديد الذي وجد فيه.. فإذا اقتضت مصلحة الطفل عدم مصارحته بحقيقة أمره وانه ابن بالتبني فمن المستحسن عدم المصارحة لان مصلحته تتطلب ذلك خاصة إذا بلغ سنا معينة أو تزوج وكون عائلة أو شغل منصبا هاما... خاصة وان شخصية الطفل تتكون خلال 6 سنوات الأولى وتتمركز فمن الصعب جدا ان يتسرب إليه أدنى شك او ان يفكر انه ابن بيولوجي او ابن بالتبني إلا إذا تسربت إليه المعلومة من الخارج ... كما يقول محدثنا « إذا ارتأت العائلة عكس ذلك أو وقع إعلامه من الخارج او علم انه ابن بالتبني فمن الضروري ان يكون إعلامه بعد 6 سنوات بعد أن تتكون شخصيته وتتمركز ، كما ان الارتباط العاطفي والنفسي مع العائلة المتبنية يجب ان يكون قويا وحينها تستطيع العائلة تدريجيا ان تعطيه حقيقة الولادة بإعانة من أخصائيين نفسانيين لاختراق العائق والسيطرة عليه وإعادة التأقلم مع العائلة ومع الوضع الجديد فيعطيه حماية من الصدمة ويكون طريق النجاة من المشاكل النفسية عند الأطفال.. لكن من المستحسن خاصة إذا كانت الحماية كما ينبغي فليس من الضروري إعلام الطفل انه وقع تبنيه ..».. تأجيل إخبار الطفل بالحقيقة حتى يصل إلى سن المراهقة، خطأ كبير وبقدر ما يكون إخباره الحقيقة وهو في سن صغيرة- حسب الدكتور الشريف- أفضل لأن الطفل لا يفهم معنى الموت أو الفقدان، إلا أن طريقة الإخبار تؤثر في نفسية الطفل لذلك من الأفضل ان تكون الطريقة من خلال أخصائيين نفسانيين وبدعم من العائلة المندوب العام لحماية الطفولة بتونس: في عدد الإشعارات لا يمكن الفصل بين الطفل المتبنى والطفل الطبيعي ..كشف المندوب العام لحماية الطفولة بتونس مهيار حمادي ان مندوبي حماية الطفولة من مختلف الجهات يتلقون يوميا عدة إشعارات حول الطفولة المهددة من مختلف الولايات وأفاد انه منذ شهر جانفي 2017 إلى شهر أكتوبر ورد أكثر من 6 آلاف إشعار... ولاحظ ان إشعارات التهديد التي تصل إلى المندوبين لا تفصل بين الطفل البيولوجي والطفل بالتبنى فهو تهديد يخص طفل ينتمي إلى عائلة.. كما ان العائلات الحاضنة تقوم بعملية التبني عادة في كنف السرية التامة.. حيث يقول «حفاظا على تماسك العائلة فإننا لا نفرق بين الأطفال المتبنين او الأطفال العاديين لان الطفل المتبنى بمجرد حكم المحكمة يصبح ابنا للعائلة الحاضنة بحكم المحكمة». وأوضح المندوب العام للطفولة أن التبليغ يكون على أطفال سنهم بين 14 و 16 سنة وهي سن المراهقة .. سن تحدث فيها اضطرابات بشكل عام ونوع من التباعد بين الطفل والأبوين .. وحتى في العائلة الطبيعية يحدث نوع من التباعد بين الطفل والأبوين ونوع من الاستقلالية والاعتماد على ذات وهو ما يدخل في صراع بين الأب او الأم والأبناء فما بالك بالابن أو الابنة المتبنية... ويكون التمرد على العائلة وعلى أساليب التربية أو بسبب سلوك محفوف بالمخاطر أو بسبب سماعه الحقيقة أو حتى لمجرد شكوك تراوده بأنه لا ينتمي إلى العائلة أو بسبب تمييز في التعامل بين الأبناء أو بسبب الإرث ... خاصة وان أكثر العائلات لها ثقافة الإخفاء والتكتم وعدم مصارحة الابن. وغيرها فيكون تأثيرها وخيما خاصة إذا كان المتبنى متزوجا إضافة إلى الجرائم التي يمكن أن ترتكب نتيجة ذلك.