منذ أسابيع، والانتخابات الجزئية بدائرة ألمانيا الانتخابية تشغل الرأي العام في تونس، هذا الانشغال الذي بدا واضحا خاصّة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي «استحوذت» على الدعاية السياسية أكثر من وسائل الإعلام التقليدية قبل إجراء الانتخابات ولكن الجدل لم يخفت حول هذه المحطّة الانتخابية التي تواصل الجدل والسجال حولها حتى بعد أن حسم صندوق الاقتراع النتائج، وكان لأساليب الدعاية غير التقليدية وأبرزها وسائل التواصل الاجتماعي تأثيرها في حسم نتيجة الانتخابات لصالح المدوّن والناشط المدني والسياسي ومرشّح قائمة الأمل بألمانيا، ياسين العياري مقابل هزيمة مدوّية لمرشّح التوافق عن حزب نداء تونس، فيصل الحاج طيّب، أو ل»مرشّح السلطة» كما وصفه البعض. ورغم أن هذه الانتخابات الجزئية تبقى محطّة انتخابية كغيرها من المحطات الانتخابية، غير أن نتائج هذه الانتخابات والجدل الذي أثير حولها وسياقاتها الراهنة وفي علاقة أساسا بمسألة التوافق السياسي بين حزبي النهضة والنداء وفي علاقة بالاستحقاقات الانتخابية القادمة وخاصّة الانتخابات البلدية التي ستُجرى بعد أشهر قليلة، وفي علاقة أيضا بالعزوف الانتخابي الذي كان بارزا في هذه الانتخابات، تُحتّم عدة استنتاجات وقراءات متأنية لمحاولة فهم المشهد الحالي وخلاصاته السياسية. توافق القيادات واختلاف القواعد تم تقديم مرشّح حزب نداء تونس، فيصل الحاج طيّب، كمرشّح توافقي بين النهضة والنداء، بعد أن خيّرت حركة النهضة عدم التقدّم بمرشّح في دائرة ألمانيا، ولكن بعد فوز ياسين العياري لمّحت عدّة شخصيات سياسية الى كون النهضة خذلت نداء تونس، وأن التوافق حول مرشّح ألمانيا كان توافقا مغشوشا، يعكس صيغة التوافق «الصوري» الذي يسود علاقة النهضة بالنداء منذ مدّة، هذا التوافق الذي بدا يسير الى نهاياته خاصّة مع اقتراب موعد الاستحقاقات الانتخابية القادمة، أكّدته نتائج انتخابات ألمانيا، فحركة النهضة لم تشارك في الانتخابات ودعمت المرشّح التوافقي علنا، ولكن حالة العزوف على الانتخابات، وغياب التأييد الفعلي لمرشّح النداء على أرض الواقع بعيدا عن التصريحات والبلاغات، يعكس أمرين لا ثالث لهما، فإمّا أن حركة النهضة لم تلتزم عمليا بدعم المرشّح التوافقي وتركت الأمر للقواعد كما فعلت في 2014 مع رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي وفي كلتا الحالتين تكون مستفيدة. هزيمة مرشّح نداء تونس يخدمها نيابيا من خلال تثبيت قوّتها البرلمانية أمام المشاكل التي تتخبّط فيها كتلة نداء تونس النيابية، كما وأن حركة النهضة اعترفت بذلك أو لم تعترف هناك تقاطع في المواقف وفي وجهات النظر بين عدد من قياداتها البارزة وبين مواقف ووجهات نظر ياسين العياري الذي يطرح نفسه كمرشّح ل»التيار الثوري» وهو التيار الذي ترى حركة النهضة «إحراجا» في معاداته أمام قواعدها. وربما كان لحوار رئيس الجمهورية ومؤسس حزب نداء تونس وراعي «التوافق» مع حركة النهضة، الأخير، مع قناة «فرانس 24»، أثر غير مباشر على نتائج الانتخابات، خاصّة وأن رئيس الجمهورية طرح مجدّدا مسألة «مدنية حركة النهضة» وطالبها بالمزيد من «الجهد» لإثبات «مدنيتها» وهذا الطرح بات يستفّز قواعد الحركة خاصّة رغم محاولة القيادات النأي بنفسها على الخوض في جدال لإثبات «مدنية حركة النهضة» وهي مسألة بات يكررها باستمرار قائد السبسي، رغم التوضيحات التي تليها سواء من النداء أو النهضة ولكن جل المتابعين للشأن العام يؤكدون أن هذا الطرح قد ينسف العلاقة بين الطرفين. والأمر الثاني الذي أدّى إلى هزيمة مرشّح حزب النداء هو أن قواعد حركة النهضة لم تعد ملتزمة ب»التوافق» كصيغة حكم وصيغة انتخاب، وإشارة صريحة لقيادات الحركة بأن التوافق بينها وبين نداء تونس «وصفة مسكّن انتهى مفعولها» وحالة سياسية باتت «مستفزّة» و»غير مريحة» للطرفين بل والى نوع من «العبث» غير المنطقي، فجلّ قواعد النهضة ترى اليوم أنه من مصلحة النهضة السياسية والانتخابية أن تفكّ الارتباط مع النداء حتى لا تتحمّل اخفاقات الحزب الحاكم في الانتخابات القادمة رغم أن حركة النهضة شريك في الحكم ولكن شريك سعى قدر استطاعته ان ينأى بنفسه عن اخفاقات مرحلة الحكم الراهنة . هل فقدت الأحزاب جاذبيتها؟ عقب فوزه بانتخابات دائرة ألمانيا وضمانه لمقعد نيابي بمجلس نواب الشعب، اعتبر ياسين العياري انه يؤمن بأن العمل السياسي «يبدأ بالانتخابات» ووعد ناخبيه أنهم «سيرون نائبا يفخرون به تحت قبّة المجلس» الاّ أن فوز مرشّح مستقل والإقبال الضعيف على هذه الانتخابات، دلّ بصفة مباشرة على ضعف الخطاب السياسي للأحزاب وأكّد أن هذا الخطاب لم يعد مقنعا ولم يعد يجذب الناخبين. وان يكن فوز ياسين العياري، فوزا مفاجئا رغم ثقل المنافسين وأبرزهم مرشّحا حزبي النهضة والنداء بالإضافة إلى مرشّح حزب التيار الديمقراطي، حيث أبرزت كل استطلاعات الرأي التي تقدّمت الموعد الانتخابي أن نوايا التصويت في الانتخابات الجزئية تتجه في مجملها نحو «قائمة الأمل» التي يقودها ياسين العياري كما عبّرت عدّة أحزاب محسوبة على المعارضة مثل حراك تونس الإرادة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب البناء الوطني الذين دعوا صراحة الجالية التونسيةبألمانيا للتصويت لصالح ياسين العياري. خلال حملته الانتخابية طرح ياسين العياري نفسه كبديل شبابي –ثوري لمنظومة حكم قال أنها حادت عن أهداف الثورة واستحقاقاتها وهمّشت الشباب وأقصتهم من دوائر صنع القرار، وهذا «الخطاب الثوري» لمرشّح عُرف في البداية كمدوّن وبعد ذلك كان لاستشهاد والده العقيد بالجيش التونسي الطاهر العياري في أوّل عملية إرهابية شهدتها تونس بعد الثورة وذلك بمنطقة الروحية من ولاية سليانة في 18 ماي 2011، أثر مباشر في التعريف أكثر بياسين العياري الذي عُرف بنشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي، أين كان يعبّر عن مواقفه السياسية التي لم تكن تخلو من التهجّم على الأحزاب الحاكمة وخاصّة حزب نداء تونس كما عرف عن ياسين العياري انتقادات لاذعة لمؤسسات الدولة بعد الثورة وأبرزها المؤسسة العسكرية رغم أنها تحظى بثقة شعبية كبيرة ورغم أن والده كان أحد رموزها الاّ أن ذلك لم يمنعه من نقدها، وقادته تدويناته إلى الحكم عليه ب8 أشهر سجنا نافذة في 2015 وذلك بتهمة التعدي على مسؤولين بالمؤسسة العسكرية. وأشاد عدد هام من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي وخاصّة من الشباب باقتران فوز العياري بالتاريخ الرمز،17 ديسمبر، ذكرى اندلاع شرارة الثورة بسيدي بوزيد، واعتبروا أن فوز ياسين العياري هو «إثبات كون النفس الثوري لدى الشباب لم يندثر» وأن «الأحزاب باتت بعيدة عن الشارع وعن مشاغل التونسيين وأن هذه الأحزاب خذلت أهداف الثورة.» انتخابات ألمانيا.. الاختبار !؟ يُجمع جلّ المتتبعين للمشهد السياسي، ان الانتخابات الجزئية بدائرة ألمانيا الانتخابية قد تكون اختبارا حقيقيا قبل اختبار الانتخابات البلدية القادمة بعد أشهر وأن الأحزاب مطالبة اليوم سواء كانت في الحكم أو المعارضة بمراجعة حساباتها و»انعاش» علاقتها بالناخبين، هذه العلاقة التي بدت فاترة في انتخابات ألمانيا. وكانت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أعلنت فوز ياسين العياري، مرشح قائمة الأمل المستقلة، بالمقعد الوحيد للانتخابات التشريعية الجزئية لدائرة ألمانيا بحصوله على 265 صوتا متقدّما على مرشّح «نداء تونس» فيصل حاج طيّب، الذي حصل على 246 صوتا. كما أفادت الهيئة في بلاغ لها، أن عدد الناخبين الذين شاركوا في عملية الاقتراع بألمانيا بلغ 1325 ناخبا أي ما يعادل 5.02 بالمائة من جملة الناخبين وهو ما يسجّل حالة عزوف كبيرة وغير مسبقة قد تكون مؤشرا سلبيا لاستمرار حالة العزوف في الاستحقاقات القادمة، خاصّة وأن بعض السياسيين أرجع النتيجة الانتخابية المسجّلة لحالة العزوف التي شابت انتخابات ألمانيا. رغم أن عزوف الناخبين نتيجة متوقّعة بالنظر الى عجز الأحزاب الحاكمة عن تجاوز الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بالإضافة الى أن قيادات مؤثّرة في هذه الأحزاب فقد مصداقيتها أمام الناخبين، بسبب اخلافها للوعود الانتخابية التي قطعتها على نفسها في 2014 أو بسبب المشهد السياسي الموسوم بالخلافات وبشبهات الفساد وبغياب شخصيات لها قدرة على القيادة والتأثير وتوجيه الرأي العام. ◗ منية العرفاوي ردود أفعال رصدت "الصباح" من خلال هذه التصريحات أبرز ردود الأفعال السياسية والحزبية على فوز ياسين العياري بمقعد نيابي عن دائرة ألمانيا الانتخابية: جميل المثلوثي/مرشح التيار الديمقراطي في دائرة ألمانيا: «ممارسات التجمع المنحل لازالت تطبع عقلية من أعاد إنتاج نفسه في هذه الأحزاب». غازي الشواشي / الأمين العام للتيار الديمقراطي: «فوز ياسين العياري صفعة للحزبين الحاكمين النهضة والنداء وعقابا لأدائهما الهزيل.» محمد المنصف المرزوقي/ رئيس الجمهورية السابق: «انتصار ياسين العياري في يوم 17 ديسمبر انتصار لكل أنصار الثورة.» سهيل العلويني /كتلة الحرّة حزب مشروع تونس: «الطبقة السياسية بكل اطيافها فشلت فشلا ذريعا في هذا الامتحان الانتخابي الجزئي». محسن مرزوق/ الأمين العام لحزب مشروع تونس: «ياسين العياري هو المرشح الحقيقي للنهضة» ! يوسف الجويني / حزب نداء تونس «لو قام النداء بترشيح عبد الرؤوف الخماسي لكان الفوز حليف النداء». هاجر بالشيخ /النائبة عن حركة أفاق تونس: «مقاطعة التونسيين لانتخابات ألمانيا أفرزت صعود المتطرفين.. وياسين العياري ليس مستقلا ونحن نعرف توجهاته ومن يسانده سياسيا». عماد الخميري / الناطق باسم حركة النهضة: «الحركة لم تشارك في هذه الانتخابات وإنما دعمت المرشح التوافقي الذي اجتمعت عديد العوامل في عدم نجاحه».