ملاحظتان أساسيتان لا يمكن أن تغيبا عن أعين ملاحظ ارتبطتا بإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قراره التعجيل بالاعتراف الباطل بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي. أما الأولى فتتعلق باختيار التوقيت والذي يتزامن مع غرق الحليف الإسرائيلي ناتنياهو في فضائح وقضايا الفساد التي توشك ان تدفع به الى المحاكمة وربما إلى السجن ومثله الرئيس الأمريكي الذي يواجه ضغوطات غير خفية بسبب اعترافات مستشاره السابق فيلين بوجود اتصالات مع روسيا خلال الحملة الانتخابية وهي مسألة حساسة في نظر الرأي العام الأمريكي الذي قد يتجه إلى مساءلة رئيسه ومن هنا احتمالات مواجهة الرئيس ترامب ضغوطات من اللوبي الصهيوني والأطراف التي مولت وخططت لحملته الانتخابية ولوصوله إلى سدة الحكم ودفعه بالتالي إلى هذا الاعتراف الذي يوشك أن ينقلب سحره على الساحر أمام حجم الاحتجاجات والمواقف الرافضة لهذا القرار الذي أسقط القناع عن الكثير من الحسابات الخفية المرتبطة بصفقة القرن التي سبق للرئيس الأمريكي الإشادة بها خلال القمة العربية الإسلامية الأمريكية في ماي الماضي قبل أن تتضح ملامحها وتكشف عن مخطط السطو على القدس مقابل أن تكون ابو ديس على مشارف القدس عاصمة للفلسطينيين... لقد ظلت زيارة محمود عباس إلى الرياض في نوفمبر الماضي محاطة بالتكتم والسرية ويبدو ان الرئيس الفلسطيني وجد نفسه أمام خيارات مرة لا يملك معها حتى مصارحة الشعب الفلسطيني بالعرض الابتزازي الذي طرح عليه من اجل السلام والتنازل تلقائيا عن القدس مقابل عاصمة على مشارف المدينة المقدسة ..صحيح أن أبو مازن لاذ بالصمت ولكن ما تم تسريبه يكشف حجم الصفقة أو الصفعة التي تلقاها.. أما الملاحظة الثانية ولا نخالها تقل أهمية عن الأولى فتتعلق بإطار الإعلان عن قرار ترامب وتلك الصورة التي أراد الظهور بها أمام العالم وهو يوقع قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدسالمحتلة وهي صورة تحتاج إلى وقفة مطولة من خبراء تقنية الصور لقراءة ملامحها وإطارها الذي تم الاختيار له بدقة ليظهر الرئيس الأمريكي محاطا بالورود وفي ذروة الاستعداد للاحتفال بأعياد نهاية السنة. ويبدو أن ترامب أصر على هذا المشهد الاستعراضي الغارق في التشفي والتعالي بما يعكس عقلية الكوبوي المتعالية وهو يعلن تقديم هديته للحليف الإسرائيلي التي أعادت للأذهان عقلية اللورد بلفور الذي قدم ما لا يملك لمن لا يستحق... إزاء هذا المشهد وفي غمرة التعاطف الشعبي الرسمي والدولي والتحرك الأممي استنكارا للموقف الأمريكي وجب الإشارة إلى أن كل المظاهر التضامنية المتأججة لن تستمر إلى ما لا نهاية وستغيب عن المشهد شيئا فشيئا وقد لا تحقق القليل أو الكثير باعتبار أن صناع القرار لا يتأثرون غالبا بما يحدث في الشارع والذي قد يرون فيه تنفيسا لمشاعر الاحتقان والإحساس بالغبن وهذا تحديدا ما حدث قبل الحرب على العراق اذ لم تمنع كل المظاهرات التي شهدها العالم الحرب التي لا تزال تداعياتها الخطيرة تحكم المشهد العراقي.. الواقع أن ما شهده العالم من مظاهرات ومسيرات احتجاجية منذ اللحظات الأولى لإعلان الرئيس الأمريكي قراره تكتسي أهمية من حيث رسائل الدعم المعنوي للشعب الفلسطيني الذي لا يكاد يجتاز محنة الا ليقع في اخرى نتيجة التخاذل والتواطؤ. ومن هنا أيضا أهمية التوقف عند قرار الرئيس الأمريكي والاستثمار جديا في مختلف المواقف الدولية الداعمة لحل الدولتين والدفع باتجاه تغير البوصلة الى ما يمكن أن يدفع كل تلك الدول الى المضي قدما في الاعتراف بالدولة الفلسطينية. والأمر هنا لا يتعلق بالدول العربية والإسلامية فتلك مسألة محسومة ولكن بالدول الأوروبية والآسيوية والإفريقية التي يمكن التعويل عليها وكسبها في هذه المرحة.. لسنا واهمين بحجم التحديات القائمة ولا بدهاء الجانب الإسرائيلي الذي يمتلك خيوط اللعبة حتى ان البعض لن يعد يعتبر إسرائيل الولاية الواحدة والخمسين للولايات المتحدة بل العكس بمعنى أن أمريكا اليوم تبدو في موقف التابع للكيان الإسرائيلي الذي يوجه خيارات الإدارة الأمريكية على حساب مصالحه ومقاسه.. ولاشك أن الإعلان عن قرار ترامب قد سبقه تخطيط وتنسيق دقيق للوصول إلى هذه النتيجة التي لا يمكن تجاهل ما تخللها من تنازلات ومن اتفاقات لأطراف عربية قد تكون وقعت في فخ ترامب عندما أوهمها بصفقة تاريخية بنيت على الأوهام.. في انتظار لقاء بروكسيل يستعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين ناتنياهو مطلع الأسبوع القادم للقيام بجولة إلى العاصمة الأوروبية بروكسيل للترويج لقرار الحليف الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدسالمحتلة وإقناع الدول الأوروبية بهذه الخطوة وربما إقناعها بالاقتداء بدورها بموقف واشنطن بما يعني أن المعركة الحاسمة لا تزال في بداياتها وأن مخططات الكيان الإسرائيلي لا تنتهي عند حد كسب الموقف الأمريكي وفي ذلك الحقيقة ما يؤكد دهاء المسؤولين الإسرائيليين ولكن وهذا الأخطر استباقهم للأحداث. وإذا كانت مسؤولة السياسة الخارجية الأمريكية موغريني قد أعربت بوضوح خلال اجتماع وزراء خارجية الحلف الأطلسي هذا الأسبوع في بروكسيل عن موقف الدول الأوروبية الرافض للقرار الأمريكي فان ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال كسب الموقف الأوروبي أو انتصاره نهائيا للقضية الفلسطينية. ذلك أن عقدة الذنب الأوروبية تظل قائمة وناتنياهو أكثر من يدرك هذا الأمر وأكثر من يدرك كيف يمكن التأثير على الموقف الأوروبي وتطويعه حسب أهوائه وبما يخدم المصالح الإسرائيلية.. الواقع أن لقاء بروكسيل الاثنين القادم يحمل في طياته رسالة يتعين على الأطراف الفلسطينية أن تتلقفها وأن تبادر إلى استباق الأحداث ولا تقف في طابور الانتظار. ولاشك أن الطرف الفلسطيني وهو صاحب حق مدعو إلى قراءة المشهد قراءة مختلفة بعيدا عن لغة العاطفة التي لا تنفع والتي لم تمنع سلطات الاحتلال من مواصلة العبث. ولاشك اليوم أيضا أن مختلف الأطراف الفلسطينية تقف في خندق واحد سواء تعلق الأمر بالسلطة الفلسطينية التي تجد نفسها في وضع لا تحسد عليه او بحركات المقاومة التي حادت عن الطريق وأخطأت حساباتها عندما اختارت اللعبة السياسية قبل زوال الاحتلال وقبلت بمنافسة على سلطة وهمية تحت قيد الاحتلال فضاعت السلطة وضاعت المقاومة ودفع الشارع الفلسطيني الثمن غاليا.. لقد اقر الصحفي الأمريكي، توماس فريدمان، وهو المقرب من دائرة القرار الأمريكي ومن أصحاب القرار العرب أيضا أن الرئيس الأمريكي منح إسرائيل ثمنا كبيرا في مقابل أقل القليل، باعترافه بالقدس، عاصمة لإسرائيل أو ما وصفه بفن الهبة بالتخلي عن الكثير في سياساته الخارجية مقابل ثمن بخس وكأنها هبة. فريدمان قال «عملت لما يقارب من 30 عاما من تغطية السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ولم أر في تلك الفترة رئيسا يتخلى عن الكثير في مقابل الزهيد جدا، بدءا من الصين إلى إسرائيل، ففي الصين وإسرائيل، حل الكريسماس، باكرا هذا العام، فالصينيون واليهود على حد سواء يهمسون لأطفالهم «هناك حقا سانتا كلوز، وهو دونالد ترامب». واعتبر أن ما أقدم عليه ترامب كان يجب أن يأتي فقط في أعقاب اتفاق سلام نهائي متفق عليه بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإنهاء كل أشكال الاستيطان في الأماكن التي تتيح قيام حل الدولتين. ولكن هذا لم يحدث وترامب منحهم ما يبتغون مجانا ودون حتى استخدام ذلك للدفع لصفقة إسرائيلية فلسطينية.. لقد كان بإمكان ترامب إعلان نقل السفارة الأمريكية الى القدس الغربية ولكنه لم يفعل.. وكان يمكن ان يربط ذلك بوقف المستوطنات وتحقيق تحول جذري ولكنه لم يفعل واختار الاستفزاز بعرض صورة توقيعه على قرار نقل السفارة. وهو ما يعني في لغة السياسة الأمريكية دفع المنطقة الى مزيد التأجج والفوضى وربما الدخول في مرحلة معقدة تتجاوز مرحلة ظهور تنظيم «داعش» الى ما لا يمكن توقعه حتى الآن .. عجلة التاريخ لا تسير الى الوراء فاما استعادة الحكمة المفقودة والخروج من دائرة الوعي المفقود ومواصلة الاستنفار محليا وإقليميا ودوليا ضد القرار الانتقامي المسقط للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأما تجرع كأس الذل نهائيا, وهذا ما لا نعتقد أن الشعوب المتحركة الحية التي تبقى الأحرص على حماية الأوطان والكرامة يمكن أن تقبل بها... ولاشك انه وبعد تلك الهبة العفوية المشتركة لمختلف الشعوب العربية وغيرها التي خرجت تلقائيا في مختلف أنحاء العالم للتظاهر ضد القرار الذي صدم الرأي العام الدولي فان وقفة متأنية قبل أن يفتر نبع الحماس في النفوس ويزول وقع الصدمة وتتراجع أعداد المتظاهرين باتت مطلوبة... بدائل واقعية بعيدا عن الأوهام ولا شك أن في موقف د احمد قريع وهو الذي رافق أبو عمار في مختلف المحطات التي سبقت أوسلو ما يمكن أن يوجه الرأي العام الفلسطيني والمطالب الفلسطينية حيث اعتبر أنه «قد حان وقت التوجه إلى الهيئة العمومية في المنظمة الدولية، من اجل العمل على رفع عضوية دولة فلسطين من درجة مراقب إلى مقعد العضوية الكاملة، ومطالبة الدول التي تحفظت على، أو عارضت القرار الأمريكي الأخير، بتفعيل مواقفها هذه بصورة ملموسة، بما يعني الاعتراف بالدولة الفلسطينية.» النقطة الثانية وهي نقطة مصيرية فتتعلق بسقوط كل الذرائع التي تمنع الفلسطينيين من الذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، لجر المسؤولين الإسرائيليين إلى قفص العدالة، ومساءلتهم عما اقترفوه من جرائم مروعة على مدى السنوات الطويلة الماضية، بما في ذلك جرائم الاستيطان والإعدامات بدم بارد، وملاحقتهم على جرائم الحرب الوحشية المتكررة على قطاع غزة، خاصة وانه لم يعد أمام الفلسطينيين سوى العصي بعد أن التهم ترامب الجزرات القليلة على حد تعبير قريع.. خيط الأمل المتبقي يظل كامنا في تركيبة جيش الجبارين المرابط على ارض فلسطين وهو الكفيل بإعلان انتفاضته مجددا والخروج على العدو بالسلاح الذي يختاره دون وصاية أو إذن من احد ..إنها تركيبة الفلسطيني الذي استعصى على الإسرائيليين والأمريكيين فهمه وهو الذي ما انفك يرسم أروع الملاحم حتى في أحلك الفترات..