لماذا تثير قوانين المالية كل هذا النقاش والجدل في مختلف أنحاء العالم وفي كل البلدان؟ هذا السؤال يطرح نفسه اليوم في بلادنا إثر إيداع حكومة الوحدة الوطنية مشروع قانون المالية لسنة 2018. وبلادنا لم تخل من هذا النقاش والجدل، حتى قبل صدوره من قبل عديد الجهات من أحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية كالإتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والخبراء. وسبب هذا الجدل والنقاش يكمن في أن قانون المالية وميزانية الدولة يختزلان جوهر السياسة الاقتصادية والمالية والاجتماعية للدول والحكومات. فقانون المالية يعطي إشارة وفكرة حول طبيعة السياسات الاقتصادية للحكومات واختياراتها. فإن كانت السياسة توسعية فسيتجه قانون المالية نحو دفع الاستثمار العمومي والاستهلاك، أما إذا كان هذا القانون تقشفيا فإن الميزانية ستعمل على الحد من الاستثمار والاستهلاك لكبح جماح التوازنات الكبرى للدولة. كما أن لقانون المالية انعكاسات كبيرة على الدورة الاقتصادية وبصفة خاصة على الاستثمار. فإلى جانب الاستثمار العمومي والذي يبقى مهما في عديد البلدان فإن قانون المالية يساهم كذلك في دفع الاستثمار العمومي الداخلي والخارجي من خلال التحفيزات التي يقدمها وخاصة الجبائية منها. ودور قانون المالية لا يقتصر على دفع الديناميكية الاقتصادية بل كذلك له انعكاسات اجتماعية كبرى من خلال عديد الإجراءات والجوانب، والجانب الأول يخص الزيادات في الأجور بالنسبة للوظيفة العمومية التي يمكن أن تشملها ميزانية الدولة بعد المفاوضات مع النقابات. كما يمكن لقانون المالية أن يشمل عديد الإجراءات الاجتماعية والتي تخص الطبقات الضعيفة. ويمكن لقانون المالية أن يؤثر على السياسة الاجتماعية من خلال تدخله في إعادة توزيع الثروة كإدخاله بعض الأداءات على أصحاب المداخيل العليا أو على أرباح المؤسسات الخاصة وتخصيصها لبرامج وإجراءات لأصحاب المداخيل الضعيفة. يمكن كذلك لقانون المالية أن يلعب دورا هاما في تقليص التفاوت الجهوي من خلال تخصيصه لتحفيزات هامة للاستثمار في الجهات المحرومة أو تخصيص نسبة كبيرة من الاستثمارات العمومية لهذه الجهات في إطار ما نسميه التمييز الإيجابي والذي أدرجناه في بلادنا في دستور ما بعد الثورة. هذه الملاحظات تشير إلى أهمية قانون المالية وتأثيره الكبير لا فقط على الوضع الاقتصادي والاجتماعي بل كذلك على الحياة اليومية للمواطنين مما يفسر الجدل والنقاشات التي تثيرها قوانين المالية في المجتمعات الديمقراطية. ورغم هذا الجدل والحوار الحاد في بعض الأحيان فإنه لابد لنا من توفير الظروف لتنظيم هذه النقاشات حول قوانين المالية وميزانية الدولة باعتبارها تختزل الاختيارات والسياسات الكبرى للدول.